الفلسفة الإسلامية: مشروع النسيان والنبذ

الفلسفة الإسلامية: مشروع النسيان والنبذ

الفلسفة الإسلامية: مشروع النسيان والنبذ


30/01/2024

لا يفتأ البحث، من قبل المستشرقين وأبناء الثقافة العربية الإسلامية، منذ القرن التاسع عشر، يعمل على "اكتشاف" الفلسفة الإسلامية، ومحاولة تفسيرها، لما تحتوي عليه من "عقلانية" كان المشرق العربي، في لحظة النهضة، في حاجة إليها للنهوض معرفياً، ولمجابهة الغرب "العقلاني". وإذا كان بحث المستشرقين، للفلسفة الإسلامية، يندرج ضمن مجمل بحوثهم عن الإسلام وتشكّلاته وعلومه ولغته، فإنّ أبناء ثقافتنا كان همّهم الأول "تجميل" صورة المشرق المسلم، وإظهار أنّ لديه معرفة عقلانيّة، يمكن أن يناقش من خلالها الغرب، بديلاً عن الموروث الفقهي الذي تسيّد تاريخ الإسلام عموماً.

لقد خضع الإسلام وتراثه الفقهي واللغوي والفلسفي إلى متخيّل استشراقي جامح منذ القرن التاسع عشر

لقد خضع الإسلام، وتراثه الفقهي واللغوي والفلسفي، إلى متخيّل استشراقي جامح، منذ القرن التاسع عشر، وكان هذا الإخضاع عبارة عن قراءة الأنا المستشرِقة لنفسها ضمن تاريخ الآخر الإسلامي، بحيث يجعل من الحضارة الإسلاميّة "امتداداً" لحضارته السحيقة، اليونانيّة، التي ينتمي إليها؛ ولذلك، من جملة ما خضع لهذا المتخيّل الاستشراقي كانت الفلسفة الإسلامية، التي رأى البحث الاستشراقي أنها معانٍ يونانيّة بحروف عربيّة، ويمكن أن نلحظ ذلك بوضوح عند رينان، وقد تعرّض لنقدٍ شديد، ليس هذا محلّه.
ليست المشكلة، في عمقها، ناجمة من إعادة تعريف الآخر الاستشراقي للحضارة الإسلاميّة ولعلومها، بقدر ما أنّها في تسرُّب هذه "اللهجة الاستشراقيّة" في مخيال النخبة العربيّة والإسلاميّة، والتي هي مستمرّة إلى اليوم. لأنّه، كما أنّ الآخر يُخضعنا لمتخيّله عنّا، فإنّنا كذلك نقوم بتصوّره ضمن متخيّل مصنوع، ونقوم بتفسيره ضمن هذا الخطاب (بالمعنى الفوكوي لمفهوم الخطاب) ونحلّله فيه.

اقرأ أيضاً: ما سر عداء رجال الدين للفلسفة والمنطق؟
فالقول بأنّ الفلسفة الإسلاميّة هي فلسفة يونانية خالصة بحروف عربيّة، ليس فقط قول المستشرقين الذي درّسونا، بل هو قول بعض الدارسين المهمّين في العصر الحديث، كالشيخ مصطفى عبد الرازق في كتابه المهمّ "مدخل إلى تاريخ الفلسفة الإسلاميّة"، وتلميذه علي سامي النشّار، في كتابه "تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام"، وكذلك يمتدّ إلى طه عبد الرحمن وغيره من الباحثين. وفي إشارة ذكيّة للجابري في كتابه "الخطاب العربي المعاصر"، يحلّل الجابري قول الشيخ مصطفى عبد الرازق، ويرى كيف أنّ الشيخ السلفي قد تقاطع بشكلٍ كبير مع القول الاستشراقي، ولكن من زاوية أخرى.

اقرأ أيضاً: هل كان العرب عالة على الفلسفة اليونانية؟
فإذا كان القول الاستشراقي حول الفلسفة الإسلاميّة يقول بيونانيتها، فهو كذلك لأنّه ناتج من مركزية أوروبية ليست وليدة اليوم، ولعلّ أهمّ فيلسوف عبّر عنها هو هيغل، حين اعتبر أنّ هناك من الحضارات ليس لديها تاريخ، كإفريقيا مثلاً، ولا بد من إدخالها ضمن مفهوم التاريخ، الذي هو أوروبي بالضرورة، وأصوله يونانية. بيد أنّ الباحثين العرب الذي يشتركون مع القول الاستشراقي، فلهم منطلق مختلف، وهنا أركّز على رؤية الشيخ مصطفى عبد الرازق وتلاميذه.
الشيخ، مصطفى عبد الرازق، خلصَ إلى نتيجة طريفة تقول إنّه إذا أردنا، فعلاً، أن نبحث عن الفلسفة الإسلاميّة، فيجب ألا نبحث عنها في مصنّفات الفارابي وابن رشد، وإنّما في مجال آخر، وهو علم الكلام وعلم أصول الفقه بشكلٍ رئيس. فما نُطلق عليه "فلسفة إسلامية"، أو "عربيّة"، أو غيره مما هو شائع في معجمنا؛ ليس إلّا فلسفة يونانية خالصة، أدخل عليها متفلسفةُ الإسلام رتوشاً هنا وهناك، وهي ليست من إنتاجهم.

اقرأ أيضاً: أشهر 6 نساء مؤثرات في تاريخ الفلسفة
يظلّ الحديث عن الفلسفة الإسلامية جديداً، رغم كثرة ما أُثير حول وجود هذه الفلسفة وفاعليتها، ويبدو أنّ البحث الاستشراقي، بأسئلته التي أثارها، هو مَن جعل تقليداً كاملاً من البحث العربي عن تلك الفلسفة. إلّا أنّه لا بدّ من الاعتراف، بشيءٍ من الحيطة والحذر، أنّ تلك الفلسفة كان مشكوكاً في أمرها، في الزمان القديم، وأنّ اتهامها بـ"يونانيتها" ليس وليد اللحظة الاستشراقية أو التفكير العربي والإسلامي الحديث بشأنها؛ فقد كان الأفق الإسلامي ينظر إليها بوصفها لسان يونان في العرب، رغم جهود مضنية، أهمّها جهود الفارابي وابن سينا وابن رشد، للتشريع لوجود الفيلسوف في الثقافة الإسلامية.
لا يهمّني إشكال وجود هذه الفلسفة من عدمه، وربّما كان البحث وراء تلك الأسئلة مضيعة للوقت، خاصّة في وجود اجتهادات فلسفية عربية في مفاهيم فلسفية كالسعادة والعلم والوجود. ما يهم بالأساس هو السؤال التالي: هل هناك تقليد أرسته الفلسفة العربية للآتين بعدها؟ بمعنى آخر؛ هل يمكنُ الحديث عن تقاليد فلسفيّة بعينها يمكن اتباعها من قبلنا، نحن أبناء ما بعد الفلسفة الإسلامية؟ إنّ الإجابة محوطة بكثير من الحذر، ولا أحاول الجواب بقدر ما أحاول الفهم.

اقرأ أيضاً: السؤال الأخلاقي في فلسفة طه عبد الرحمن: من النظر إلى العمل
نلاحظُ أنّ الفلسفات لا تكون ذات قيمة بقدر ما تفتح هذه الفلسفة أو تلك من آفاق اشتغال للذين يأتون بعدها، أي قدرتها على تنشيط التفكير في مسائل فلسفيّة أبعد من خطوتها وأعلى من كتفها. كانتِ الفلسفة الوسيطة المسيحيّة فلسفة خافتة، رغم وجود أعلام هامّة مثل أوغسطين، إلّا أننا نلاحظ أنّ الفلسفات الحديثة استطاعت أنْ تستوعب تلك الفلسفة الوسيطة بالدخول في الحوار معها، خاصة أغسطين وتوما ألاكويني، ومن ثمّ إنشاء براديغم جديد تعمل من خلالها الفلسفة الحديثة، ومن ثمّ تصبح قادرة على عمل تقليد من تلك الفلسفة الوسطية؛ كالتقليد القديم.

اقرأ أيضاً: هل ما زلنا في حاجة إلى الفلسفة؟
في حالتنا العربية؛ لم نستطع أنْ نجري حواراً جريئاً مع ما يسمّى "الفلسفة الإسلامية"، ولم نستطع بعدُ أنْ ننشئ منها تقليداً فلسفيًاً لذواتنا التراثيّة. هل فشلت الفلسفة الإسلامية أم نحن الذين فشلنا؟ ربّما ليس الأمر في مجرّد الفشل، بقدر ما هو في كون الفلسفة الإسلامية ما زالت غريبة بعد من كلّ الجهات: غريبة في بيتها، وغريبة عن الاعتراف الكوني الفلسفي، وغريبة عنّا كعرب مسلمين. إنّ تلك الغربة التي أصيبت بها فلسفتنا منذ نشأتها المنبوذة هي التي جعلت منّا غير قادرين على الاحتماء بها كفضاء لاستئنافنا الفلسفي الحاضر، وإن كلّ محاولة لفلسفة عربية أصيلة تبدأ الآن تفعلُ أول ما تفعلُ بالتنكّر لتلك الفلسفة التي ورثناها، وإلقاء التّهم عليها ومحاكمتها بوصفهاً تقليداً لا فلسفيًاً. تلك الفلسفة اليتيمة التي ولدت من أبٍ عاق لها لم يعترف بها هو الأب اليوناني، ولم يعترف أحفادها بها كذلك في السياق الإسلامي.

يحلو لكثير من المفكرين العرب الحداثيين إرجاع فشل الفلسفة الإسلاميّة إلى السياق الإسلامي نفسه وإلى سيطرة الفقهاء

وفي هذا السياق، يحلو لكثير من المفكرين العرب الحداثيين أن يُرجعوا هذا الفشل للفلسفة الإسلاميّة إلى السياق الإسلامي نفسه وإلى سيطرة الفقهاء، واحتمائهم بالسلطة ضدّ الفلاسفة. وهذه نظرة يعتريها قصر نظر، واختزال بالغ، لأنّها قراءة لديها موقف جوهراني كلّي عن الثقافة الإسلامية والفقه عموماً، لا سيّما أنّ هناك من الفقهاء من تمّ تهميشهم من قبل السلطة مثلما حدث مع أحمد بن حنبل. فالذي أقصى ابن حنبل، لم يكن ينتصر للفقهاء على الفلاسفة، بل العكس؛ كان ينتصر للمعتزلة "العقلانيين" ضدّ الفقهاء "النصّيين". ولهذا لا بدّ من مقاربة آليات الإقصاء والتهميش ليس إلى طبيعة السياق، أو إلى نظرة جوهرانية معيّنة؛ وإنّما إلى علاقة السلطة بالمعرفة. فكما تمّ إقصاء ابن حنبل، تمّ إقصاء ابن رشد لاحقاً.

اقرأ أيضاً: أثر الفلسفة في تجديد الفكر الديني
وثمّة مشكل آخر، ربّما يكون سبباً في عدم استغلال تلك الفلسفة الإسلامية لنا اليوم، ألا وهو انعدام التعامل المفاهيمي مع هذه الفلسفة. فنجد أنّنا لم نشتغل على مفاهيم بعينها: العدالة، الوجود، الذات،... وتحويلها إلى تقاليد لـ"فلسفة عربيّة"، نستطيع أنْ نستأنف منها جهودنا المعاصرة بإشباع هذه المفاهيم والعمل عليها كتعبير عن فلسفة تدخل ضمن الإطار الكوني للفلسفة. بل حتى مفهوم الفلسفة نفسه لم نبلور منه، نظرياً، تعريفاً مستقلاً، وذلك لخريطة العمل الفلسفي المستقلّ؛ فالتعاريف مشبعة بتصور كلّ أمة عن نفسها.
وكان المأمول من المشاريع العربية التي جاءت بعد الرهانات، والمرواغات، النهضوية الخاسرة أنْ تقوم بهذا العمل، عنيتُ "مشاريع قراءة التراث"، لكن، للأسف، وكما يعبّر فتحي المسكيني؛ فقد "حول قرّاء التراث الفلسفةَ إلى حيوان تراثي". بمعنى أنّهم دخلوا في عمل لا فلسفي من جهة فلسفيّة، فلم تثمر الجهود إلّا على مستوى إصلاحي ضمن أفق النهضة نفسه، وليس كما يصوّرون أنّه خارجه.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية