كيف ردّ محمد فريد وجدي على الملحدين؟

كيف ردّ محمد فريد وجدي على الملحدين؟


14/11/2021

يقول شبلي شميل: "مع مطلع تحولات التغيير من قرن لقرن تشتدّ موجات الإلحاد في العالم نتيجة التغييرات المتلاحقة التي تحدث"، إن بدت هذه المقولة عصيّة على التعميم، لكن يبدو أنّها تصدق على ما حدث في النصف الأول من القرن العشرين كما عند إسماعيل أدهم (1911-1940) صاحب رسالة "لماذا أنا ملحد" (1937)، الذي يقول فيها: "إنّ الإيمان بوجود إله يرجع إلى جهل الناس بحقيقة الطبيعة، والإصغاء للكهنة الدجالين الذين ابتدعوا فكرة الله، لخداع الناس وتضليلهم، وابتزازهم".

اقرأ أيضاً: بعد اتهامهم بالإلحاد... ملاحقات أمنية تطال شباباً عراقيين
رداً على هذا الاتجاه الذي ترافق مع "فتنة العلم الحديث" ظهرت مؤلفات للتصدي للدهريين أو الماديين، كما في رسالة الأفغاني (الردّ على الدهريين)، ومصطفى صبري "موقف العقل والعلم والعالم من ربّ العالمين وعباده المرسلين"، والنورسي في رسالة "الطبيعة"، إضافة إلى كتاب محمد فريد وجدي "على أطلال المذهب المادي".
طبيعة المذهب المادي
يشرح محمد فريد وجدي (1878-1954)، في كتابه الصادر العام 1921، مؤدى المذهب المادي، بأنّ أصحابه يقولون إنّ "الوجود قديم، وإنّ المادة هي مصدر كلّ كائن ومرجعه، وكلّ ما عدا هذا، عمّا أتت به الأديان والفلسفة من وجود عقل مدبر، وروح مفكر، وعالم ما وراء هذا العالم، زخارف كلامية ولّدها الخيال، وتمسّك بها الجهّال، لقد حكم هؤلاء بأنّ نواميس الكون كافية لتعليل كل ظواهره وقوانينه، وأنهم قد فسروا أكثر غوامضه، فلا داعي لفـرض قـــوى وراء الطبيعة، ولا موجب لتوهُّم عالم علوي وراء هذا المرئي المحسوس".

اقرأ أيضاً: الإلحاد في العالم العربي: نقد التدين أم هدم الدين؟
ويـرى وجدي أنّ هذه الطائفة أنكرت الروح، والخلود، والبعث، والحشر، والعقاب، والثواب، وزعمت أنّ ذلك كلّه من "خيالات الأفكار القديمة، وبقية من بقايا السالفين سيلاشيها العلم والعرفان، ويجعلها التمدن في زوايا النسيان".
وإذا كان الاتجاه المادي يدعم إلحاده بمنتجات العلم؛ فإنّ فريد وجدي يطالب أصحاب العقائد بدحض هذه الشبه من جهة العلم؛ لأنّه إذا بقيت تحديات المذهب المادي قائمة، ولم تتقابل بما يدحضها من الطريق العلمي ظلت ثابتة قوية، وظلّ الدين حيالها ضعيف الحجة ليس له من عاصم غير التسليم.

رداً على الاتجاه الإلحادي الذي ترافق مع "فتنة العلم الحديث" ظهرت مؤلفات للتصدي للدهريين

ويبدأ فريد وجدي نقده للماديين بمحاولة إبراز حدود العلم، بنفي قدرته على تفسير كلّ شيء فيقول للماديين: "أنتم تقولون العلم يثبت، العلم ينفي، العلم يأمر، العلم ينهى، وبالتالي فأنتم تضعون على شفتي هذا العلم المسكين هذه الكلمات الضخمة، وتدخلون إلى فؤاده هذه الكبر والعجب، لا -أيها السادة- إنّ العلم في هذه المسائل ما وراء الطبيعة، لا ينكر شيئاً، ولا يثبت شيئاً، ولكنه يبحث، وأنتم تعلمون ذلك كلّه، ولا تجهلونه، فالعلم في الحقيقة ليس إلا إدراكاً لظواهر الأشياء، وأما حقائقها فتفلت منا ولا تقع تحت حواسنا".
ويضيف وجدي أنّ الطبيعة الحقيقية للنواميس التي تقود المادة الحية، "تتعالى عن أن تلمّ بها عقولنا"، ذاهباً إلى أنّ "العلماء المتبصرين لدراسة الكون والكونيات قد ظهر لهم، عقب حدوث اكتشافات خطيرة لم تخطر لهم ببال؛ أنّ حدود العلم ما تزال بعيدة عنهم، وأنّ كل ما حصلوه منه لا يعدو العلاقات الموجدة بين ما يقـع تحـت حسهـم من الموجودات، أما تلك الموجودات وحقيقة النواميس التي تدبرها،  فما يزال أمرها مجهولاً".

اقرأ أيضاً: وزير الأوقاف المصري: الإلحاد الوجه الآخر للتطرف
ويفند محمد فريد وجدي مزاعم الماديين بقِدَم المادة، ويتساءل مستنكراً: "كيف استطاعت المادة وهي عمياء صماء أن تتكون هذا التكون البديع، وتشكّل هذا الوجود الضخم، على تنوّع صوره وكائناته وتباين أشكاله وكيفياته؟ إنّنا نرى بأعيننا أنّ المادة منقادة بواسطة قوانين ونواميس إلى التشكل بحسب نسب وحدود معقولة، فكيف نتصور أنّ شيئاً محروماً من نعمة الإدراك والتعقل يتجه من نفسـه إلى غاية كمالية، تندهـش لها عقـول البشـر؟" متابعاً تساؤلاته: "وكيف نتصور أنّ المادة المجردة من العقل تحكم نفسها بقوانين حكيمة، وهي لا تعرف معنى الحكمة ولا تحسّ بها؟ وكيف يسـود النظـام والوئام بين مكونـاتها، وهي لا تعرف للنظام معنى؟ أليس هذا الاندفاع المشاهد من الطبيعة، وتدرجها في سبيل التحسّن والكمال يعدّ مشاهداً محسوساً، لا يقبل النقض على وجود إله متصرف في الأكوان، يسيّرها بحسب علمه وحكمته؟".
ويشير صاحب "دائرة معارف القرن العشرين" إلى أنّ ثمة اتجاهاً آخر من الماديين يقول عن خلق الأشياء "اقتضته الطبيعة"، ويردّ لك بقوله: "الطبيعة في عرف العلماء المشتغلين بالنظر في الوجود؛ هي مجموع الكائنات؛ أي العالم كلّه معتبراً وحدة تدبرها قوة واحدة، ونواميس عامة تعمل في أكبر الموجودات كما تعمل في أصغرها، ولا تفلت من تدبيرها أصغر ذرة في الأرض ولا في السماء، وقد ارتكب الماديون شططاً بعيداً بادعائهم قيام الوجود المادي دون قوة مدبرة له، وبزعمهم أن نواميس الطبيعة تكفي كل ما هو عليه من نظام، وإحكام، وتنوع، وإبداع في الكائنات، في حين أنّ النواميس الطبيعية ليست إلا آثار الحكمة الأزلية، الفاعلة في أجزاء الوجود، وليست هي ذاتها أشياء مستقلة"
توظيف العلم لإثبات الايمان
وحاول محمد فريد وجدي توظيف منتجات العلم في إثبات موضوعات العقيدة، بصفة عامة، ووجود الله تعالى بصفة خاصة، وذلك من خلال استقراء علوم النبات والحيوان فيقول:

حاول وجدي توظيف منتجات العلم في إثبات موضوعات العقيدة خاصة وجود الله تعالى

"لو عرضت لنظرك عالمي النبات والحيوان، وما تجلى فيهما من الصور الرائعة، وما قامت عليه من التراكيب المعجزة، وما ألهمت الأحياء الضعيفة والقوية من مقومات حياتها، وما أوتيت على ضعفها من الحيل والوسائل لتحصيل قوتها، وحفظ صغارها، لو عرضت لعقلك ونظرك كل هذه العوالم والكائنات لاحتقرت كلّ من يدّعي أنّها وجدت من طريق الاتفاق المحض، وأنّ القوة الطبيعية المجردة من العقل تستطيع أن توجدها على ما هي عليه من تباين الصور، وتنوع التراكيب واختلاف في القوى، خاصة إذا تدبرت في أن جميع الكائنات الحية الضعيفة قد ألهمت من وسائل حياتها، وذرائع وجودها ما عمّ جميع أفرادها، وكان سبباً في حفظ ذواتها، وأنواعها أجيالاً لا تحصى، وهو مما لا يمكن حصولها عليها بقواها الذاتية، أليس في هذا دليل محسوس على أن الخالق تولاها بالهداية وبثّ في روحها من العلم ما تحفظ به حياتها الفردية النوعية".
الدليل النفسي على وجود الله
إذا كان محمد فريد وجدي قد أقام الدليل العلمي على وجود الله تعالى؛ كي يخاطب به عقل الإنسان، فإنه اتجه إلى إقامة الدليل النفسي على ذلك، كي يخاطب به قلب الإنسان ووجدانه، فيقول: "إنه وسط المؤلمات يتساءل الإنسان: من أنا؟ ومن أين أتيت؟ وإلى أين أذهب؟ ما هي الحياة؟ وما هو الموت؟ ولماذا تسلطت عليّ كلّ هذه المؤلمات؟ ما هو هذا الوجود؟ وما هي علاقتي به؟ هذه الأسئلة وضعها الإنسان المؤمن نصب عينه، واشتغل بحلها؛ لعلمه أنّ حياته مرتبطة بها، فتجلت على حقيقتها، وازدادت نتائجها في فؤاده رسوخاً، تارة بالعلم الذي تهدى به مشاعره الظاهرة، وطوراً بما ينبع في صميم معناه من الإلهام الصحيح، فاستوى بشراً سوياً يعرف قيمة الحياة، ومزية الوجود، وعاش حاصلاً على أفضل ما قدر للإنسان من سعادة أبدية"، ويمضي صاحب "الإسلام في عصر العلم" في هذا المنهج: "فكم فؤاد موجع بنازله لولا الإيمان لانفطر! ما الذي يهبِط روح السكينة والمؤاساة على عزيز قوم ذلّ، أو غنيّ قوم افتقر، إذا جلس يتفكر فيما آل إليه حـــاله وســـط الليل الحالك، وهو يتنفس الصعداء، غير إيمانه بأنّ معه من يعلم السرّ وأخفى، ويقدر على منحه الصبر على مصيبته، ثم ما الذي ينزّل روح الصبر والسلوان على روح أمّ فقدت ولدها في ريعان شبابه".

اقرأ أيضاً: عندما يُفرغ التدين المصنوع الأدعية من مضمونها
ليخلص إلى القول: "ومن ثمّ؛ فإنّ الإيمان لازم من لوازم الحياة الإنسانية، وضرورة من ضرورات الحياة الأرضية، من فقده فقد طيب الحياة، ولو ملك الدنيا بيمينه، ومن وجده فقد وجد راحة الأبد، ولو كان بين أنياب الفاقة، ومخالب الفقر المدقع، فالإيمان بوجود الله يهب الإنسان قوة كبيرة في مواجهة المصاعب والمصائب والآلام".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية