الحرية الدينية في تركيا بين الإطار القانوني والتطبيق الفعلي‎

الحرية الدينية في تركيا بين الإطار القانوني والتطبيق الفعلي‎


كاتب ومترجم جزائري
29/01/2019

ترجمة: مدني قصري


يصف الدستور التركي (1) تركيا بأنها دولة علمانية، تضمن فيها حرية الضمير، والمعتقد الديني، والتعبير، والعبادة، كما تحظر المادة (24) منه التمييز على أسس دينية، والاستغلال، أو إساءة استخدام "المشاعر الدينية، أو الأشياء التي يعدّها الدين مقدسة".
تتولى مديرية الشؤون الدينية (ديانت) مسؤولية إدارة الشؤون الدينية في تركيا، وقد أنشئت عام 1924، بعد إلغاء الخلافة العثمانية، وفق المادة (136) من الدستور، بدل السلطة الدينية العليا (شيخ الإسلام)، وتتبع هذه المديرية مكتب رئيس الوزراء، وتُشجّع على تدريس وممارسات الإسلام السنّي.

تضمّ بطاقات الهوية الوطنية التركية خانة تشير إلى الهُوية الدينية رغم أنّ الدستور ينصّ على ألّا يجبر أيّ شخص على كشف ديانته

عام 2018؛ خصّصت الحكومة التركية مبلغ 2 مليار دولار لمديرية الشؤون الدينية، من ميزانية الدولة؛ حيث منحتها قدراً أكبر من الأموال، أكثر مما أعطته لـ 12 وزارة أخرى، ولمعظم مؤسسات الدولة (2).
تضمّ بطاقات الهوية الوطنية التركية خانة تشير إلى الهُوية الدينية، رغم أنّ الدستور ينصّ على أنه لا يمكن إجبار أيّ شخص على الكشف عن ديانته (3) وبينما لا يُطلب من الجماعات الدينية أن تسّجل نفسها لدى السلطات، إلا أنّ أماكن العبادة التابعة للجماعات غير المسجلة لدى السلطات المعنية غير متعرَف بها من قبل الدولة (4).

العلويون في تركيا يطالبون بحرية الديانة

بموجب الدستور التركي؛ التعليم الديني الإسلامي السنّي إلزاميّ في المدارس الابتدائية والثانوية العامة، وفقط الطلاب الذين يُعلنون أنهم "مسيحيون" أو "يهود" على بطاقة هُويتهم الوطنية، يمكنهم التقدّم بطلب إعفاء من هذه الدروس، وترفض الحكومة إعفاء الأطفال العلويين والطوائف الأخرى(4) من التعليم الإسلامي السنّي الإلزامي.

اقرأ أيضاً: العلويون في تركيا.. تاريخ من العزلة
بالإشارة إلى "الأقليات غير المسلمة"؛ فإنّ معاهدة "لوزان" لعام 1923، تُفسَّر بشكل مُقيّد من قبل الحكومة؛ حيث لا تَمنح وضعَ الأقلية النوعية، المعترَف بها قانونياً، إلا إلى ثلاثة مجموعات فقط: أعضاء الكنيسة الرسولية الأرمنية الأرثوذكسية، واليونانية الأرثوذكسية، واليهود، لكن، رغم هذا الوضع الخاص؛ فإنّ هذه المجموعات، مثلما هو الحال بالنسبة إلى غيرها من الأقليات (مثل: الكاثوليك، السريان، البروتستانت، العلويين، ...) لا تستفيد من الشخصية القانونية؛ فهي لا تستطيع شراء أو تملك العقارات، أو التماس التعويضات لدى القضاء، وحالياً، هذه المجموعات يجب أن تمرّ عبر مؤسسات مستقلة لإدارة عقاراتها (4).

يمثل المجتمع الأرثوذكسي الأرمني أكبر طائفة مسيحية في تركيا
لا توجد بيانات موثوقة عن الجماعات الدينية من الأقليات
قدّمت وزارة الخارجية الأمريكية، في تقريرها عن الحرية الدينية الدولية لعام 2016، صورة أكثر تفصيلاً عن الوجود غير المسلم في تركيا؛ ففيما يتعلق بمجموعات الأقليات، يشير التقرير إلى أرقام تفيد بأنّ هناك 90 ألف مسيحي رسولي أرمني (منهم حوالي 60000 مواطن تركي، والآخرون مهاجرون غير شرعيين قادمين من أرمينيا)، و25000 من الروم الكاثوليك (منهم العديد من المهاجرين الجدد من إفريقيا والفلبين)، و25000 سرياني أرثوذكس، و15000 روسي أرثوذكسي، و7000 بروتستانتي، و22000 أيزيدي (معظمهم وصلوا كلاجئين في عام 2014)، و17000 يهودي، و10000 بهائي، و5000 شهود يهوه (Jehovah's Witnesses)(4)، كما يشير التقرير إلى أنّ "تقديرات عدد الملحدين متنوعة، لكنّ معظم الاستطلاعات المنشورة مؤخراً تشير إلى أنّ حوالي 2٪ من السكان ملحدون"(4).

فقط الطلاب الذين يُعلنون أنهم "مسيحيون" أو "يهود" على بطاقتهم الوطنية يمكنهم طلب الإعفاء من الدروس الدينية السنّية

في المقابل؛ كان لموجات المهاجرين الفارين من الحرب الأهلية السورية، تأثير ملحوظ في الديموغرافيا الدينية التركية؛ فمنذ عام 2014، دخل الآلاف من الكاثوليك الناطقون باللغة العربية (أساساً الكلدانيون والسريانيون)، والمسيحيون الأرثوذكس، إلى البلاد، ويقدّر العددُ الإجمالي للاجئين بحوالي 3.5 مليون لاجئ، في الربع الأول من 2018 (5)، هؤلاء اللاجئون الذين يقيمون الآن في 81 مدينة تركية، لا يحقّ لهم التحرك من المدينة التي سُجِّلوا فيها، من أجل الحصول على مساعدات مالية من الحكومة، لديهم الحق في العمل، ولكن فقط عندما يتم تسجيلهم.
وما يزال العدد الدقيق للاجئين غير المسلمين في المدن غير معروف، ويكافح اللاجئون المسيحيون للحفاظ على عقيدتهم، مع العلم أنّ معظم الكنائس توجد في إسطنبول، وفي بعض المدن الكبرى الأخرى، ويضطر بعض رجال الدين المسيحيين، الناطقين باللغة العربية، للسفر من مدينة إلى مدينة، وفيها يستأجرون (أحياناً بأسعار مرتفعة جداً) مساحات للاحتفال بمراسم التعميد، وحفلات الزفاف، وغالباً في اليوم نفسه.

 للجالية اليهودية في تركيا إمكانية ممارسة دينها بحرية
ولا تسمح إلا بتكوين مجموعات رجال دين إلّا من المذهب السنّي فقط، وتحدّ من تشكيل المجموعات الدينية الأخرى، وقد منع غياب معاهد مسيحية في تركيا البطاركة الأرثوذكس الإغريق، والبطاركة الأرمن، من تشكيل الجيل القادم من رجال الدين، كما تمّ إغلاق معهد اللاهوت الأرثوذكسي اليوناني، عام 1971، وتزعم الحكومة التركية أنّ السبب في إغلاقه هو عدم قدرة الحكومة اليونانية على ضمان الحرية الدينية لأقليتها المسلمة التركية (6).
الاحتفال بذكرى الهولوكوست
تمارس الجالية اليهودية في تركيا دينها بحرية؛ فالحكومة تضمن بشكل دائم سلامة وحماية الكُنس (المعابد اليهودية)، وما تزال معاداة السامية، سيما في وسائل الإعلام المطبوعة ووسائل الإعلام الاجتماعية، تشكل إشكالية في تركيا، ومع ذلك؛ فتركيا هي الدولة الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة التي ما تزال تساهم بنشاط في التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (7) .
حوادث
يمثل المجتمع الأرثوذكسي الأرمني أكبر طائفة مسيحية في تركيا؛ حيث يبلغ عدد أعضاء الكنيسة الأرثوذكسية 60 ألف عضو، وتحاول هذه الكنيسة، بإمكاناتها الذاتية، حلّ مشاكل إدارتها الداخلية التي تسبب، بدورها، عواقب على الاعتراف القانوني بهذه الكنيسة في تركيا (8).

اقرأ أيضاً: العلويون في تركيا: قصة طائفة اضطهدها العثمانيون والجمهوريون والإسلاميون
بطريرك الأرمن، مسروب الثاني موتافيان (Mesrob II Mutafyan) أصيب بالمرض عام 2008، ودخل في "حالة غيبوبة" في أحد مستشفيات إسطنبول، وفي 15 آذار (مارس) 2017، انتخبت جمعية الأساقفة، المطران بيكسيان، رئيساً للأرمينيين في ألمانيا، كبديل عن البطريرك المريض، طالبين منه إجراء انتخابات، ومع ذلك، ترفض الحكومة التركية الاعتراف بالانتخابات الأبوية، طالما البطريرك المريض على قيد الحياة، وقد غادر الأسقف بيكسيان البلاد، في 13 شباط (فبراير) 2018 (9).

بطريرك الأرمن، مسروب الثاني موتافيان (Mesrob II Mutafyan)
أمّا قسّ كنيسة القيامة في أزمير، أندرو برونسون، الذي يعيش في تركيا منذ أكثر من عقدين من الزمن، فهو يخضع للاعتقال منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2016، بتهمة العمل مع حزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي يعدّ منظمة إرهابية من قبل حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتمثل محاكمة أندرو برونسون واحدة من القضايا العديدة في المحاكم التي تُوتّر العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا (10).

زاد خلال أيام عطلة أعياد الميلاد خطاب الكراهية ضدّ الكنائس البروتستانتية، والمحطات التي تقوم بتحقيقات حول أماكن معيّنة للعبادة

وفي تصريح لوكالة الأنباء، قبل بدء محاكمة أندرو برونسون، في نيسان (أبريل) 2018، يقول محامي أندرو، إسماعيل جيم هاليفورت (Halavurt): "الأدلة تظهر أنّ أندرو برونسون اعتقِل بسبب إيمانه".
ورغم ذلك؛ فإنّ الدور الديني لـِ برونسون وُصف بأنه "مساعد للمنظمات الإرهابية"، وقد اتُهِم برونسون بمساعدة منظمة إرهابية مسلحة، و"الحصول على معلومات سرية من الحكومة لأغراض التجسس السياسي والعسكري"، وما تزال إجراءات المحاكمة جارية (11)، وفي 8 شباط (فبراير) 2018؛ ناشد البرلمان الأوروبي، تركيا، بإطلاق سراح القسّ برونسون (12).

اقرأ أيضاً: حزب العدالة والتنمية التركي الإسلامي يعد ناخبيه بدخول الجنة!

في حادثة أخرى؛ لوحظت خلال أيام عطلة أعياد الميلاد زيادةٌ في خطاب الكراهية ضدّ بعض الكنائس البروتستانتية، وضدّ وسائل الإعلام التي تقوم بتحقيقات حول أماكن معيّنة للعبادة، لزرع الخوف في نفوس المؤمنين الذين كانوا يرغبون في حضور الاحتفالات بهذه المناسبة (13).
وقد هوجمت كنائس، مثل: كنيسة كورتولوس في ملاطيا، وكنيسة باليكسير، وكنيسة كاديكوي الدولية (إسطنبول)، بين شهري تشرين الثاني (نوفمبر) وكانون الأول (ديسمبر) 2017، وتعرضت لتكسير النوافذ، ورسم رسومات وخربشات مسيئة على جدرانها.
في آذار (مارس) 2017؛ تم إرسال تهديدات إلى إذاعة شيما في أنقرة، بقتل مذيع مسيحي، ومنذ ذلك الحين، حصلت المحطة ومديرها على حماية أكبر من قبل الشرطة.
البابا ينادي في تركيا بحرية الأديان

آفاق الحرية الدينية
دعت الحكومة التركية، في نيسان (أبريل) 2018؛ إلى إجراء انتخابات مبكرة، في 24 حزيران (يونيو) 2018، عندما كانت حالة الطوارئ قائمة منذ محاولة الانقلاب، في تموز (يوليو) 2016.
وقد أعيد انتخاب الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في الجولة الأولى من الانتخابات، وفي الوقت نفسه؛ وقعت اعتقالات جماعية، وعملياتُ فصلٍ تعسّفي، وغير ذلك من الانتهاكات؛ حيث تمّ حجز حوالي 160 ألف شخص، وتسريح عدد مماثل من موظفي الخدمة المدنية منذ فشل الانقلاب، كما أُغلِقت وسائلُ الإعلام المعارِضة، وسُجن العديد من الصحفيين.

المجتمع التركي يتعرض بشكل متزايد للتأثيرات الإسلاموية، وبعضها غير متسامح، وبوضوح، تجاه غير المسلمين

إنّ هذه البيئة المشحونة بالتعصب والخوف وعدم الاستقرار أثرت حتماً في الأقليات الدينية في تركيا، التي باتت تعاني في تركيا بشكل خاص، وعلى سبيل المثال؛ فإنّ عدد المسيحيين في تركيا يتناقص، والمسيحية على وشك الانقراض في البلاد.
دستور 1981 التركي يحدّد العلمانية مبدأ أساسياً مُعرِّفاً للعلاقة بين الدولة التركية والإسلام والأديان الأخرى؛ فهو يمنح الحماية، وإن كان ذلك نظرياً؛ لأنّ "علمانية النمط التركي" كانت قسرية للغاية تجاه غير المسلمين، لكنّ حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) يريد مناقشة مفهوم العلمانية على الطريقة التركية، من أجل "تحرير" الإسلام من الكمالية (الأفكار والمبادئ العامة لمصطفى كمال أتاتورك، المؤسس والرئيس الأول لجمهورية تركيا)، ومن المفارقات؛ أنّ الأقليات يمكن أن تستفيد من هذه المرونة، وذلك لزيادة الاعتراف القانوني بها، ولحماية ممتلكاتها، لكن يخشى غيرُ المسلمين أن يكون هذا مجرد خطاب موجّه للمجتمع الدولي.

اقرأ أيضاً: الحريات في تركيا.. إلى أين؟!
إنّه من الصعب، إذاً، إنكارُ أنّ تركيا تتّجه نحو الاستبداد، الأمر الذي قد يؤدي إلى تراجع حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية، فالمجتمع التركي يتعرض بشكل متزايد للتأثيرات الإسلاموية، وبعضها غير متسامح، وبوضوح، تجاه غير المسلمين، كما تتعرّض الكنائس والمعابد اليهودية للتهديد بشكل منتظم، ويجد غير المسلمين صعوبة متزايدة في التعبير عن إيمانهم في الأماكن العامة.


المصدر: liberte-religieuse.org


الهوامش:
شهود يهوه: طائفة مسيحية لا تعترف بالطوائف المسيحية الأخرى، ويفضلون أن يُدعوا بشهود يهوه تمييزاً لهم عن الطوائف المسيحية الأخرى، كانت بداياتهم في أوائل سبعينيات القرن التاسع عشر، في ولاية بنسلفانيا الأمريكية على يد "تشارلز تاز راسل"، نشأ الشهود عن مجموعة صغيرة لدراسة الكتاب المقدس وكبرت هذه المجموعة، فيما بعد، لتصبح "تلاميذ الكتاب المقدس".

1. https://www.constituteproject.org/constitution/Turkey_2011.pdf?lang=en
2. https://news.sol.org.tr/huge-budget-allocated-ministry-religious-affairs-2018-173437
3. https://www.state.gov/j/drl/rls/irf/religiousfreedom/index.htm?year=2016&dlid=268876
4. https://www.liberte-religieuse.org/turquie/
5. https://www.sozcu.com.tr/2017/gundem/turkiyede-kac-milyon-multeci-var-bakan-soylu-acikladi-1680764/s
6. https://www.atiner.gr/journals/history/2015-1-1-3-Dayioglu.pdf
7. https://www.uscirf.gov/sites/default/files/2017.USCIRFAnnualReport.pdf
8. Bureau of Democracy, Human Rights and Labor, op. cit.
9. https://international.la-croix.com/news/turkish-authorities-reject-elected-leader-of-armenian-church/6945
10. https://www.theguardian.com/world/2018/apr/16/andrew-brunson-turkey-coup-links-denial-erdogan
11. http://www.hurriyetdailynews.com/opinion/murat-yetkin/will-pompeo-open-a-new-page-in-us-turkey-ties-131297
12. https://hrwf.eu/turkey-european-parliament-urges-turkey-to-guarantee-religious-freedom-and-to-release-pastor-andrew-brunson/
13. http://www.protestankiliseler.org/eng/?p=835


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية