"نهج الدبّاغين".. سوق شعبيّة لبيع الكتب القديمة والممنوعة في تونس

تونس

"نهج الدبّاغين".. سوق شعبيّة لبيع الكتب القديمة والممنوعة في تونس


17/12/2018

لم تعد المكتبات الخاصّة والعموميّة، وحدها تحفظ الكتب والمجلّدات، والمجلاّت، فقد قفزت معظمها من رفوف هذه المكتبات، إلى أرصفة الشوارع التي عجّ بعضها بطاولات العرض، وأصبح بعضها الآخر معرضاً مفتوحاً للكتب.
وقد يكون "نهج الدبّاغين" بتونس أبرز مثالٍ على ذلك، بعد أن تحوّل من زقاقٍ ضيّقٍ يقع بين المدينة العتيقة، والحي الأوروبي الحديث وسط العاصمة تونس، إلى أشهر سوقٍ شعبيّةٍ لبيع الكتب القديمة، والمجلاّت، والمطبوعات، النادرة التي منعها نظام بن علي السابق، وأصبح معرِضاً دائماً تزوره النُّخبة الفكريّة وأشهر ضيوف الثقافة من العرب والأجانب.

اقرأ أيضاً: حين يصير العالم مكتبة كبيرة جداً: لماذا نقرأ؟
سوقٌ تعتمد على الكتب التي تجمع بين الثمن الزهيد والندرة في الوقت نفسه، يبيعها أصحابها بعد الانتفاع بها، أو يشتريها التجّار من ورثة الكتّاب والأدباء، وغالباً ما تعلو الصفحات الأولى لبعضها خربشاتٌ، وملاحظاتٌ، وإهداءاتٌ مكتوبة بخط أيدي الناشرين، تذكر فيها أسماء الأصدقاء والطلبة وحتى الـ"الرفاق".
باعة بين آلاف الكتب
حال دخولك إلى هذا "النّهج" (الشارع) يشدّك وقوف الباعة بين آلاف الكتب المتراصّة على طاولاتٍ منتشرةٍ على طول الرّصيف، وأخرى على عتبات الشقق القديمة المفتوحة على الشارع، يجعلون بعضها خارج الباب للفت انتباه المارّة إلى وجود كتبٍ، وتطالعك العناوين في مختلف حقول الفكر، والأدب، والنقد، والدين، والتراث، والفن، فضلاً عن الكتب الفلسفية، والأدبية، والنقدية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، وكتبٌ عن المسرح، والفن التشكيلي، والسينما، وفنون الطبخ، والأزياء، وتعليم اللغة الأجنبية، وغيرها.

اقرأ أيضاً: الفتور القرائي.. وحدة الكتب وحيرة الأدباء
وفي ركنٍ صغيرٍ منزوٍ، يقف معمّر البوعزيزي (86 عاماً) ينحدر من محافظة سيدي بوزيد، ملهمة الثورة التونسية (وسط غرب تونس)، وسط كتبه التي بات لون البعض منها مائلاً للاصفرار لقدمها، يتأمّلها، كما يتأمّل آخر آماله في الحياة، قائلاً: "هذه الكتب القديمة أصبحت جزءاً منّي، لا أستطيع التخلّي عنها، والتفكير في أيّ مهنةٍ أخرى بعيداً عنها".

معمّر البوعزيزي
يقول البوعزيزي، الذي قدم إلى العاصمة من أجل بيع الكتب منذ ستةٍ وعشرين عاماً، أنّه لا يفارق كتبه، وأنّه يضع، قبل نومه، كتاباً على يمينه وآخر على شماله، حتّى يستقبله كتاب حال استيقاظه، فيطالع منه ما تيسّر قبل مغادرة  فراشه، وذلك رغم ضعف نظره بحكم تقدّمه في السنّ.
ويضيف البوعزيزي لـ"حفريات"، وعيناه تجولان بين الكتب، أنّه خبِر الكتب التي يشتريها التونسيون، من غيرها التي لا يُقبلون على شرائها، وأصبح يعرف جيّداً، البضاعة التي يجب عليه أن يقتنيها، من أجل بيعها في "الدبّاغين".

اقرأ أيضاً: مبدعون كتبوا روائعهم بين جدران المعتقلات
ورغم الدراسات التي تشير إلى تراجع مؤشّر القراءة لدى التونسيين، فإنّ البوعزيزي يؤكّد أنّه يبيع يومياً ما لا يقلّ عن أربعين كتاباً، وهذا الرقم يرتفع في بداية كلّ عامٍ دراسي.
"حليب الغولة" موجودٌ في "نهج الدبّاغين"
وكان "نهج الدبّاغين" في العقود السابقة سوقاً لبيع الجلود ودبغها وصباغتها، لكن بطريقةٍ ما هزمت الكتب الدباغة، وتحوّلت أشهر أسواق الدباغة في العاصمة تونس إلى ملتقى للمثقفين وبيع الكتب المستعملة والحديثة، وذلك بعد نقل الدبّاغين خارج المدينة.
هذه السوق أصبحت، شيئاً فشيئاً، متنفساً للقرّاء الهاربين من غلاء أسعار الكتب الجديدة أو البحث عن كتبٍ نادرةٍ؛ حيث يؤكّد في هذا السياق جمال أحمد (63 عاماً) في حديثه لـ"حفريات"، أنّه يمرّ عليها يومياً قبل عودته إلى المنزل ليطّلع على الكتب الموجودة علّه يظفر بكتابٍ نادرٍ، كما تعوّد دائماً.

البائع معمّر البوعزيزي: هذه الكتب القديمة أصبحت جزءاً منّي. أما البائع عادل فيؤكد: سلطات النظام السابق صادرت كتبي

يقول أحمد: "أعتبر هذه السوق متحفاً ثميناً من حيث قيمة الكتب وندرتها"، لافتاً إلى أنّ أسعارها مناسبةٌ، وأقلّ بكثيرٍ من أسعار الكتب في المكتبات.
ويثمّن أحمد، وجود كلّ أنواع الكتب والبحوث العلميّة والمجلاّت الثقافيّة، ويضيف مازحاً: "حليب الغولة" (مَثَل تونسي كنايةً عن كلّ شيء مستحيل) تجده هنا دون عناء البحث".
وحسب روّاد السوق فإنّه يسهل وجود كتاب من الكتب التي يُصنّفها النظام السابق، ضمن خانة الكتب الممنوعة التي تحتاج إلى مراقبة لمنع بيعها ومعاقبة أصحابها سواء كانت دينيةً أم سياسيةً، فضلاً عن الكتب ذات الأيديولوجيا الماركسية أو الكتب الأدبية التي فيها نقد خفيّ للنظام، وحُرم منها التونسيون لعقودٍ.

اقرأ أيضاً: ما نعشقه بالكتب نخشاه بالواقع.. آثار مختلفة للقراءة
ويضيف في هذا الشأن، الشاعر التونسي عبد الفتّاح بن حمّودة، الذي اعتاد التردّد إلى "نهج الدبّاغين"، أنّ هذه السوق كانت دائماً ملاذاً له ولكثيرٍ من القرّاء "لاقتناص" رواياتٍ وأعمالٍ شعريّةٍ ونقديةٍ تكون عادةً باهظة الثمن في المكتبات الخاصة.

الشاعر التونسي عبد الفتّاح بن حمّودة

ويؤكّد عبد الفتّاح في تصريحه لـ"حفريات" أنّه عندما يريد البحث عن كتب مختلفة وبأثمان في المتناول، لا يجدها إلاّ في الدبّاغين، غير أنّه يلاحظ تراجع الإقبال على سوق الكتاب، مرجّحاً أن تكون المحامل الإلكترونية قد عوّضت جزءاً كبيراً مما يبحث عنه القرّاء والباحثون، خاصّة أنّه صار بإمكانهم تحميل مئات الكتب في أجهزة "الكمبيوتر" وحفظها.

من هم روّاد "نهج الدبّاغين"؟
يؤكّد جلّ من حاورتهم "حفريات" أنّ أغلب روّاد هذه السوق هم محبّو القراءة من طلاّب الجامعات والباحثين والصحفيين والموظفين والأدباء والشعراء والأدباء.

اقرأ أيضاً: لماذا تمنع الدول العربية الكتب؟ إجابات مثيرة لكتّاب باحوا بالأسرار
ويقول في هذا الصدد عادل (50 عاماً)، الذي استقرّ في العاصمة منذ عام 1991، بعد قدومه من محافظة القصرين (وسط غرب تونس)، من أجل بيع الكتب في "نهج الدبّاغين"، إنّ الطلبة، والأدباء هم من أغلب المقبلين على كتبه التي يصفّها صباح كلّ يومٍ بعنايةٍ على طاولته الصغيرة التي لم تتّسع لأكثر من العشرات.

 عادل (50 عاماً)
ويضيف عادل لـ "حفريات"، أنّ السوق صارت مقصداً لهواة جمع الكتب والمخطوطات القديمة، وأنّه كثيراً ما يعثر عشّاق القراءة هنا على كتبِ قيمة يصعب جدّاً إيجادها في المكتبات، لافتاً إلى أنّ السلطات، صادرت كتبه عدّة مرّات، في فترة حكم بن علي، بسبب محتواها الديني أو السياسي.

اقرأ أيضاً: ما لا تعرفه عن "المكتبة الخالدية" في القدس
ويؤكّد عادل أنّ إقبال الشباب تراجع مؤخّراً، بسبب التطوّر التقني والتكنولوجي، حيث تُنشر أغلب أنواع الكتب على الإنترنت، بعد أن ربط عشرات الصداقات مع الطلبة والباحثين الذين كانوا يتردّدون إلى السوق بشكل دوري بحثاً عن الكتب النادرة والمراجع.
وكشفت إدارة المطالعة العمومية بوزارة الشؤون الثقافية التونسية، مطلع الشهر الماضي، أنّ مؤشّر القراءة بتونس لم يتجاوز 0.58 كتاباً في السنة للفرد الواحد".

اقرأ أيضاً: إبادة الكتب في القرن العشرين
ونبّهت الإدارة إلى الانعكاس "الخطير لهذا المؤشّر على الحياة الاجتماعية والاقتصادية للتونسيين"، مشيرةً إلى أنّ تدني مؤشّر القراءة "يحيل مباشرةً إلى ارتفاع منسوب الجريمة والانحراف والطلاق وغيرها من الظواهر الاجتماعية السلبية".

 

 

 

 



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية