إعادة النظر في الثورة الروسية.. القمع الثوري

إعادة النظر في الثورة الروسية.. القمع الثوري


26/12/2018

ترجمة: محمد الدخاخني


البلاشفة في السّلطة
يوثّق كتاب كتاب س. أ. سميث، "روسيا في الثّورة: إمبراطوريّة في أزمة 1890-1928"، كيف، بعد مقاومة قويّة لانتفاضتهم، كما حصل في موسكو، تمكّن البلاشفة وحلفاؤهم من اليسار الثّوريّ الاشتراكيّ من توطيد السّلطة والتّأييد. وإخلاصاً للوعود الّتي قطعوها، شرعوا على الفور في إدخال تغييرات رئيسة، مثل إضفاء الشّرعيّة على سيطرة العمّال على الإنتاج، وهو الأمر الّذي كان قد جرى بالفعل على أرض الواقع بدون قَيْد من ديناميكيّات السّلطة المزدوجة الّتي تطوّرت خلال الحكومة المؤقّتة.

الانتفاضة البلشفيّة النّاجحة شجّعت على ردكلة واسعة النّطاق بين الطّبقات العاملة والفلّاحيّة ما أدّى إلى توسيع التّأثير البلشفيّ 

وبالمثل، فقد منحوا حقّ الانتفاع للفلّاحين الّذين كانوا قد استولوا بالفعل وإلى حدّ كبير على الأراضي. وبالإضافة إلى ذلك، قاموا بإلغاء العمل بعقوبة الإعدام في الجبهة وأسّسوا لانتخاب ضبّاط الجيش، وأبطلوا جميع التّرفيعات والمراتب الاجتماعيّة، وأقرّوا حقّ تقرير المصير لشعوب الإمبراطوريّة من غير الرّوس، وقاموا بتأميم البنوك، وأسّسوا الزّواج المدنيّ، وأصلحوا حروف الأبجديّة، وشطبوا الدّيون الأجنبيّة. وبعد فترة وجيزة، أدخلوا مجموعة واسعة من حقوق المرأة والمثليين بالإضافة إلى الحقّ في الإجهاض. إنّ الانتفاضة البلشفيّة النّاجحة، كما يشير سميث، قد شجّعت على ردكلة واسعة النّطاق بين الطّبقات العاملة والفلّاحيّة، الأمر الّذي أدّى - إلى جانب مبادرات الحكومة الجديدة - إلى توسيع السّوفيتات والتّأثير البلشفيّ إلى ما وراء المراكز الكبرى للسّلطة الثّوريّة.

اقرأ أيضاً: إعادة النظر في الثورة الروسية.. أسئلة السلطة والحرب
تحوّلت الحكومة الثّوريّة أيضاً إلى مسألة إنهاء مشاركة روسيا في الحرب، وإلى انتخاب ممثّلين للجمعيّة التّأسيسيّة لوضع دستور، والّتي كان قد وعد بها منذ فترة طويلة منذ سقوط القيصر وجرى تأجيلها من جانب الحكومة المؤقّتة.

المجالس العمالية (السوفيات) ببطرسبرغ
بدأت انتخابات الجمعيّة التّأسيسيّة أخيراً في أواخر تشرين الثّاني (نوفمبر) 1917 واستمرّت حتّى كانون الأوّل (ديسمبر) من ذلك العام. ووفقًا لما ذكره سميث، فإنّ نتائج 75 من أصل 81 دائرة انتخابيّة في روسيا أظهرت إجمالي 48.4 مليون صوتاً صحيحاً مدلى به، حصل منها الثّوريّون الاشتراكيّون على 39.5 في المائة، والبلاشفة على 22.5 في المائة، والكاديت على 4.5 في المائة، والمناشفة على 3.2 في المائة. فمن بين الجميع، خرج الثّوريّون الاشتراكيّون باعتبارهم أكبر الفائزين، لا سيّما في المناطق الرّيفيّة حيث تركّزت أصواتهم. (من بين الشّعوب غير الرّوسيّة، صوّت أكثر من سبعة ملايين للأحزاب الاشتراكيّة غير الرّوسيّة، بما في ذلك ثلثي سكّان أوكرانيا الّذين صوّتوا لصالح الثّوريّين الاشتراكيّين الأوكرانيّين أو القوميين الأوكرانيّين أو الدّيمقراطيّين الاشتراكيّين الأوكرانيّين).

يربط سميث فكر لينين بالتّقليد الثّوريّ الرّوسيّ الّذي يراه تقليداً سلطويّاً، مستشهداً بكتّاب مثل تشيرنيشيفسكي ونشاييف وتكاشيف

لكن انتهى المطاف إلى أن صار الانتخابات محلّ نقاش. فحُلّت الجمعيّة التّأسيسيّة على يد حكومة البلاشفة واليسار الثّوريّ الاشتراكيّ، ولم تنعقد من جديد، عندما رفضت الجمعيّة الّتي يهيمن عليها الثّوريّون الاشتراكيّون إقرار مبدأ السّلطة السّوفيتيّة. جادلت الحكومة بأنّ الجمعيّة لم تُمثِّل حقّاً القوى الفعليّة المشاركة فيها نظرًا لأنّ قائمة مرشّحي الثّوريّين الاشتراكيّين للجمعيّة قد قدّمت قبل انقسام الثّوريّين الاشتراكيّين إلى الحزب الثّوريّ الاشتراكيّ واليسار الثّوريّ الاشتراكيّ (المتحالف مع البلاشفة في الحكومة)، ممّا يعني أنّه لم يتمّ تمثيل الحزب الأخير في الاقتراع الانتخابيّ.
يزعم سميث أنّه في خمس من الدّوائر الانتخابيّة السّت الّتي كان يُنافس فيها اليسار الثّوريّ الاشتراكيّ دون حلفاء، لم يقم بنجاحات كبيرة، ويبدو أنّه يشير بذلك إلى أنّهم لم يحصلوا على الكثير من الدّعم. ومع ذلك، فإنّ نتائج الانتخابات في هذه الدّوائر القليلة قد تكون أيضاً نتيجةً لتمكّن ترشيحات اليسار الثّوريّ الاشتراكيّ من التحصّل على بطاقة الاقتراع قبل المدّة المحدّدة، قبل أن ينغمس واقع الانشقاق في أذهان أنصارهم في تلك الدّوائر.

اقرأ أيضاً: اهتمام أمريكي بمئوية الثورة البلشفية: الشمولية تبعث روسيا مجدداً
فيما يتعلّق بانسحاب روسيا من الحرب، في وقت مبكّر من تشرين الأوّل (أكتوبر) وتشرين الثّاني (نوفمبر) 1917، فتحت الحكومة الثّوريّة مفاوضات مع ألمانيا لإخراج روسيا من الحرب من خلال الدّعوة إلى سلام بدون تعويضات أو ضمانات، وحقّ تقرير المصير لدول الإمبراطوريّة الرّوسيّة. ثمّ شرعت في نشر المعاهدات السّرّيّة الّتي وضعتها كتلة الحلفاء لإثبات الطّابع الإمبرياليّ للحرب. وردّت ألمانيا بعرض شروط قاسية للغاية مقابل إنهاء الأعمال العدائيّة.

اقرأ أيضاً: هل يأتي يوم يحكم فيه الاشتراكيون أمريكا؟
وما كان إلّا أن انقسمت الحكومة الثّوريّة حول هذه القضيّة: جادل لينين بقبول فوريّ لتلك الشّروط في ضوء عجز روسيا عن مقاومتها، وجادل فصيل شيوعيّ يساريّ بقيادة بوخارين وبدعم من اليسار الثّوريّ الاشتراكيّ ضدّ الاستسلام ومن أجل مواصلة حرب ثوريّة غير تقليديّة لنشر الثّورة حتّى ألمانيا، وجادل تروتسكي منطلقاً من موقفه "الوسطيّ" لـ"الّلاسِلم، الّلاحرب"، والّذي كان ينطوي أساساً على تسريح الجيش الروسيّ دون توقيع أيّ معاهدة مع ألمانيا. (من الجدير بالملاحظة أنّ هذا الصّراع داخل الحزب البلشفيّ قد جرى التّعبير عنه بشكل علنيّ وشَمِل أدبيّات فصائليّة جرى توزيعها على نطاق واسع على الجمهور، وهي حقيقة مهمّة تشير إلى تعدّديّة الحزب البلشفيّ قبل الحرب الأهليّة - وذلك، كما هو واضح، في تناقض قويّ مع حملة القمع الّتي ستأتي بعد فترة وجيزة من تلك الحرب وتغطّي بقيّة تاريخ الاتّحاد السّوفيتيّ - الّتي لم يأتِ سميث على ذكرها).

لم تترك الخسائر لروسيا أيّ خيار سوى اعتماد اقتراح لينين

أصبحت الشّروط الألمانيّة للسّلام أكثر تشدّداً مع استمرار هجومها النّاجح. تركت الخسائر الّتي تكبّدتها روسيا في ذلك الهجوم إلى جانب تدهور الوضع الاقتصاديّ للبلاد الحكومة الثّوريّة دون أيّ خيار سوى اعتماد اقتراح لينين. وفي 3 آذار (مارس) 1918، وقّعت معاهدة السّلام مع ألمانيا في بريست ليتوفسك. كانت شروط المعاهدة كارثيّة بالنّسبة إلى روسيا: ففي مقابل السّلام، خسرت روسيا مقاطعات البلطيق، وجزءاً كبيراً من بيلاروسيا، وأوكرانيا بأكملها. بضربة واحدة خسرت روسيا ثلث إنتاجها من الزّراعة، وثلث سككها الحديديّة، وتقريباً كلّ إنتاجها من النّفط والقطن، وثلاثة أرباع فحمها وحديدها.

نتيجة لقرار الحكومة بالاستسلام لشروط السّلام الألمانيّة، رحل اليسار الثّوريّ الاشتراكيّ عن الحكومة، تاركاً البلاشفة كحزب وحيد في السّلطة

نتيجة لقرار الحكومة بالاستسلام لشروط السّلام الألمانيّة، رحل اليسار الثّوريّ الاشتراكيّ عن الحكومة، تاركاً البلاشفة كحزب وحيد في السّلطة. وبعد فترة وجيزة، بدأت الحكومة تخسر في الانتخابات السّوفيتيّة الّتي تجري في كافّة أنحاء البلاد، ومثّل ذلك ردّ فعل سياسيّ نتج عن أزمة الغذاء في ربيع عام 1918، و، على نطاق أوسع، التّدهور المستمرّ في الوضع الاقتصاديّ في البلاد. يوضّح سميث ذلك بمثال ياروسلافل، وهي مدينة مهمّة تقوم على صناعة الغزل والنّسيج، حيث منحت إعادة الانتخاب الجزئيّ لنوّاب سوفيت العمّال في أواخر نيسان (أبريل) المناشفة سبعة وأربعين نائباً، والبلاشفة واليسار الثّوري الاشتراكيّ ثلاثة عشر نائباً. فما كان إلّا أن ردّت الحكومة البلشفيّة بحلّ السّوفيت واعتقال المناشفة الموجودين في تلك المدينة، ممّا أدّى إلى وقوع إضرابات وفرض الأحكام العرفيّة لاحقاً. ثمّ بدأت الحكومة في اتّباع السّياسة نفسها في كلّ مكان، حيث ألغت السّوفيتات الّتي اعتبرتها قد سقطت تحت سيطرة قوات "معادية" مزعومة.

اقرأ أيضاً: الحياة السرية لزعماء الثورة في الاتحاد السوفييتي
يمثّل هذا بالنّسبة إلى سميث بداية نهاية ما كان في الأصل ثورة ديمقراطيّة. لقد أصبحت الحكومة الثّوريّة دولة حزب واحد وبدأت في القضاء على المنافسة متعدّدة الأحزاب في السّوفيتات.
هذا الحدث الهائل - الّذي لن تُلغى آثاره السّياسيّة أبداً - قد جرى الاستيلاء عليه لدعم تفسيرات مختلفة راديكاليّاً للثّورة تتراوح بين المدرسة التّوتاليتاريّة للحرب الباردة الّتي وصفته بأنّه يؤكّد الطّابع غير الدّيمقراطيّ للبلشفيّة منذ بدايتها، والمفهوم الستالينيّ الّذي يقضي بأنّ "الاشتراكيّة" ودولة الحزب الواحد لا يمكن فصلهما. بدلاً من ذلك، وكما جادلتُ في كتابي "قبل الستالينيّة"، حوّلت البلشفيّة السّائدة الضّرورات الّتي فرضتها الحرب الأهليّة القاسيّة إلى مزيّة وذلك جزئياً بسبب ظروف موضوعيّة وجزئياً بسبب بعض نزعات الأيديولوجيا البلشفيّة السّائدة الّتي أصبحت مهيمنة كردّ فعل على هذه الظّروف.
الحرب الأهليّة
عزّزت بداية الحرب الأهليّة، في أيّار (مايو) 1918، ذلك الحلزون المتحدّر، خاتمةً مصير الثّورة. مدّعية صلاحيات طارئة بسبب الأعمال العدائيّة، أعلنت الّلجنة المركزيّة للحزب البلشفيّ أنّ الحزب هو رئيس السّلطة السّوفيتيّة، وقرّرت أنّ "مراسيم وتدابير السّلطة السّوفيتيّة تنبع من حزبنا". وقد أعقب ذلك، في 14 حزيران (يونيو) من ذلك العام، قيام القيادة البلشفيّة بطرد المناشفة والثّوريين الاشتراكيّين من السّوفيتات بزعم استخدامهم الافتراء والتّآمر والتّمرّد المسلّح لزعزعة استقرار الحكومة، ولكن في الواقع خوفاً من الإطاحة بهم. وقد عزّز هذا من فقدان الدّيمقراطيّة في النّظام السّوفيتيّ الجديد.

أصبحت الحكومة الثّوريّة دولة حزب واحد وبدأت في القضاء على المنافسة متعدّدة الأحزاب في السّوفيتات

وردّاً على الوضع الاقتصاديّ البائس النّاجم عن الحرب الأهليّة، تبنّت الحكومة البلشفيّة سياسة "الشّيوعيّة الحربيّة" لمواجهة المهمّة الصّعبة المتمثّلة في إطعام البلدات والمدن، والحفاظ على أداء الصّناعة. يصف سميث هذه السّياسة بأنّها تنطوي على نظام مركزيّ للغاية لإدارة الاقتصاد بأكمله؛ تأميم معظم الصّناعات، واحتكار الدّولة للحبوب ومنتجات زراعيّة أخرى، وفرض حظر جزئيّ على التّجارة الخاصّة، وتقنين [:السّماح لكلّ شخص باستهلاك محدّد] المواد الاستهلاكيّة الرّئيسة، وعسكرة العمل. وقد عنى هذا وضع نهاية لسيطرة العمّال على الإنتاج وانخفاضاً دراماتيكيّاً في استقلاليّة الفلّاحين، وقد كانتا (سيطرة العمّال على الإنتاج واستقلاليّة الفلّاحين) من الدّعامات الّتي عرّفت الدّيمقراطيّة السّوفيتيّة.

اقرأ أيضاً: الاشتراكيون بين اليوم والأمس
صحيح أنّ، كما جادل المدافعون عن الحكومة البلشفيّة منذ فترة طويلة، الحاجة لإطعام المدن وإمداد الجبهة، وليس الأيديولوجيا السّياسيّة، كانت السّبب البنيويّ الموضوعيّ لاعتماد سياسة الشيوعيّة الحربيّة هذه. لكن صحيح أيضاً، كما يوضّح سميث، أنّ معظم القيادة البلشفيّة إن لم تكن كلّها، اعتبرت هذه السّياسات بمثابة التّرحيب بوصول الشّيوعيّة.
كان هذا هو الحال، على سبيل المثال، مع نيكولاي بوخارين، الّذي أنشد المديح وأصبح النّصير النّظريّ الرّئيس للشيوعيّة الحربيّة في كتابه "اقتصاديّات الفترة الانتقاليّة"، وهو عبارة عن أطروحة تدور حول "عمليّة تحوّل المجتمع الرأسماليّ إلى مجتمع شيوعيّ". وقد شارك لينين على الأقلّ بعض مشاعر بوخارين عندما قال في عام 1919: "الآن اكتسب تنظيم الأنشطة الشّيوعيّة للبروليتاريا وسياسة الشّيوعيّين بكاملها شكلاً نهائيّاً ومستقلّاً؛ وإنّني على قناعة بأنّنا على الطّريق الصّحيحة".

تبنّت الحكومة البلشفيّة سياسة "الشّيوعيّة الحربيّة" لمواجهة المهمّة الصّعبة المتمثّلة في إطعام البلدات والمدن، والحفاظ على أداء الصّناعة

يتطرّق سميث للملاحظة الصّحيحة عندما يشير إلى أنّ "الإكراهات البنيويّة، والاحتمالات، والعواقب غير المقصودة كلّها ساهمت في تشكيل السّياسات الّتي ألّفت الشّيوعية الحربيّة"، ويضيف، على نحو معبّر، أنّ "خيارات هذه السّياسات لم 'تفرضها' فقط الظّروف الموضوعيّة: فقد جرى تحديدها من خلال المفاهيم السّائدة والتّوجّهات المتأصّلة عند [البلاشفة]، أحياناً كاختيارات واضحة، وأحياناً كردود فعل غير واعية". في هذه الحالة، يُجسّر حكم سميث الجيّد الفجوةَ بين ميل بعض اليساريّين إلى رؤية التّطوّر التّاريخيّ على أنّه فقط من نتاج الظّروف الموضوعيّة واستجابة بعض اليساريين الآخرين لذلك بتأكيدٍ لا يقلّ أحاديّة على الأفكار السّياسيّة والإرادة السياسيّة بوصفها مشكّلةً للتّاريخ.

اقرأ أيضاً: القرامطة سبقوا ماركس وأسسوا أول نظام اشتراكي منتخب
ولدى سميث وجهة نظر نقديّة للغاية حول مفاهيم وتوجّهات هؤلاء البلاشفة، لا سيّما لينين، الّذي يصوّره بجرّات قلم واسعة للغاية، بطريقة غير ناضجة إلى حدّ ما، كمهجوس بـ"الطّهارة الأيديولوجيّة، وإيمانه بسداده الأيديولوجيّ، وعدم استعداده لتقديم تنازلات، وعاداته السّلطويّة في الفكر والعمل"، كما لو أنّ سياسته كانت دائماً كما هي، دون تغيير، فيما يتعلّق بكلّ قضيّة. من الواضح أنّ لينين قد غيّر رأيه عندما دعا إلى تبنّي "السّياسة الاقتصاديّة الجديدة" عام 1921 والّتي اشتملت على دعمه للتّعاونيّات بوصفها لبنات لبناء الاشتراكيّة. كذلك غيّر لينين رأيه بشكل راديكاليّ حول ستالين، الّذي أخذ ينظر إليه في عام 1922 على أنّه "'قوميّ-اشتراكيّ' حقيقيّ وصادق بل ومتنمّر سوقيّ روسيّ كبير".

اقرأ أيضاً: هل تتخلى روسيا عن علاقاتها بحزب الله؟
ويربط سميث فكر لينين بالتّقليد الثّوريّ الرّوسيّ الّذي يراه تقليداً سلطويّاً، مستشهداً بكتّاب مثل تشيرنيشيفسكي ونشاييف وتكاشيف دون أن يتحدّث عن الاختلافات الموجودة بين كلّ واحد منهم، وبينهم وبين لينين. ومن المثير للدّهشة أنّه يتجاهل صِلات لينين طويلة الأمد بسياسات وتقاليد الدّيمقراطيّة الاجتماعيّة الأوروبيّة الكلاسيكيّة، خاصّة كارل كاوتسكي، وهي القضيّة الّتي ناقشها مؤخّراً وبشكل مطوّل المؤرّخ لارس ت. ليه ونقّاده.

اقرأ أيضاً: الشيوعي المكسور
لكن فيما يتعلّق بالحزب البلشفي ككلّ، فإنّه يمتلك مقاربةً أكثر دقّة. سامحاً بالتّغيير، يكتب أنّه في عام 1917، أصبح "حيواناً مختلفاً تماماً عن الحزب التّآمري المتماسك بإحكام الّذي تصوّره لينين عام 1903" حيث غمره العمّال والجنود والبحّارة بسبب رؤيتهم للبلاشفة على أنّهم "المدافعين الأشدّ عن مصالح النّاس العاديين". كما يعترف بأنّه لفترة من الزّمن سمح الحزب البلشفيّ بالتّعدّديّة، ويشير إلى أنّ "الماركسيّة-الّلينينيّة كانت مجموعة من الأفكار والقِيَم المتنوّعة للغاية"، والّتي اشتملت على "التّعايش بين مختلف مفاهيم الاشتراكيّة". كلّ هذا، على أيّة حال، انتهى في أوائل العشرينيّات، حيث أصبح الحزب موحّداً على نحو متزايد وألغى الميكانزمات الأساسيّة للدّيمقراطيّة.

انتهت الحرب الأهليّة في عام 1920، بانتصار الجيش الأحمر
لكن بصرف النّظر عن الخلفيّة النّظريّة الجامدة المفترضة والتّوجّهات المسبقة للينين والبلاشفة، فإنّ الشّيوعيّة الحربيّة، كما أجادل في كتابي "قبل الستالينيّة: صعود وسقوط الدّيمقراطيّة السّوفيتيّة"، بلورت ثقافة سياسيّة أقرّت، ليس كاستجابة مؤقّتة وضروريّة لظروف الحرب ولكن كميزة ثوريّة، قمع السّوفيتات متعدّدة الأحزاب، والإرهاب الأحمر (انظر أدناه)، بالإضافة إلى تدابير أخرى عرضت آنذاك مثل التّقييد الخطير لديمقراطيّة واستقلاليّة النّقابات، وقمع الحرّيّات السّياسيّة والقانونيّة والمعارضة الاشتراكيّة.

اقرأ أيضاً: اليسار والدين في السودان: الحزب الشيوعي السوداني أنموذجاً
كما قلّلت الشّيوعيّة الحربيّة للحكومة البلشفيّة من دعم العمّال والفلّاحين، ممّا جعل الحكومة أكثر عزلة. لقد شهد الفلّاحون على وجه الخصوص أحد أكثر الجوانب دمويّة في تلك السّياسة مع المصادرة القسريّة لحبوبهم الّتي نفذت بموجب أوامر حكوميّة على يد "كتائب طعام" مكوّنة من مدِينيّين أُرسِلَت إلى الرّيف. وكثيراً ما تضمّن استيلاء الكتائب على ما يسمّى بفائض الحبوب جزءاً من النّظام الغذائيّ الضّئيل للفلّاحين، أو الحبوب المخزّنة لاستخدامها كبذور للموسم المقبل. وفي محاولة لاستخراج المزيد من الغذاء من الرّيف، قامت الحكومة، منطلقةً من تقسيمات طبقيّة خياليّة لا أساس لها في الرّيف، بإنشاء لجان من "فقراء الفلّاحين" (الكومبيدي) لتوزيع الحبوب والسّلع الاستهلاكيّة المصنّعة، والتّعاون في الاستيلاء على فائض الطّعام من الكولاك (أغنياء الفلّاحين).

اقرأ أيضاً: مائة سنة على نهايتها: الحرب العالمية الأولى من خلال الرواية
وفي المقابل، كان على لجان فقراء الفلّاحين أن تحصل على حصّة من الحبوب وغيرها من السّلع المُصَادرة، وهي ترتيبات تسبّبت بنيويّاً في وقوع العديد من الانتهاكات. يستشهد سميث بدراسةٍ لأكثر من ثمانمائة كومبيدي على مستوى القرية في تامبوف تُبيّن أنّ ثلث أعضائها لم يسبق لهم أن شاركوا في الزّراعة، وهي نتيجة تتّفق مع العدد الكبير من المجرمين وقطّاع الطّرق الّذين انضموا إلى الكومبيدي، وهو تطوّر يمكن التّنبؤ به بالنّظر إلى طرقهم العاميّة والتّعسفيّة في العمل. وليس من المستغرب أنّ أثارت هذه الّلجان كراهية الغالبيّة العظمى من سكّان الرّيف.
بحلول خريف عام 1920، بدأت تظهر بوادر مجاعة في منطقة فولغا، وفي عام 1921، أدّى الجفاف الشّديد إلى تدمير المحصول، ممّا أدّى إلى مجاعة جماعيّة للملايين، خاصّة في مقاطعتي فولغا وأورال الجنوبيّة. ربّما متوقّعاً هذه الأزمة الجديدة، في شباط (فبراير) 1920، اقترح تروتسكي استبدال المصادرة بضريبة عينيّة لتحفيز الفلّاحين على زرع المزيد من الحبوب، لكن هذا الاقتراح رفضته قيادة الحزب.

اقرأ أيضاً: العرب في الحرب العالمية الأولى
انتهت الحرب الأهليّة في عام 1920، بانتصار الجيش الأحمر على البيض، الّذين مثّلوا مصالح النّخب القديمة، بدعمٍ من قوى أجنبية مختلفة مثل بريطانيا والولايات المتّحدة. يصفهم سميث بأنّهم قوميّون روس في الغالب يهدفون إلى استعادة حضور دولةٍ قويّة، "روسيا واحدة وغير قابلة للتّجزئة"، والهيمنة الأيديولوجيّة للكنيسة الأرثوذكسيّة، وقمع "الفوضى anarchy" النّاجمة عن الصّراع الطّبقيّ الّذي ألهم الجماهير الثّوريّة الكارهة. كانت البلشفيّة بالنّسبة إليهم مؤامرة "ألمانيّة-يهوديّة" مفروضة على الشّعب الرّوسيّ، وكان مصطلح "يهوديّ" (جِيد) مساوياً لـ"شيوعيّ".
يقدّم سميث تحليلاً ممتازاً لأسباب غلبة الجيش الأحمر. أوّلاً، كما يجادل، كان أكبر من الجيش الأبيض. فبحلول خريف عام 1920، امتلك أكثر من خمسة ملايين مجنّد. وبالرّغم من أنّ أداء جنوده كان غير متكافئ، فإنّ توظيف تروتسكي للاختصاصيّين العسكريّين الّذين كانوا في الجيش القيصريّ قد ألغى أيّة ميزة يتمتّع بها الجيش الأبيض في الخبرة والتّجربة. ويشير سميث أيضاً إلى أنّ الحُمر كانوا أفضل في تشجيع الشّباب الموهوبين، ممّا سمح لهم بتخفيض نسبة الاختصاصيّين العسكريّين المعيّنين في هيئة الضّباط من ثلاثة أرباع عام 1918 إلى ما يزيد قليلاً عن الثّلث عام 1921.

قلّلت الشّيوعيّة الحربيّة للحكومة البلشفيّة من دعم العمّال والفلّاحين، ممّا جعل الحكومة أكثر عزلة

علاوة على ذلك، بينما كان سلاح الفرسان القوزاقيّ الّذي يقاتل إلى جانب البيض من نوعية عالية، فإنّهم لم يشعروا أبداً بالرّاحة في القتال خارج مناطقهم الأصليّة. وبالإضافة إلى ذلك، كانت القوات البلشفيّة منظّمة بشكل أفضل ولديها قيادة موحّدة أكثر من البيض، وكان لديها إقليم أكثر تكاملاً واندماجاً كقاعدة لعمليّاتها. ويشير سميث أيضاً إلى أنّه بالرّغم من أنّ التّدخّل العسكريّ الأجنبيّ لدعم البيض من جانب فرنسا وبريطانيا والولايات المتّحدة كان كبيراً، إلّا أنّه لم يكن أبداً على النّطاق الّذي توقّعه البيض واحتاجوا إليه. ويعود هذا، كما يجزم سميث، إلى حقيقة أنّ حكومات كتلة الحلفاء اضطّرت إلى الكفاح داخليّاً مع شعوب سئمت من الحرب وكذلك مع المعارضة اليساريّة، وبالتّالي لم يكن لها أن تكرّس للحرب الأهليّة البشر والموارد المادّيّة الّتي كان البيض بحاجة إليها.
علاوة على ذلك، يكتب سميث، من وجهة نظر اجتماعيّة وسياسيّة، لم يكن للبيض أن يتمكّنوا من محو فكرة أنّهم كانوا حلفاء لملّاك الأراضي من عقول الفلّاحين وبقدر كراهية الفلّاحين لمصادرات الطّعام الّتي قام بها الحُمر، فإنّهم ما زالوا ينظرون إلى الحُمر على أنّهم الشّرّ الأقلّ. وبالمثل، فإنّ القوميات غير الرّوسيّة رأت أنّ الحُمر أيضاً أكثر تفضيلاً فيما يخصّ مطالبهم القوميّة من البيض.

اقرأ أيضاً: قرن على الحرب العالمية الأولى
ومع ذلك، جرى تحقيق النّصر الأحمر في الحرب الأهليّة بتكلفة كبيرة جدّاً. فالاستياء كان منتشراً بين الفلّاحين وكذلك بين العمّال الّذين عانوا، كما يشرح سميث بشكل مفصّل، من خسائر كبيرة في مستوى معيشتهم. وقد أدّى هذا الاستياء، من جهة، إلى تمرّد كرونستادت عام 1921، ومن جهة أخرى، إلى تبنّي الحكومة البلشفيّة، في الوقت نفسه تقريباً، سياستها الاقتصاديّة الجديدة الّتي هدفت إلى تهدئة ذلك الاستياء.

يتبع في الجزء الثالث ...

المصدر: صامويل فاربر، جاكوبين


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية