أهازيج الملاعب: حناجر توقظ أحلام التغيير المنسية

أهازيج الملاعب: حناجر توقظ أحلام التغيير المنسية


12/12/2018

بكثير من الصّدق والعفويّة والحرارة تخرج بعض الأهازيج الرياضية في مدرّجات التشجيع بملاعب كرة القدم، متمرّدة على سياقها ومقامها، ضاربة عرض الحائط بمقولة "لكلّ مقام مقال". فإذا كان المقام رياضياً فيه من الحماسة والمتعة ما فيه، فإنّ حناجر الشباب قد غادرت المستطيل الأخضر في أكثر من مناسبة لتهاجم كراسيّ السلطة وتقتحم البرلمانات والوزارات والقصور الرئاسية بقدر عال من الجرأة والصراحة، تعبيراً عن أنّ للرّياضة هوامشها الّتي تتجاوز جدران الملعب، فتطال ما هو سياسي واجتماعي باندفاع طالب يقود مظاهرة في مسيرة من المسيرات.

أكثر من مرة.. في أكثر من بلد

حدث هذا في المغرب وتونس والجزائر وربما حدث في بلدان أخرى. فقد انتشر منذ أيام فيديو لجماهير فريق الرجاء البيضاوي المغربي تلقّفته وسائل التواصل الاجتماعي وبلغ صداه المحطات الفضائية التي ناقشته وحللت مضامينه بإعجاب. لم يكن الفيديو مؤثّراً بما تضمنه من حماسة ممزوجة بالحزن فحسب وإنما بما تضمنه من وعي سياسي واجتماعي كبير عبرت عنه فئة الشباب العربي المعاصر بما هي الفئة الأكثر إقبالاً على مباريات كرة القدم، وهو وعي ينسف كل التصورات الجاهزة عن الشباب المعاصر الذي يوصف غالباً بأن منسوب الثقافة لديه ضعيف، وبأنه مغيب عن الفعل السياسي أو معرض عنه، وبأنه غير واع بما يدور حوله من متغيرات سياسية واجتماعية ألهته عنها عوامل كثيرة على رأسها كرة القدم.

 

 

السّلطة السياسية في قفص الاتهام

أغنية "في بلادي ظلموني" ركّزت على تهميش الشباب من قبل أياد ملطخة بالمتاجرة بالمخدرات لإلهائه عن قضاياه الحقيقية، ووصفت حالة الضياع بصورة بليغة مؤثرة "كاليتامى"، شاكية الإهمال المقصود للمواهب الحقيقية في صفوف الشباب وقمعها وتبديد آمالها وقتل ما يعتريها من حماس. أما المخاطَب (السلطة) فقد وجهت إليه الأغنية تهماً كثيرة أهمها الاستحواذ على الثروات وصرفها في مآرب مخالفة لانتظارات الشباب، وضمنت تنديداً بتلك الإجراءات التي تتّخذ عادة لمعاقبة الجماهير من أجل الشماريخ في الملعب مثل السجن وإجراء المباريات دون جمهور وغيرها.

اقرأ أيضاً: الرياضة بين التسييس والقرصنة!

وفي الأغنية اعتذار مُرّ للعائلة بأنّ الكأس فاض ففاضت معه الكلمات، والتماس لتفهم الوضعية التي يعيشها الشباب، والتماس عدم التفرقة بين جماهير الرّجاء البيضاوي وفريقها الذي يعدّ المواسي الوحيد لها كما تقول كلمات الأغنية.

فلسطين.. قضية القضايا

وفي تونس، اشتهرت أغنية صدرت مطلع العام الجاري بإمضاء جماهير جمعية الترجي الرياضي التونسي، فيها مناصرة حزينة للقضية الفلسطينية وتنديد بزمن الخيانة لدى الحكام الذين باعوها بالمال والسلطة.

باحث في علم الاجتماع: الرقابة تتشتت داخل الجماهير، وبالتالي تضعف المسؤولية الفردية وتعوّض الحماسة الجماعية التردّد الفردي

كانت الأغنية ردّة فعل قوية على التّضييقات والشّروط الأمنية المجحفة على لقاء ودّي كان فريق الترجي الرياضي التونسي سيستضيف فيه ترجّي وادي النّيص الفلسطيني بملعب رادس في 13 كانون الثاني (يناير) 2018. غير أن حملة التّضييق التي اشترطت إلغاء "دخلة" (حفل البداية) المقابلة الّتي أعدّت بصفة خاصّة، وتقليص العدد المسموح به للجماهير، وتأجيل اللقاء أكثر من مرة، دفع إدارة النادي إلى إلغاء المقابلة والاكتفاء بتكريم عناصر الفريق الفلسطيني الضيف، لتخرج الأغنية ساخطة منددة، مجددة دعمها للقضية الفلسطينية وتضامنها مع الفلسطينيين.

قصر المرادية والعهدة الخامسة!

أما في الجزائر فقد أبدت مجموعة "أولاد البهجة" من جماهير اتحاد العاصمة الجزائري رفضها لما بات يعرف في الجزائر بـ"العهدة الخامسة" للرئيس عبد العزيز بوتفليقة. وفي الأغنية تعبير عن السأم والملل من السلطة الحاليّة، وتأكيد على ما يتمتع به الشباب العربي المعاصر من وعي بالتاريخ والسياسة، كما أنّ فيها تعبيراً عن وعي عميق بالأزمات الحقيقية وبكواليس اللعبة السياسية منذ تسعينات القرن الماضي (العشرية السوداء) وما تلاها من تسويات، وصولاً إلى المرحلة الحالية.

 اشتهرت أغنية مناصرة للقضية الفلسطينية بتونس رداً على تضييقات لقاء الترجي التونسي وترجّي وادي النّيص الفلسطيني

وفي أغنية أخرى بعنوان "قصر المرادية" (القصر الرئاسي في الجزائر) تنقل المجموعة تجربة الشباب المريرة مع المخدرات، وملل العيش في وضعية البؤس الراهنة، في ظل الفساد والرشوة ولوبيات السياسة التي لا شيء يعنيها سوى المصالح الشخصية.

الصرخة الاجتماعية الحرّة.. وسياسة النعامة!

ولتعميق فهم هذه الظاهرة وتناقضاتها أصغت "حفريات" إلى متخصصين في علم الاجتماع، إذ يرى الباحث المغربي في علم الاجتماع عبدالرحيم السعيدي أنّ هذه الأغاني والأهازيج هي "صرخة حرة تلقائية. ورغم ما تحمله من رسائل سياسية تبقى عفوية وغير مؤطرة سياسياً، ولم تتبنها أي جهة سياسية".

اقرأ أيضاً: ما العلاقة بين ممارسة الرياضة ومرض الخرف؟

ويتابع السعيدي، في تصريح لموقع "حفريات"، أنّ هذه الأهازيج إنما "خرجت من رحم المعاناة التي يحس بها أبناء جلدتنا، خصوصاً أن الجماهير ترددها داخل الملاعب، لذا أعتبرها صرخة اجتماعية تعكس عن مطالب الشعوب ولا يمكننا إلا أن نباركها".

ويرى السعيدي أنّ الوعي الجماهيري قد نما بفضل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. ورغم ما تحمله هذه الأغاني من مضامين سياسية، فإنّ دورها ينحصر فقط في امتصاص الغضب، فـ "هناك وعي جماعي لدى غالبية الشعوب، وخصوصاً بعدما ظهرت مواقع التواصل الاجتماعي. وإذا قمنا بجرد كل تلك الأهازيج الشعبية نرى أنها تخرج من رحم الشعب، وربما تعتبر مطالب سياسية، ولكن لعفويتها وطريقة غنائها تمتص فقط غضب الشعب. وتحاول تلك الجماهير إفراغ ما في جعبتها، وهي بذلك صادقة. ونتمنى أن تلتفت الحكومات العربية إلى شعوبها بدل ممارسة سياسة النعامة".

اليحياوي يرى أنّ الملعب يمثّل فضاء سياسياً بامتياز فالشعارات قد تتجاوز الرياضي لتمرير رسائل سياسية

تمرّد منفلت من سلطة الرّقابة والبوليس

أما الباحث التونسي في علم الاجتماعي شهاب اليحياوي، فيرى أنّ "الملعب يمثّل فضاء سياسياً بامتياز. فالشعارات التي تتجاوز الرياضي، أو توظف ما هو رياضي لتمرير رسائل سياسية، أو خطاب رفض ونقد للسياسة، أو لتعاطي النظام الحاكم مع المسائل الحياتية والمعيشية بالشكل غير المقبول شعبياً".

الأهازيج المغلّفة بالسياسي دليل قاطع على أنّ الشباب العربي المعاصر فنان مبدع لم تنطفئ في داخله جذوة الحياة والأحلام

ويوضح اليحياوي، في تصريح لـ "حفريات"، أنّ "الرقابة تتشتت داخل الجماهير، وبالتالي تضعف المسؤولية الفردية، وتعوّض الحماسة الجماعية التردّد الفردي. في هذا السياق يجد الوجدان السياسي الشعبي متنفّساً وهروباً من رقابة الخوف والتخوّف اليومي من الرقابة والمحاسبة، فيتخّذ من الأهازيج قناة بثّ رسائل سياسية، وتحدٍّ لسلطة الدولة، ولتسلّط النظام القمعي".

ويضيف اليحياوي أنّ "الملعب يوفّر هذه الفرص للتحدّي والتمرّد المنفلت من صرامة الرقابة الأمنية والبوليسية، وبالتالي تتسرّب السياسة عبر الرياضي في توظيف لهامش التحرّر، وليس الحرية التي يوفّرها هذا المجال".

الرياضة أفيون الشعوب؟

أما عن الفكرة التقليدية التي تستعير قول ماركس عن الدين فتجعل الرياضة أفيوناً للشعوب بدل الدين، فإنّ اليحياوي ينسبها ويحد من مصداقيتها في ظل ما هو موجود، فيؤكد أنه "لا يستقيم التسليم المطلق بهذه الفكرة، فليست الرياضة دائماً تلهية، بل قد تكون مجالاً لترسيخ قيم ومفاهيم تقوّي الرباط الاجتماعي للفرد بالجماعة ومنه بالجماعة الكلية التي هي المجتمع. ثم إنّ المشهدية التي يخلقها اللقاء الرياضي على مستوى تفاعل الجماهير ومضامين أهازيجها تشكّل نصاً سوسيولوجياً بامتياز تقرأ منه تصورات الفئات المهمشّة والضعيفة وتمثلاتها لموقعها أو مكانتها الاجتماعية. وتمثّل الشعارات والتصاوير والرسوم نصاً سيميولوجياً معطى للتأويل لبلوغ الدلالات العميقة والرسائل التي تبثّها".

 

 

 

واقع الشباب العربي الراهن معقّد

يبدو الشباب العربي اليوم في حد ذاته ظاهرة منفلتة عن التحديد والدّرس من جهة أنه يقلب تصوراتنا عن الأشياء: ففيما نظنه نحن شباباً تائهاً تافهاً بلا معرفة ولا ثقافة... يصدمنا هو بدرجات كبيرة من الوعي والثقافة العالية والمسؤولية تغير حكمنا عنه، وتدفعنا إلى التفكير بأكثر عمق لفهمه.

اقرأ أيضاً: جرح طائفي في خاصرة الرياضة المصرية

من هذا المنطلق يرى اليحياوي أنّ "المسألة ترتهن إلى نوعية المقاربة أو مدخل دراسة واقع الشباب. هناك من يعتبر نمط حياة الشاب المنفلت، أو الباحث عن الانفلات من النمطية والمتمرّدة على السائد والمتداول، يندرج في خانة الانحراف والفساد والضياع، في حين تقرأ مداخل أخرى نمط حياة وتصرف الشباب كتعبيرات عن الإحساس بالتهميش واللامرئية الاجتماعية أحياناً، وأنّ تمرّده هو تحدٍّ لسلطة الرقابة بأنواعها الاجتماعية والسياسية، التي لم تنجح في فهمه من وجهة نظره".

هل من مصغ؟

تبقى هذه الأهازيج المغلّفة بالسياسي دليلاً قاطعاً على أنّ الشباب العربي المعاصر فنان مبدع لم تنطفئ في داخله جذوة الحياة والأحلام، رغم ما يعانيه من فقر وتهميش وغبن وإقصاء، لا شيء أدل على ذلك من هذه الصرخات التي تطلقها الحناجر من حين إلى آخر: أطلقوا سراحنا تَرَوا منّا العجب العجاب! فهل من مصغٍ؟!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية