هل تشهد أفغانستان تحولها "ما بعد الإسلاموي"؟

هل تشهد أفغانستان تحولها "ما بعد الإسلاموي"؟


30/01/2019

ترجمة: محمد الدخاخني


كانت الإسلامويّة، بصرامتها التّنقيحيّة، قوّة فعّالة للغاية على مدى العقود الخمسة الماضية. وبالرّغم من أنّها تشتمل على العديد من الجوانب والوجوه، فإنّه يتمّ تعريفها بشكل عامّ على أنّها "قيام أفراد أو جماعات باستخدام الإسلام أو التّذرّع به لأغراض سياسيّة".

أفغانستان وباكستان الّلتان تُطاردهما بعض التّهديدات الأمنيّة القوميّة تمزّق عبء ماضيها وتتحرّك نحو صيغة أكثر تسامحاً وشموليّة للإسلام

وعندما أدخلَ آية الله الخمينيّ في إيران إصلاحاتٍ في المجالات السّياسيّة والاجتماعيّة، قام الباحثون بوصف هذا المشروع المتعمّد بـ "ما بعد الإسلامويّة". وقد جاء هذا في إشارةٍ إلى الحركات الإسلامويّة الّتي كانت، كما ادّعت قيادتها، تسعى إلى إقامة نظامٍ إسلاميّ يُحقّق المجتمع الإسلاميّ الأعزّ بهدايةٍ من الشّريعة الإسلاميّة. إنّه مجتمع يؤمن بالسّيادة الإلهيّة، وفق منظوره، بخلاف النّظام الدّيمقراطيّ الغربيّ - الّذي تقوم السّيادة الشّعبيّة والعلمانيّة بصِيانته.

اقرأ أيضاً: نساء أفغانستان يخشين من عودة الزمن إلى الوراء

وفي الأعوام الّلاحقة، مثّلت جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وحزب العدّالة والتّنمية التّركيّ، وحركة طالبان في أفغانستان، وحركة النّهضة التّونسيّة حالات مَعدودة ضِمن هذا السّياق.

ما بعد الإسلامويّة هي انصراف الإسلامويّين عن الاعتقادات الجهاديّة والسّلفيّة

ماذا تعني "ما بعد الإسلامويّة"؟

يعرّف جيل كيبيل، وهو عالم فرنسيّ مختصّ في الإسلام، ما بعد الإسلامويّة على أنّها "انصراف الإسلامويّين عن الاعتقادات الجهاديّة والسّلفيّة". ويعتقد أوليفييه روا، وهو عِملاق ثقافيّ آخر، "أنّها العِناية بتغيير حياة الأفراد بدلاً من أسلمَة الدّولة". في حين يقوم آصف بيّات، الذي صاغ هذا المصطلح، بتعريف ما بعد الإسلامويّة على أنّها تجاوز المنطِق الإسلامويّ إلى العوالم السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة. وكما يُجادِل، عندما تشعر الحركات الإسلامويّة بأنّ دعوتها وشرعيّتها صارتا تفقدان للبريق بين المؤيّدين والمتعاطفين، فإنّها تستوعب الاختلالات ومواطن القصور الموجودة في خطط عملها وتحاول عقلنة نفسها للتّماشي مع المطالب السّائدة.

يبدو أنّ طالبان ما بعد الملّا عمر تعيد تنسيب نفسها للإبقاء على أهميّتها في المجتمع الأفغاني

إنّ ما بعد الإسلامويّة ليست إسلامويّة ولا علمانيّة. وهي إذا كانت تحيد عن التّفسير الموحَّد والصّارم للإسلام - بما أنّها صيغة جَمْعٍ تُدمِج الإيمان بالحرّيّة، والحقوق بالتّدين، وتركّز على الحقوق بدلاً من الواجبات، والتّعددية بدلاً من السّلطة الفرديّة -، فإنّها بعيدة أيضاً عن العلمانيّة الّلائكيّة الرّاديكاليّة كما تُعرَف في السّياق الفرنسيّ. والأهم من ذلك أنّها ترنو إلى المستقبل وليست أيديولوجيا ماضويّة مثل السّلفيّة. ولهذا السّبب، يَنظُر الكثيرون إلى ما بعد الإسلامويّة على أنّها "حداثة إسلاميّة" و"حداثة بديلة".

اقرأ أيضاً: أرقام صادمة.. خسائر الولايات المتحدة في أفغانستان
إنّ الصّراع بين المؤسّسات حول مسألة "من الّذي يفسّر الدّين" يؤدّي إلى العنف في المجتمعات المُحافِظة، وهذا الأخير يؤدّي دائماً إلى الإصلاحات. وما بعد الإسلامويّة هي مشروع إصلاح مُهمَل في العالم الإسلاميّ. قد يختلف الكثيرون لأنّه بالنّسبة إليهم نقض النّظام القائم واستبداله بآخر يسمّى إصلاحاً، مثل نظام ويستفاليا - الّذي أنشأ نظام الدّولة القوميّة العلمانيّة بعد الإطاحة بالبابويّة. وهذا لا يمكن تصوّره بالنّسبة إلى المسلمين في مجتمعاتهم.

بعد 11 سبتمبر مثّلت الإطاحة بطالبان من السّلطة انتكاسةً خطيرةً لجهود الحركة

حركة طالبان في واقع جديد

تمرّ حركة طالبان الإسلامويّة، في أفغانستان الّتي مزّقتها الحرب، بمرحلة انتقال باتّجاه ما بعد الإسلامويّة. وتهدف هذه المقالة إلى تحديد المُحرّكات التي أكرهت طالبان على إعادة تنسيب وإعادة توجيه نفسها في عصر الديمقراطيّة والعولمة، كما تفترض ما بعد الإسلامويّة.
في أعقاب أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، مثّلت الإطاحة بطالبان من السّلطة انتكاسةً خطيرةً لجهود الحركة من أجل تأسيس "إمارات إسلاميّة" وفق صيغة بوريتانيّة [:طهرانيّة] من الإسلام. كما تزامنت هذه الإطاحة مع إدخال دستور جديد وشكل انتخابيّ جديد للحكومة في أفغانستان. هذه الجهود لبناء الدّولة، على يد المجتمع الدّوليّ، في أفغانستان ما بعد طالبان أثارت مبادرةً لبناء الأمّة اشتدّت الحاجة إليها في أفغانستان.

اقرأ أيضاً: من نفّذ هجوم كابول.. طالبان أم داعش؟
لقد قام التّحالف الدّوليّ بإمطار أفغانستان المتعطّشة للموارد بالمال على نحو زاد من التّعليم والإعلام والاتّصال بشبكة الإنترنت. وأخذت ثورة المعلومات هذه الأفغان إلى العالَم المعولَم، وهو ما عزّز من انخراط أفغان الشّتات في الشّؤون الدّاخليّة، ومكّنت هذه الثّورة من ظهور مجتمع مدنيّ ومنحت صوتاً للشّباب من خلال توعيتهم بحقوقهم وواجباتهم ضمن رعاية دساتير عام 2004 وانتخاباته المتتالية.

اقرأ أيضاً: بهذه الطريقة تعرقل طالبان محادثات السلام بأفغانستان
وهنا ظهرَ انفصال خطير بين توقّعات النّاس وحركة طالبان الّتي لم يكن لديها أيّ حلّ للقضايا العامّة الّتي تطلّبت حلّاً سياسيّاً وليس حلّاً دينيّاً. يُدرِك النّاس العاديّون أنّ الدّين قد يكون مصدراً للخلاص في الحياة الآخرة، لكن الرّفاهية العامّة تستلزم السّياسة في الحياة الدّنيا. لقد خَسِرت الدّعاية الطّالبانيّة أهميّتها على نحو خطير وبدأت الحركة تَفقِد قاعدة الدّعم وتقلّصت إلى جماعات البشتون الرّيفيّة التّقليديّة.

قطر والسّعوديّة وروسيا والصّين وباكستان تُريد إدماج طالبان في المشهد السّياسيّ لأفغانستان

تطوّرات محليّة وإقليميّة

دوليّاً، قطر والسّعوديّة وروسيا والصّين وباكستان: كلّها تُريد إدماج طالبان في المشهد السّياسيّ لأفغانستان. ولم تعد طالبان مفضّلة لدى أيّ دولة. فالسّعوديّة تجد طالبان مُنحرفة في مخطّطها الإصلاحيّ: ويجري تفضيل الإسلام الصّوفيّ على الإسلام الدّيوبنديّ في مشروع الاعتدال المتنوِّر لباكستان في ظلّ حُكم عِمران خان الّذي يؤمِن بالقوميّة الباكستانيّة. ولذلك، يبدو أنّ كلتا الدّولتين (أفغانستان وباكستان) الّلتين تُطاردهما بعض التّهديدات الأمنيّة القوميّة تمزّق عبء ماضيها وتتحرّك نحو صيغة أكثر تسامحاً وشموليّة للإسلام من خلال الاستثمار في الجوانب الاجتماعيّة لمجتمعاتها. واستبعاد فضل الرحمن [زعيم جماعة علماء الإسلام] من التّيار السّياسيّ الرّئيس في باكستان وتضمين القوميّة الباشتونيّة في باكستان، والتّرويج للسّينما والرّياضة في السّعودية، كلّها أمور بيّنة بحدّ ذاتها. والعمل الخيريّ الفرديّ الّذي انتهى ذات يوم في أيدي طالبان يتوجّه الآن إلى قضايا اجتماعيّة من قبيل التّخفيف من حدّة الفقر وتعزيز الصّحّة والتّعليم.

أيديولوجيا الحرس القديم في طالبان تنهار والأفغان أعلنوا رفضهم للعنف، وتقوم الحركة حالياً بعمليّة إعادة اختراع لنفسها

وبسبب هذه التّطوّرات، يبدو أنّ طالبان ما بعد المُلّا عمر تُعيد تنسيب نفسها للإبقاء على أهميّتها في المجتمع الأفغانيّ. إنّ الحركة الآن أكثر انفتاحاً على العالَم ومجهّزة بمهارات دبلوماسيّة أفضل ظهرت من خلال تأمين الحركة لعمليّة إفراج عن خمسة من كبار القادة من معتقل خليج غوانتانامو في مقابل الإفراج عن رقيب أمريكيّ واحد - يُدعى بو برغدال. إنّ قدرتها على المناورة الدّبلوماسيّة لم تمنع فقط الولايات المتّحدة من إدراجها في القائمة المحدَّدة للإرهابيّين الأجانب، ولكنّها نجحت أيضاً في إبعاد زعماء طالبان عن القائمة السّوداء للإرهاب في الأمّم المتحدة. واستجابةً للتّحدّيات الّتي يطرحها المجتمع الأفغانيّ والمجتمع الدّوليّ، لم تَعُد طالبان حركة تقوم على الرّفض والتّنقيحيّة والغلوّ. بل هي الآن أكثر تكيّفاً وشموليّة تجاه المجتمع الدّوليّ وتدعم تعليم المرأة في الوطن.

اقرأ أيضاً: طالبان وطهران.. ما سرّ المودة؟
ووفقاً للافتراضات ما بعد الإسلامويّة، وجدَت حركة طالبان الإسلامويّة أنّه من الصّعب تقديم حلّ "إسلاميّ" للقضايا الاقتصاديّة والاجتماعيّة الأساسيّة في أفغانستان. ومن ثمّ، يتعيّن عليها توسيع النّطاق إلى ما وراء الافتراضات الإسلامويّة باتّجاه المجالات السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة. هذه هي النّقطة الّتي يتجاوز فيها المنطق السّياسيّ المنطق الدّينيّ عند الإسلامويّين. وهذا ليس أمراً معادياً للإسلام؛ على العكس، إنّه يهدف إلى تديّن فرديّ أقلّ اهتماماً بأسلمة المجتمع ككلّ.

 طالبان تمرّ بمرحلة انتقاليّة واستطاعت القفز إلى الأمام بشكل كبير بعيداً

الطريق إلى السّلام
إنّ طالبان تمرّ بمرحلة انتقاليّة واستطاعت القفز إلى الأمام بشكل كبير بعيداً عن الإسلامويّة السّلفيّة وباتّجاه تعدّديّة ما بعد إسلامويّة. أيضاً، لأنّ هذا الجيل من حركة طالبان وجدَ صعوبةً في تشكيل عدوّ له يُمكن أن يقتاله استناداً إلى الحماس الدّينيّ بما أنّ معظم عمليّات القتال الّتي عليهم القيام بها موجّهة ضدّ أبناء بلدهم - القوّات الأفغانيّة؛ بخلاف أسلافهم.

اقرأ أيضاً: اغتيال الزعيم الروحي لطالبان.. من هو؟
إنّ أيديولوجيا الحرس القديم في طالبان تنهار، والأفغان أعلنوا رفضهم للعنف، وتقوم الحركة حالياً بعمليّة إعادة اختراع لنفسها عن طريق صياغة دعوة مقبولة للجماهير الأفغانيّة. ومن هذا المُنطلَق، يجب على المجتمع الدّوليّ تسهيل هذا الانتقال في أفغانستان. إنّ الصّقور الأفغان الّذين يعارضون إدماج طالبان في التّيار السّياسيّ الرّئيس يجب أن يتمّ تهميشهم. فالحقيقة تقول إنّ طالبان عبارة عن واقع لا يمكن أن يتوقّف عن الوجود وإنّما يمكن إصلاحه. ولذلك، فإنّ طالبان ما بعد إسلامويّة، من ناحية، ستقدّم لطالبان الشّرعيّة الّلازمة للوجود والعمل؛ ومن ناحية أخرى، ستحظى الولايات المتّحدة والحكومة الأفغانيّة على السّلام في أفغانستان.


المصدر: زاهد محمود زاهد، ديلي تايمز


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية