داعش يطرح رؤية دينية وسياسية: لماذا تفشل الحملات العسكرية في القضاء على الجهاديين؟

داعش يطرح رؤية دينية وسياسية: لماذا تفشل الحملات العسكرية في القضاء على الجهاديين؟


كاتب ومترجم جزائري
27/12/2018

ترجمة: مدني قصري


بمناسبة نشر كتابه "ما بعد داعش، الحرب الأيديولوجية المستمرة"، يقدم لنا إدوارد فويارت؛ المحلل الفرنسي الإستراتيجي الدولي، من معهد الدراسات السياسية في جرونوبل (IEP) بفرنسا، والحاصل على درجة الماجستير في الدفاع والأمن وإدارة الأزمات، من معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية (IRIS)، تحليله لأيديولوجية داعش، بعد أن درس بعمق النصوص الدعائية للمنظمة الإرهابية.
هذا الحوار مع المحلل إدوارد فويارت مع chronik.fr:

إدوارد فويارت
هل انتهينا فعلاً من داعش؟
يرى الكاتب والمحلل الفرنسي، إدوار فويارت؛ أنّ الدولة الإسلامية، بالفعل، تنتمي إلى الماضي؛ "إنّ وجود الخلافة سيكون سريع الزوال، والإعلان عن هزيمته العسكرية سيؤدي حتماً إلى كسر وحدة التنظيم، لكنْ هل انتهينا فعلاً من داعش، ومن التهديد الجهادي؟ إنّ إلحاق الهزيمة هو دفعُ العدوّ إلى الاقتناع بأنه خسر المعركة، واعترف بها.

الجهاديون يرون أنّ أفعالهم تهدف إلى إظهار حقيقة أفكارهم؛ لذلك الإرهاب يندرج ضمن معركة أيديولوجية وثقافية

لكن، كيف يمكن إقناع عدوّ بهزيمته، وجعله يقتنع بأنه خسر المعركة، ويعترف بذلك، فيما أيديولوجيته تتيح له كسب امتلاك العقول أكثر فأكثر، كلما تكبّد مزيداً من النكسات، وكلما فقدَ مزيداً من الأراضي؟
"الموت نصر"، هكذا قال أبو محمد العدناني، الناطق السابق باسم داعش، مؤكّداً "إنكم تقاتلون شعباً لا يمكن هزيمته".
فنهاية تنظيم داعش، كدولة نصّبت نفسَها دولة، لا تعني نهاية ظاهرة الجهادية؛ فالأيديولوجية  ستعيش بعد انتهاء الخلافة، وسيظلّ التهديد الإرهابي قائماً، وبدلاً من أن يختفي سوف يجد دوماً مصدره في الدعاية، وعمليات زرع التطرف، ومن الآن فصاعداً؛ يبدو من الضرورة الملحّة بمكان التوصّل ليس فقط إلى فهمِ الخطاب الجهادي، لكن أيضاً التخلي عن التفسيرات السيكولوجية الذهانية للإرهاب، نوع من وباء الجنون العالمي، للكشف عن حصة العقلانية التي تدفع هؤلاء الأفراد إلى التصرّف من خلال الفعل الجهادي.

اقرأ أيضاً: اكتشاف مقبرة جماعية لمسيحيين إثيوبيين أعدمهم داعش في ليبيا
يقدّم لنا فويارت، في كتابه المستمد من العديد من وثائق الدعاية الجهادية،  فهماً أفضل للفكر الذي يكمُن وراء الإرهاب الذي يضربنا؛ كيف يضفي الجهاديون الشرعية على عنفهم؟ ما هي حججُهم ضدّ الخطاب الغربي؟ كيف يمكن للتهديد أن يتطور في المستقبل القريب، وما هي المسارات السياسية واللاهوتية التي تجب مراعاتها لمواجهة ذلك؟
وفي مقالته "ما بعد داعش، الحرب الأيديولوجية مستمرة"، يساهم المحلل الإستراتيجي في إلقاء مزيد من الأضواء على المشروع الأيديولوجي الذي يقود الخطاب والعمل الجهادي، ويجيب المحلل عن أسئلة جديدة حول الظاهرة الإرهابية في هذا الحوار؛ الذي أجرته معه Chronik.fr.
 

رفض فكر التنوير
هل تعتقد أنّ الإرهاب يندرج أوّلاً تحت معركة ثقافية وأيديولوجية؟ في هذه الحالة، كيف تستطيع الدول مواجهة هذه المعركة؟

يطرح داعش على أتباعه رؤية لاهوتية سياسية للعالم؛ فمذهبه يفنّد ويرفض فكر التنوير، ويراه جريمة ضدّ "شريعة الله"، كما أنّه يجرّم ويندّد بالمجتمع المسلم الذي اختار "الردة"، أو العلمانية، ويزعم أنه أعاد تأسيس عصر المدينة المنوّرة؛ حيث سادت الأسبقية "السماوية"، و"الدين" و"المجتمع الأخوي"، فالمسألة إذاً ليست أنّ الجهاديين يفقدون معنوياتهم الأخلاقية في سعيهم إلى تحقيق طوبويتهم الفاضلة؛ بل إنهم، على العكس، يجدون فيها تحديداً، كلّ المعنى.

من المسلَّم به أنّ هناك جهاديين لم يقرؤُوا القرآن الكريم ولا يتحدّثون العربية إلا قليلاً لكن عدّهم جميعاً غير متعلمين خطأ

الجهاديون يرون أنّ كلّ فعلٍ من أفعالهم يهدف إلى إظهار حقيقة أفكارهم، وتقديم سرّ هذه الحقيقة؛ لذلك، بطبيعة الحال، الإرهاب يندرج ضمن معركة أيديولوجية وثقافية.
عندما تصف الدعاية الجهادية الغربيّين بـ "الصليبيين"؛ فإنها بذلك تُدرج حربَها في عملية تاريخية طويلة الأمد، وتُدرِجُنا فيها وتجرنا إليها مباشرة، معتقداتُنا الدينية (أو عدمُها) ليست مهمّة، فنحن "كفار" في نظرهم، خاصة عندما يضفي "الصليبي" الغربي نفسه، مصداقية لألفيته (المسيحية) (Millennialism)(1)؛ عن طريق مضاعفة تدخّلاته العسكرية، وباستخدام تعبيرات مثل: "حملة صليبية ضدّ الإرهاب"، أو"صراع الحضارات"، لن تستطيع مجتمعاتُنا حماية مبادئها، ومن ثم مواجهة التحدي الإرهابي السائد في عصرنا، إلا برفض الخيارات السياسية الوطنية والدولية، التي تسعى إلى فرض نفسها عليها، تحت التهديد والتخويف.
الأمر ليس فقط "غسل دماغ"

التفسير لا يؤدي إلى التبرئة
لذلك؛ يجب علينا أن نفهم حصّة العقلانية التي تدفع هؤلاء الأفراد، إلى اعتناق الأيديولوجية الجهادية، والإيمان بها، لكن أيضاً التأكيد، في عزم وإصرار، وبشكل جماعي، أنّ التفسير لا يؤدي إلى التبرئة؛ بل إلى السيطرة على الوضع.

نهاية داعش، كدولة، لا تعني نهاية ظاهرة الجهادية؛ فالأيديولوجية ستعيش بعد انتهاء الخلافة

وهناك مسار آخر، يمكن أن يأتي أيضاً من المؤسسات الإسلامية الكلاسيكية، لكنّ هذه المؤسسات تعاني من أجل التغلب على المأزق المزدوج الذي يمثله أولئك الذين يقترحون، من جهة، إسلاماً "معتدلاً"، دون أن يدركوا أنه يعزّز السلفيين في ادّعائهم بتمثيل "الإسلام الحقيقي"، ومن جهة أخرى؛ أولئك الذين يدّعون أنّ الإسلام ينطلق من تكيّفه مع تطور وتقدم العالم الحالي، دون أن يروا أنّ الإسلام على الصعيد التاريخي، قد حدث بالفعل مع حركة السلفية.
تبقى مسألة التمويل، لكن إذا ثبت أنّ استخدام الحركات الجهادية من قِبل الوهابية البراغماتية مؤكّد منذ أكثر من قرنين من الزمان؛ فإنه يبدو الآن أنّه من المريح واللائق النظر إلى اتجاهات أخرى، لأسباب تتعلق بالفرص الاقتصادية أو الدبلوماسية المتاحة.
جهاديون لم يقرؤوا القرآن الكريم
ما هي ينابيع وهيكل الخطاب الأيديولوجي لداعش؟ ألا تكمن فعاليته أوّلاً في الوسائل المستخدمة؟

يقدّم الخطاب الجهادي لأتباعه عقيدة راسخة، قائمة على سور القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، وعلى نصوص لاهوتية، لإقناعهم بأنّ أيّ انحراف عن عقيدة الجهاد، هو مرادف للخيانة في حقّ "الإسلام الصحيح"، ومن ثمّ فإنّ سفك الدماء عملٌ "مشروع".

التعصّب والعنف لا ينبثقان من همجيّة لا اسم لها؛ بل من أيديولوجية هدفها أن تفرض نفسها بقوّة على العالم

إنّه صرح أيديولوجيّ حقيقي، تشكّل حججه اللاهوتية الأساسَ المبرّر للجوء إلى العنف، ولا يمكن لعمليات "التطرف السريع" أن تحدث إلا لأنّ هذه العقيدة معقدة، ومُهيكلة، وفوق كلّ شيء، متاحة.
ومن المسلَّم به أنّ هناك جهاديين لم يقرؤُوا القرآن الكريم مطلقاً، ولا يتحدّثون العربية إلا قليلاً جداً، إن لم يتحدثوا بها أصلاً، لكن من الخطأ عدّهم جميعاً غير متعلمين، لأنّ البعض منهم بلوروا التزامَهم الجهادي حول هذه المجموعة.
لا مجال للتنوع
الأمر ليس مجرد "غسل دماغ" بسيط، من شأنه أن يخلق كائنات بربرية؛ بل هو رؤيةٌ للتاريخ، و"مهمّة" عالمية، وتفسير للنصوص المقدّسة، التي صمّمتها وصاغتها "طليعة" نصَّبت نفسها خصيصاً لهذا الغرض، وأعلنت أنّ أهدافها في مصلحة رؤيتها القائمة على "الصالح العام"، ومن أجل فرض العقيدة السنيّة "الحقيقية"، وتطهير البشرية من عناصرها "النجسة"، ومن أجل مواجهة نهاية الزمن في أفضل الظروف؛ فرض هذا "الخير" يتحقق قبل كلّ شيء، باسم ما أسماه العالم اللغوي الألماني، فكتور كليمبرر، بـ "نظرية الواحد"، أي القناعة الراسخة بأننا نمتلك الحقيقة الوحيدة، وأنّ كلّ غيريّة (أي كلّ ما يخصّ الآخر في مقابل الأنا)؛ هي كذبة خطيرة.

اقرأ أيضاً: بقايا "داعش" في العراق وسوريا... الخطورة مستمرة
يأمر داعش تلاميذه بأن يُكرّسوا حياتهم لسيف الجهاد، من خلال نشر الشريعة، ومحاربة "الكفار"، الذين يرون أنّ وفاتَهم "مُطهِّرةً"، بل و"أخلاقية"، بالمعنى الذي طالب به الله، بحسب اعتقادهم؛ لذلك فمن الضروري أن نفهم أنّ التعصّب والعنف لا ينبثقان من همجيّة لا اسم لها، ولكن من أيديولوجية ذات ادعاء شمولي، هدفها أن تفرض نفسها بقوّة، على العالم، وألّا تفسح أيّ مجال للتنوع.
لا بدّ من تشخيص مستنير للوضع
بناء على دراستك لنصوص داعش الدعائية؛ ما هي نقاط القوة والضعف التي حدّدتَها في هذه المنظمة الإرهابية؟ كيف نحاربها بشكل أكثر فاعلية؟

إنّ الإستراتيجية الجهادية الحالية هي نتاج هجمات أقلّ فعالية، لكنّها أكثر تكراراً، لإقناعنا بأنه يمكن ضربنا في أي مكان وفي أي وقت، وعليه؛ فإنّ مخاوفنا ستؤثر في قدراتنا التحليلية، وننتهي إلى الاعتقاد بأنّنا أمام تعبئة طائفية، أو مرض عقلي، أو تعصّب عدمي. ومن الواضح أنّ كلّ هذا لا معنى له، ولا يصمد أمام الحقيقة والواقع.

اقرأ أيضاً: داعش يطلق حرباً سرية في أوروبا من هذه الدولة..تعرف عليها

لا توجد صورة نمطية، مثلما لا توجد ذئاب وحيدة؛ هناك في المقام الأول بعدٌ أيديولوجي، لا يمكننا محاربته بفعالية إلا عندما نقوم بتشخيص مستنير وعقلاني للوضع.

مراكز الاستئصال غير فعالة

هل يمكننا تخيّل "نهاية" الحرب على الإرهاب؟
تاريخياً؛ توجد أربع نتائج محتملة لأيّة ظاهرة إرهابية: الإرهابيّون يَخرجون منتصرين، أو تتحوّل منظمتهم إلى تشكيل سياسي قادر على التفاوض، أو يقضي القمع عليهم، أو تفشل حركتهم وتضمحل، بفعل الإحباط، أو بسبب عدم وجود نيّة تاريخية واضحة.
فمن الصعب جداً أن نتصوّر داعش على استعداد للتفاوض مع معارضيه، طالما أنّ أساس عقيدته هو تدمير كافة "الكفار" و"المرتدّين"، كما لا يمكننا أن نتخيل انتصار الجهاديين؛ لأنّ هذا الانتصار يعني بالضرورة تمديد وتوسيع ونشر عقيدتهم إلى الكوكب بأكمله، وتحويل جميع سكانه إلى عقيدتهم، وفرضها عليهم، أمّا العقاب، إذا لزم الأمر، فسوف يظهر بدوره غير كاف ضدّ خلايا نائمة، وأفراد لا يمكن التنبؤ بتصرفاتهم المفاجئة في كثير من الأحيان، والذين لا تعتمد هجماتهم على تنسيق مركزي منظّم، بقدر ما تعتمد على أيديولوجيا راسخة في نفوسهم.

اقرأ أيضاً: آخر هزائم تنظيم داعش في سوريا
يبقى هناك سبيل التنازل؛ إذا كان بديهياً، اليوم، أننا لا نستطيع القيام بذلك، من خلال مراكز استئصال التطرف، التي أثبتت إلى حدّ كبير أنها غير فعالة تماماً، فإنّ محاولاتنا في الخطاب المضاد لم تكشف، إلى الآن، سوى عدم تطابقها مع الفكر الجهادي الذي تظل عقيدته وقيمه منيعة تماماً أمام خِطابنا.

أيّ عودة لداعش ليست مستبعدة

منطق داعش: التعرّض للقتل في حد ذاته انتصار

في هذا الصدد؛ يجب أن نفهم جيداً أنّ رؤيتنا لهزيمة داعش العسكرية على المسرح السوري-العراقي، هي رؤية أبعد ما تكون عن أن تكون رؤية مشتركة من قبل الجهاديين؛ ففي نظرهم، سقوط الخلافة يندرج ضمن جريمة غربية علمانية سوف يثأرون لها، عاجلاً أم آجلاً، أيديولوجيتهم في الحقيقة تسمح لهم بكسب المزيد من العقول، كلّما تكبّدوا الخسائر والانتكاسات أكثر فأكثر، لكن المتحدّث السابق باسم داعش، أبو محمد العدناني نفسه، قال: "التعرّض للقتل  في حدّ ذاته انتصار"؛ لذلك، فإنّ أكبر خطأ هو الاعتقاد بأنّ مسألة هزيمة داعش العسكرية يمكن أن تحلّ وتُنهي قضيةَ "الحرب على الإرهاب".

اقرأ أيضاً: داعش والقاعدة... من الافتراق إلى الاندماج
إنّ الدروس المستفادة من هزيمة سابقته (دولة العراق الإسلامية)؛ تبيّن لنا أنّ أيّ عودة لداعش، على المسرح السوري-العراقي، أو حتى في أفغانستان، ليست مستبعدة، ناهيك عن العديد من الانبثاثات الجهادية التي أنتجتها المجموعة خارج هذه المنطقة؛ لذلك، ينفذ داعش، حرفياً، مفارقة أشكال العنف السياسي في عصرنا، وهي "الانتشار في كلّ مكان، وليس في مكان بعينه فقط، والتجدّد، والبعث من جديد".


المصدر: chronik.fr
 


الهوامش:
(1) Millennialism  العقيدة الألفية المسيحية، ومجيء يسوع المسيح الثاني
يقول الكاتب محمد يوسف عدس، في شأن هذه الألفية: "هذا بتاريخ أوروبا المسيحية حافل بمواعيد عودة المسيح إلى الأرض؛ حيث شاع في أوروبا قرب نهاية الألفية الأولى لميلاد المسيح نبوءة عودة المسيح، فهرع الناس لاستقباله في أفواج كثيفة، قاصدين بيت المقدس، تاركين وراءهم الأهل والأصدقاء، وقد عُرف هذا النزوح الكبير للحجاج في تاريخ أوروبا بـ "جيش الخراب"؛ ذلك لأنّ الناس تحت تأثير فكرة نهاية الزمن فقدوا الاهتمام ببناء منازلهم، أو إصلاحها، بل أهملوها، حتى تحوّلت إلى خرائب وأنقاض، أمّا الذين لم يخرجوا إلى الحجّ؛ فقد خرجوا بنسائهم وأبنائهم في الطرقات ينشدون الأناشيد الدينية، ويتطلعون إلى السماء بعيون الخوف والرجاء، متوقعين في أيّة لحظة أن يهبط عليهم ابن الإله في بهائه، ومجده السماوي..".

الصفحة الرئيسية