بين سياسات ترامب ووعوده الانتخابية

بين سياسات ترامب ووعوده الانتخابية


08/01/2019

عبد الوهاب بدرخان

يُدار العالم بلا أجندة مشتركة، عبر الأمم المتحدة مثلاً أو بتوافقات الدول الكبرى، وإنما بلائحة الوعود الانتخابية للرئيس الأميركي، لذا بات الباحثون يضعونها الآن أمام أعينهم في مراقبتهم للسياسات التي يطبّقها دونالد ترامب، ويلومون أنفسهم كلما أهملوها أو مالوا إلى نسيانها، إذ اعتادوا على تقليد ثابت بأن معترك الحكم لا يتيح سوى الوفاء بالوعود الواقعية.

خرج باراك أوباما من البيت الأبيض والجميع يذكّره بأنه لم يتمكّن من إغلاق معسكر الاعتقال في جوانتانامو، كما وعد.

وانقضى عهد جورج دبليو بوش فيما الجميع يذكّره بعبارته المتسرّعة في شأن العراق، "المهمة أنجزت"، ولم تكن وعداً انتخابياً بل استجابة لرأي عام أمريكي وحتى دولي لم يقتنع بدوافع الحرب واعتبر أن الواقع الذي أنتجته أبعدها عن أهدافها.

وإذ بنى خلفه أوباما شعبيته على الانسحاب من العراق، بل كان أبرز وعوده الانتخابية، فإن خلفه التالي ترامب لا ينفكّ يلوم سلفه على هذا الانسحاب الذي جاء بإرهاب "داعش" وعزّز الهيمنة الإيرانية على العراق ثم تغلغلها في سوريا واليمن، إضافةً إلى تغوّلها في لبنان.

قيل في حينه عن الانسحاب من العراق ما يقال الآن، بل أكثر منه، عن الانسحاب من سوريا كما قرّره ترامب تلبيةً لوعد انتخابي، فهو يفتح الآفاق أمام كل الاحتمالات السيئة، وأبرزها انتعاش النفوذ الإيراني فيما تقول إدارته إنها تريد تقليصه، ومعه عودة الإرهاب ب "داعش" أكثر وحشية فيما يقول ترامب نفسه أنه ملتزم بالقضاء عليه.

لكن يبدو أن الوعد الانتخابي بات أقوى وأهم من أهداف استراتيجية حدّدتها أميركا لنفسها، بمعزل عن النتائج والتداعيات على الحلفاء والأصدقاء.

إلى البلبلة التي أحدثها قرار الانسحاب، أضيفت بلبلة أخرى مع إشاعة الانطباع بإمكان مراجعته وإبطائه، إذ أصبح من الظواهر الترامبية أن يُناقَش القرار بعد اتخاذه وليس قبله، وأن المستشارين يمكن أن يُبدوا ما يشأوون من آراء لكن الرئيس يقرر ما شاءه منذ البداية، وحين وافق على "عقلنة" قراره بعد الاستماع إلى رأي ليندسي جراهام، فإن الأخير لم يأتِ بشيء لم يقله "جيمس ماتيس" وجنرالات آخرون قبله، وهم أكثر معرفة بالشؤون الميدانية وأكثر تحسّساً بالأبعاد السياسية لأي تدخّل عسكري أميركي.

ما يفرّق بين ترامب وجنرالاته أنهم يعملون وفقاً لاستراتيجية تبنّاها الرئيس، وليس وفقاً لوعوده الانتخابية، ثم أنهم لا يستطيعون مجاراته في دفع الآخرين إلى تحمّل أكلاف التدخّل من دون أن يضمنوا للآخرين مصالحهم من هذا التدخّل.

يجدر إذاً التعامل مع الوعود الانتخابية على أنها البرنامج الحقيقي لترامب، ومن الواضح أن هناك فريقاً يتابع حقنها في السياسات التي يتّبعها.

كان أبرز ما نفّذ منها خارجياً، كالانسحاب من اتفاق باريس للمناخ، ومن الاتفاق النووي مع إيران، من دون طرح تعديلات أو بدائل، وقد أحدث حتى الآن انقساماً غير مجد بين الدول الكبرى.

ومنها أيضاً إلغاء اتفاق التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا) ثم استبداله باتفاق آخر بشروطه، وإطلاقه حرباً تجارية مع الصين في انتظار اتفاقات جديدة بشروطه أيضاً لكن بأثمانٍ سياسية ثقيلة ستظهر لاحقاً.

ومن وعوده أيضاً إقامة علاقة توافقية مع روسيا لكن تدخّلات الأخيرة لم تمكّنه من تحقيق هدفه وقد تضعه بواجهة الكونغرس في ما تبقّى من ولايته. أما إعادة التفاوض على عضوية الولايات المتحدة في حلف "الناتو" فقد تكون إحدى حملاته المتوقّعة خلال هذه السنة. لكن أكثر الوعود تخريباً للدور الأميركي في الشرق الأوسط كان اعترافه بالقدس عاصمةً لإسرائيل ونقله السفارة الأمريكية، ومن المرجّح أن يضيف إليه اعترافاً بالجولان السوري "إسرائيلياً" وغير محتل.

أما داخلياً فلم يستطع بعد تنفيذ أحد أكبر وعوده، أي إلغاء قانون أوباما للرعاية الصحيّة، سواء بسبب الانقسام الكبير بين "الجمهوريين" في الكونجرس أو لعدم طرح بديل مناسب.

ومع هيمنة "الديموقراطيين" على مجلس النواب ارتفع أخيراً جدار بين ترامب والكونجرس، بدءاً برفض تمويل الجدار مع المكسيك، وهذا أيضاً من أهم وعوده، وقد باشر إقامة الجدار متناسياً أنه تعهّد بأن المكسيك ستموّله...وهكذا فإن الاهتمام بإرضاء القاعدة الانتخابية، تحت شعار "أميركا أولاً"، لا يزال داخلياً على محك إثبات مصداقية تغريدات ترامب بأنه مجدٍ اقتصادياً ومالياً وفرصَ عملٍ، وهو ما ينقضه خصومه وبعض محازبيه. أما في الخارج فأصبح واضحاً أن "أميركا أولاً" راكم جبالاً من الشكوك حول أميركا كمثال وحلم ونموذج عالمي لا تضاهيها سوى جبال من الشكوك في أي بديل منها.

عن "الاتحاد"

الصفحة الرئيسية