طه حسين إذ يقلّب كتاب الأيام ويحدّق في الألم

طه حسين إذ يقلّب كتاب الأيام ويحدّق في الألم


07/01/2019

"الأيام" كتاب عن أيام أتت وولّت على طه حسين يسردها في هذا الكتاب ليروي بها قصة حياته وطفولته في قريته وشقاوته مع شيخه، ثم الانتقال إلى أعمدة الأزهر، حيث كان يتجلى كل أمل أبيه أن يراه عالماً يعتكف على أحد تلك الأعمدة يدرّس فيها طلابه. ذهب طه حسين إلى الأزهر وفي مخيلته صورة جميلة عن الأزهر لم تزل حتى اقتحم القاهرة وعاش وتنقل بين صحون وأعمدة الأزهر وعاش فيها ما عاش ورأى فيها ما رأى.

اقرأ أيضاً: "الأيام": كيف وظّف طه حسين الأسطورة لتحرير العقل؟

طرز طه حسين، في "الأيام" كما يقول نقاده، سيرة ذاتية جميلة حيادية وموضوعية فيها الكثير من التواضع ومن الشجاعة والاعتراف بالأخطاء والصبر على مصائب الحياة دعت إلى السؤال هل يمكن أن يكافح الإنسان ويجاهد هذه الحياة ويرضي طموحه إذا فقد بصره في يوم من الأيام؟ هل تظلِم الحياة بذهاب نور البصر أم تنطفئ شمعتها بظلمة الإصرار والتحدي؟

إجابة السؤال يمكن أن يجدها القارئ في سيرة هذا الإنسان، وفي أجزاء الكتاب المكوّن من ثلاثة أجزاء، حيث في الجزء الأول يتحدث طه حسين عن طفولته بما تحمل من معاناة، ويحدثنا عن الجهل المطبق على الريف المصري وما فيه من عادات حسنة وسيئة في ذلك الوقت. وفي الجزء الثاني يتحدث عن المرحلة التي امتدت بين دخوله الأزهر وتمرده المستمر على مناهج الأزهر وشيوخه ونقده الدائم لهم وحتى التحاقه بالجامعة الأهلية. ويتحدث الجزء الثالث عن الدراسة في الجامعة الأهلية، ثم سفر طه حسين إلى فرنسا وحصوله على الليسانس والدكتوراه ودبلوم الدراسات العليا، ثم العودة إلى مصر أستاذاً في الجامعة. وهنا نكتفي بإطلالة على الجزء الأول المكتوب بلغة لا تشبهها أية لغة. إنها لغة طه حسين.

غلاف كتاب "الأيام" لطه حسين

الكتاب الأول

لا یذكر لهذا الیوم اسماً، ولا یستطیع أن یضعه حیث وضعه اللّه من الشهر والسنة، بل لا یستطیع أن یذكر من هذا الیوم وقتاً بعینه، وإنما یقرّب ذلك تقریباً.

وأكبر ظنه أن هذا الوقت كان یقع من ذلك الیوم في فجره أو في عشائه. یرجح ذلك لأنه یذكر أن وجهه تلقى في ذلك الوقت هواءً فیه شيء من البرْد الخفیف الذي لم تذهب به حرارة الشمس. ویرجح ذلك لأنه على جهله حقیقة النور والظلمة، یكاد یذكر أنه تلقّى حین خرج من البیت نوراً هادئاً خفیفاً لطیفاً كأن الظلمة تغشى بعض حواشیه.

الأيام: كان كثیراً ما یستیقظ فیسمع تجاوب الدیكة وتصایح الدجاج، ویجتهد في أن یمیز بین هذه الأصوات المختلفة

ثم یرجح ذلك لأنه یكاد یذكر أنه حین تلقى هذا الهواءَ وهذا الضیاء لم یأنس من حوله حركة یقظة قویة، وإنما آنس حركة مستیقظة من نوم أو مقبلة علیه. وإذا كان قد بقي له من هذا الوقت ذكرى واضحة بیّنة لا سبیل إلى الشك فیها، فإنما هي ذكرى هذا السیاج الذي كان یقوم أمامه من القصب، والذي لم یكن بینه وبین باب الدار إلا خطوات قصار.

هو یذكر هذ السیاج كأنه رآه أمس. یذكر أن قصب هذا السیاج كان أطول من قامته، فكان من العسیر علیه أن یتخطاه إلى ما وراءه. ویذكر أن قصب هذا السیاج كان مقترباً كأنما كان متلاصقاً، فلم یكن یستطیع أن ینسل في ثنایاه. ویذكر أن قصب هذا السیاج كان یمتد عن شماله إلى حیث لا یعلم له نهایة، وكان یمتد عن یمینه إلى آخر الدنیا من هذه الناحیة. وكان آخر الدنیا من هذه الناحیة قریباً، فقد كانت تنتهي إلى قناة عرفها حین تقدمت به السن، وكان لها في حیاته ـ أو قل في خیاله ـ تأثیر عظیم.

كان یحسد الأرانب

یذكر هذا كله، ویذكر أنه كان یحسد الأرانب التي كانت تخرج من الدار كما یخرج منها، وتتخطى السیاج وثباً من فوق، أو انسیاباً بین قصبه، إلى حیث تقرض ما كان وراءه من نبت أخضر، یذكر منه الكرنب خاصة.

اقرأ أيضاً: تجليات النقد والتنوير عند طه حسين

ثم یذكر أنه كان یحب الخروج من الدار إذا غربت الشمس وتعشَّى الناس، فیعتمد على قصب هذا السیاج، مفكراً مغرقاً في التفكیر، حتى یردَّه إلى ما حوله صوت الشاعر قد جلس على مسافة من شماله، والتف حوله الناس وأخذ ینشدهم في نغمة عذبة غریبة أخبار أبي زید وخلیفة ودیاب، وهم سكوت إلا حین یستخفهم الطرب أو تستفزهم الشهوة، فیستعیدون ویتمارون ویختصمون، ویسكت الشاعر حتى یفرغوا من لغطهم بعد وقت قصیر أو طویل، ثم یستأنف إنشاده العذب بنغمته التي لا تكاد تتغیر.

ثم یذكر أنه كان لا یخرج لیلة إلى موقفه من السیاج إلا وفي نفسه حسرة لاذعة، لأنه كان یقدّر أن سیقطع علیه استماعه لنشید الشاعر حین تدعوه أخته إلى الدخول فیأبى فتخرج فتشده من ثوبه فیمتنع علیها، فتحمله بین ذراعیها ... وتعدو به إلى حیث تنیمه على الأرض وتضع رأسه على فخذ أمه، ثم تعمد هذه إلى عینیه المظلمتین فتفتحهما واحدة بعد الأخرى، وتقطر فیهما سائلاً یؤذیه ولا یجدي علیه خیراً، وهو یألم ولكنه لا یشكو ولا یبكي لأنه كان یكره أن یكون كأخته الصغیرة بكّاءً شكّاءً.

صورة تجمع طه حسين وهيلين كيلر

على حصیر قد بسط علیها لحاف

ثم یُنقل إلى زاویة في حجرة صغیرة، فتنیمه أخته على حصیر قد بسط علیها لحاف، وتلقي علیه لحافاً آخر، وتذره وإنّ في نفسه لحسرات، وإنه لیمدّ سمعه مداً یكاد یخترق به الحائط لعله یستطیع أن یصله بهذه النغمات الحلوة التي یرددها الشاعر في الهواء الطلق تحت السماء. ثم یأخذه النوم، فما یحس إلا وقد استیقظ والناس نیام، ومن حوله إخوته وأخواته یغطون فیسرفون في الغطیط، فیلقي اللحاف عن وجهه في خیفة وتردد، لأنه كان یكره أن ینام مكشوف الوجه. وكان واثقاً أنه إن كشف وجهه أثناء اللیل أو أخرج أحد أطرافه من اللحاف، فلابد من أن یعبث به عفریت من العفاریت الكثیرة التي كانت تعمر أقطار البیت وتملأ أرجاءه ونواحیه، والتي كانت تهبط تحت الأرض ما أضاءت الشمس واضطرب الناس. فإذا أوت الشمس إلى كهفها، والناس إلى مضاجعهم، وأطفئت السُّرج، وهدأت الأصوات، صعدت هذه العفاریت من تحت الأرض وملأت الفضاء حركة واضطراباً وتهامساً وصیاحاً.

طرز طه حسين، في "الأيام" كما يقول نقاده، سيرة ذاتية جميلة حيادية وموضوعية فيها الكثير من التواضع ومن الشجاعة

وكان كثیراً ما یستیقظ فیسمع تجاوب الدیكة وتصایح الدجاج، ویجتهد في أن یمیز بین هذه الأصوات المختلفة. فأما بعضها فكانت أصوات دیكة حقاً، وأما بعضها الآخر فكانت أصوات عفاریت تتشكل بأشكال الدیكة وتقلدها عبثاً وكیداً.

ولم یكن یحفل بهذه الأصوات ولا یهابها، لأنها كانت تصل إلیه من بعید. إنما كان یخاف الخوف كله أصواتاً أخرى لم یكن یتبینها إلا بمشقة وجهد، كانت تنبعث من زوایا الحجرة نحیفة ضئیلة، یمثل بعضها أزیز المرجل یغلي على النار، ویمثل بعضها الآخر حركة متاع خفیف ینقل من مكان إلى مكان، ویمثل بعضها خشباً ینقصم أو عوداً ینحطم.

اقرأ أيضاً: طه حسين: إيمان بانقشاع الظلمة ولو بعد حين

وكان یخاف أشد الخوف أشخاصاً یتمثلها قد وقفت على باب الحجرة فسدّته سداً، وأخذت تأتي بحركات مختلفة أشبه شيء بحركات المتصوفة في حلقات الذكر. وكان یعتقد أن لیس له حصن من كل هذه الأشباح المخوفة والأصوات المنكرة، إلا أن یلتف في لحافه من الرأس إلى القدم، دون أن یدع بینه وبین الهواء منفذاً أو ثغرة.

كان یقضي لیله خائفاً مضطرباً

وكان واثقا أنه إن ترك ثغرة في لحافه فلا بد من أن تمتد منها ید عفریت إلى جسمه فتناله بالغمز والعبث. لذلك كان یقضي لیله خائفاً مضطرباً، إلا حین یغلبه النوم، وما كان یغلبه النوم إلا قلیلاً. كان یستیقظ مبكراً أو قل كان یستیقظ في السحر، ویقضي شطراً طویلاً من اللیل في هذه الأهوال والأوجال والخوف من العفاریت، حتى إذا وصلت إلى سمعه أصوات النساء یعدن إلى بیوتهن وقد ملأن جرارهن من القناة وهن یتغنین (االله یالیل االله....)، عرف أن قد بزغ الفجر، وأن قد هبطت العفاریت إلى مستقرها من الأرض السفلى، فاستحال هو عفریتاً، وأخذ یتحدث إلى نفسه بصوت عالٍ، ویتغنى بما حفظ من نشید الشاعر، ویغمز من حوله من إخوته وأخواته، حتى یوقظهم واحداً واحداً.

اقرأ أيضاً: كيف دافع طه حسين عن الإسلام في رده على أندريه جيد؟

فإذا تم له ذلك، فهناك الصیاح والغناء، وهناك الضجیج والعجیج، وهناك الضوضاء التي لم یكن یضع لها حداً إلا نهوض الشیخ من سریره، ودعاؤه بالإبریق لیتوضأ.

حینئذ تخفت الأصوات وتهدأ الحركة، حتى یتوضأ الشیخ ویصلي ویقرأ ورده ویشرب قهوته ویمضي إلى عمله.

فإذا أغلق الباب من دونه نهضت الجماعة كلها من الفراش، وانسابت في البیت صائحة لاعبة حتى تختلط بما في البیت من طیر وماشیة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية