الإسلام السياسي التقليدي والديمقراطي وإشكالية الحريات

الإسلام السياسي التقليدي والديمقراطي وإشكالية الحريات


04/03/2021

أنشأت الدول العربية والإسلامية ومعها، مستقلاً عنها، أو شريكاً لها الجماعات والتيارات الإسلامية الإصلاحية التقليدية، منظومةً من الأفكار والتطبيقات السلمية والمعاصرة، التي تسعى إلى التوفيق بين النظام السياسي الإسلامي؛ باعتباره ديناً أو حقاً نزل من السماء وبين الدولة والأنظمة السياسية الحديثة والمعاصرة، ومنها الانتخابات والديمقراطية، بما تقتضي بطبيعة الحال بناء النظام السياسي على فكرة حرية الإنسان في اختياراته وولايته على مصيره.

اقرأ أيضاً: الإسلام السياسي.. وتمثيلات خطاب الهوية

وقد بدأت هذه الاتجاهات والمبادرات في القرن التاسع عشر؛ باعتبارها عمليات ومحاولات لإصلاح الخلافة والسلطة، التي كانت امتداداً للقرون الوسطى، وتقوم على الحقّ الإلهي والغلبة، لأجل استيعاب الاتجاهات السياسية والفلسفية الجديدة في تنظيم الدول والمجتمعات؛ مثل الدستور، وفصل السلطات، وبناء المؤسسات العامة للتعليم والرعاية، واستعادة أو اقتباس الاتجاهات العقلانية في فهم النصوص وتأويلها، ومن رواد هذه المرحلة: رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وخير الدين التونسي.

إنّ ما تقوم به الأنظمة في مواجهة التطرف لا يختلف عن الانشغال بإطفاء الحرائق من دون وقف مصدر اشتعالها

ثم نشأ عنها، أو استقلت عنها، جماعات ومبادرات بررت وجودها ونشأتها باستعادة أو استئناف الخلافة الإسلامية، بعد إنهائها في إسطنبول عام 1924، ومن أمثلة هذا الاتجاه: رشيد رضا، وشكيب أرسلان، ومحب الدين الخطيب، وجماعة الإخوان المسلمين، التي أسّسها حسن البنا عام 1928، وقدّمت هدفها بوضوح في استئناف الخلافة ونهضة الأمة الإسلامية.

ورغم أنها اتجاهات وأفكار تشارك الخطاب الليبرالي، الذي ساد في العالم، ومنه العالم العربي والإسلامي، واستطاعت الاتجاهات هذه العمل والعيش معاً رغم التناقض فيما بينها، ورغم أنّ الخطاب الإصلاحي التقليدي، إن صحّت التسمية، يتضمن اتجاهات وأفكاراً مختلفة ومتباينة، لكن يمكن ملاحظة أنها اتجاهات وجهود كانت تركز على النهضة والتقدم أو الإصلاح، أكثر من انشغالها بالعلاقة بين الدين والحريات والدولة.

ومن روّاد وأصحاب هذا الاتجاه: سيد قطب في المرحلة السابقة لعام 1954، والتي يعبّر عنها كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام"، ومصطفى السباعي "اشتراكية الإسلام"، وحسن الهضيبي "دعاة لا قضاة"، ومالك بن نبي، خاصة كتابه "شروط النهضة"، وسيد دسوقي "البعث الحضاري"، وإسماعيل الفاروقي "إسلامية المعرفة"، ورحيل غرايبة "الحقوق والحريات"، و"في الشريعة الإسلامية وأحكام الجنسية والمواطنة".

اقرأ أيضاً: الشعبوية ويمين الإسلام السياسي

وهناك أيضاً؛ اتجاه تطبيق الشريعة الإسلامية، والدور الديني للدولة، وهي عمليات لم تدرس بعد دراسة كافية، ولم تلاحظ بعد محاولات التأريخ والتحليل للحالة الدينية أثر عمليات تطبيق الشريعة وإحلالها في القوانين والتشريعات والمؤسسات والحياة اليومية، والدور الديني الواسع للدولة الحديثة، ولعلّه دور غير مسبوق في التاريخ الإسلامي؛ حيث أنشأت الدول الحديثة وزارات ومؤسسات قائمة على الشأن الديني وكليات علمية في الجامعات لتدريس العلوم الدينية، وتقديم البحوث والدراسات، وكذلك العدد الكبير من رسائل الماجستير والدكتوراه، لقد ساهمت السلطات السياسية في إنشاء وتطوير خطاب إسلامي وحالة دينية مؤثرة، ولعلّها أكبر وأهم مصدر في تشكيل الظاهرة الدينية القائمة اليوم، بما في ذلك الحالة المتمردة والمناوئة للسلطات السياسية.

تبدأ مواجهة التطرف بتفكيك شبكة عميقة مؤسسية وتعليمية واقتصادية ترعاها الدول والمجتمعات والشركات قائمة على "الأسلمة"

وطوّر الاتجاه الإسلامي السياسي في جماعة الإخوان المسلمين والجماعات المناظرة للإخوان، في تركيا والقارة الهندية وشرق آسيا، نموذجاً ديمقراطياً، يعبّر عنه بوضوح في عالم العرب؛ راشد الغنوشي، في كتابه "الحريات العامة في الدولة الإسلامية"، وفي تجربة حزب النهضة؛ الذي أسسه ويرأسه الغنوشي في تونس، وحسن الترابي في كتابه "السياسة والحكم بين الأصول والواقع"، إضافة إلى التجربة السياسية الواقعية للإخوان المسلمين، ثم الجبهة الإسلامية في السودان، برئاسة الترابي، وتجربة الإخوان المسلمين في المغرب "العدالة والتنمية"، وحزب "العدالة والتنمية" في تركيا، إضافة إلى مشاركات سياسية عديدة للإسلام السياسي؛ في مصر والأردن وباكستان وأندونيسيا وماليزيا والكويت، ...إلخ.

لكن، ومهما جادل أصحاب هذه الاتجاهات والأفكار دفاعاً عن سلميتها؛ فقد نشأت في حضنها، ومن تحت عباءتها، حالة دينية مشحونة بالعنف والكراهية، والصراع الأهلي والدولي المسلح والطاحن، كما حدث في مصر منذ منتصف السبعينيات، وفي الجزائر طوال عقد التسعينيات، وفي العراق وسوريا وأفغانستان وليبيا واليمن وإيران وطاجيكستان، وفي عمليات القتل والتفجير والاعتداءات والمنتمية إلى اتجاهات ومشاعر وتنظيمات إسلامية، والتي تحدث في أنحاء واسعة في العالم.

اقرأ أيضاً: محمد الحداد: مشروع الإسلام السياسي هو اللّادولة والفوضى الاجتماعية

تمثل حالة التطرف والكراهية، والعنف، والفوضى، والصراعات الدينية والأهلية الطاحنة اليوم، والتي تجتاح عالم العرب والمسلمين، طريقاً مسدوداً، وأزمة عميقة للخطاب السياسي الإسلامي، وتحديات قد تعصف به، أو تجعله يعيد صياغة نفسه صياغة جديدة، مختلفة جذرياً عمّا كان عليه الحال منذ أوائل القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين، فمن الواضح أنها أزمة لا يمكن مواجهتها إلا بسلسلة من المراجعات الشاملة في الخطاب الديني نفسه، وفي تطبيقاته، كما في المنظومة الاجتماعية والاقتصادية التي أنشأت وشكلت هذا الخطاب، والتي هي أيضاً تواجه تحديات النهاية والتحولات.

هل يمكن بناء خطاب قائم على الحرية، وفي الوقت نفسه ينسجم مع الدين، ويلبي التطلعات الدينية والروحية؟

المخرج والحلول.. الحرية مخرج للصراع

تبدأ مواجهة التطرف بتفكيك شبكة عميقة مؤسسية وتعليمية واقتصادية، ترعاها الدول والمجتمعات والشركات، قائمة على "الأسلمة"، وقد تشكلت متوالية هائلة ومعقدة من المؤسسات والكليات والمناهج التعليمية والأسواق والبنوك والشركات، ولم يعد ممكناً وقف هذا التطرف المتنامي، إلا بالعودة إلى مبدأ "الأسلمة"، التي اشتعلت في العالم العربي والإسلامي؛ ذلك أنّ ما تقوم به الأنظمة في مواجهة التطرف لا يختلف عن الانشغال بإطفاء الحرائق من دون وقف مصدر اشتعالها، وذلك كخزان هائل يتدفّق منه الوقود، فيزيد الحرائق اشتعالاً، وينشئ حرائق جديدة بلا توقف، وسيظلّ ما تفعله السلطات والمجتمعات في مواجهة التطرف مهمة سيزيفية أبدية ومستحيلة.

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية