هل تكبح الديمقراطية عنف الجهادوية أم تغذّيها؟.. على هامش نقاش مع ضيفي المفكر ‎

هل تكبح الديمقراطية عنف الجهادوية أم تغذّيها؟.. على هامش نقاش مع ضيفي المفكر ‎


11/02/2019

انتابتني الرغبة في لقائه، بعد أن أخبرني صديقي بأنّه في زيارة خاطفة للقاهرة، هو مفكر معتدل، وعالم في الاجتماع، وأكاديمي مرموق، لم نسمع عنه في أوساط الباحثين سوى كلّ خير.
من الإطلالة الأولى قد تخبرنا أرواحنا بأولئك الطيبين، كما يسري في أجسادنا دفؤهم الحنون بمجرد أن تلامس أيدينا أيديهم مصافحة ومرحّبة.
كان هو من أولئك الذين تشعر وكأنك تعرفهم منذ زمن طويل، وكأنّ أرواحنا تلاقت في ملكوت الله من قبل أن تنفخ في أجسادنا الروح.
الهمّ العام الثقيل
قدت السيارة في زحام القاهرة، قاصداً نقطة بعيدة على نهر النيل، خفف وجوده بجواري من وطأة الضغط النفسي من جراء السير نحو مكان لم أعرفه بعد، وحديثه أيضاً.

هل حقاً يزداد مؤشر الإرهاب في دولة ما كلما ابتعدت عن الحريات وخاصمت الديمقراطية؟

سياقات حال النقاش تشي بعربي أثقلته حمولات الهمّ العام لأمته، حتى جاء عند معضلة الإرهاب، فطرح مقاربة تفضي بأنّ الحريات العامة وترسيخ الديمقراطية حل جذري للقضاء على تلك الظاهرة.
عند هذه النقطة توقفت؛ إنها تشغلني منذ زمن بعيد، هل هناك علاقة بين الديمقراطية والإرهاب؟ هل حقاً يزداد مؤشر الإرهاب في دولة ما كلما ابتعدت عن الحريات وخاصمت الديمقراطية، وأنّ هذا المؤشر ينخفض منسوبه أو يتلاشى إذا تمكنت الديمقراطية من ثقافة الدولة ومجتمعها؟
يقول صديقي المثقف: إنّ السماح لجماعات الإسلام السياسي في الانخراط في العملية الديمقراطية، أثبت نجاعته؛ إذ تتكسر المقولات الراديكالية لتلك الجماعات على صخرة الواقع الاجتماعي والسياسي، فيضطر المتشددون لتغيير مناهجهم وأفكارهم رويداً رويداً، فيميلون نحو الاعتدال، ويكتشفون بؤس أدبياتهم التأسيسية، فيتحولون للاندماج في مجتمعاتهم، والانخراط فيها، فتسبق الحركة الفكرة التي لا شكّ في أنّها تأتي بعد ذلك لتقنين أوضاعهم الفكرية الجديدة.

اقرأ أيضاً: شوكة النكاية والتمكين في الفكر الجهادي المعاصر
لم أكن ضدّ الحريات يوماً، ولم أؤمن بسواها مخرجاً لأزماتنا، لكن!
ضحكة أسامة
حضرني مشهد لأسامة بن لادن، وهو يجلس وسط مجموعة من رفقائه في القاعدة، وأمامهم ثلة من الإعلاميين الأجانب، سأله أحدهم: ماذا لو توقفت الولايات المتحدة الأمريكية عن قتال القاعدة أو مساندة إسرائيل؟ فهل تتوقفون أنتم عن استهدافها؟
ضحك بن لادن ومن معه بشدة، ثم كانت الإجابة: إن توقفت أمريكا فلن نتوقف نحن، إنّ قتالنا قتال عقيدة.

ضحك بن لادن ومن معه بشدة، وأجاب: إن توقفت أمريكا فلن نتوقف نحن، إنّ قتالنا قتال عقيدة

إذا كانت الديمقراطية هي "صنم العصر"، الذي يعبَد من دون الله تعالى، في عقيدة تلك الجماعات الجهادوية، وأنّ البرلمانات التشريعية هي "محض شرك"، وأن صناديق الاقتراع "يسكنها الشيطان"، وأن الحاكم الذي يأتي إفرازاً لها، هو "الطاغوت بعينه"، وأنّ حروب الردة الجديدة هي على أولئك الذين اتخذوا من الديمقراطية أسلوباً للحياة، فهل يمكن لهذه الثقافة والآلية أن تكون هي الدواء لعالج الداء؟
قتال بلا نهاية
إنّ الجهادويين سيمضون في قتالهم حتماً، دون أن تغير من قناعاتهم حريات أو تداول سلطة، وكلما وصلوا شاطئاً مخضباً بالدماء، لم يلتقطوا أنفسهم، ورددوا مقولة: "بل الآن الآن جاء القتال".

اقرأ أيضاً: الجهاديون الأوروبيون.. كيف انتهى بهم الحال في سوريا؟
ألا يقولون إنّ مصر قد قفزت فوق موجة "الربيع العربي"، أو ارتدت عنها، ولذا فهي تعرضت لإرهاب ما بعد ذلك "الربيع"؟ إذاً؛ فهل تشابهت الحالة التونسية بالحالة المصرية؟ بالطبع لا، هناك فريق كبير.
إذاً، لماذا يهاجم الدواعش الدولة التونسية؟ أليست صناديق الاقتراع ما تزال حاكمة هناك؟ ويعلو سدة الحكم رئيس مدني؟ لا شكّ في أنّ الدواعش يمارسون إرهابهم هناك بدوافع ليست لها علاقة بالحريات، إنهم يمضون في دروب مغايرة تماماً لتلك الدروب التي يتحدث عنها النخبويون والمدنيون.
لا شكّ في أنّ من يتحدثون عن عملية اندماج الإسلاموية في المعتركات السياسية، ينظرون بعين التجربة لجماعة الإخوان المسلمين وبعض الأحزاب السلفية، التي قبلت بالمشاركة السياسية، وأظهرت تفهماً فيما يتعلق بالديمقراطية وحقوق المرأة، وتداول السلطة لكن.
لو أخذنا حالة الإخوان المسلمين في مصر أنموذجاً؛ فإنّنا سنلاحظ، دون كثير من عناية، أنها ومنذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، وحتى وصولها للسلطة في العام 2012، بدت وهي تحاول الانخراط في النقابات المهنية، ثم الولوج في الانتخابات التشريعية، مع تقديم وثائق مرنة تجاه حرية الرأي والتعبير والموقف من المرأة.
إلا أنّها، وبعد سقوط حكمها عام 2013؛ عادت لتمارس العنف الدموي، ولتظهر جينات التكفير الكامنة بجسدها ومفاصلها، وكأن كل ما سبق كان حقاً بهدف الوصول للسلطة، حتى إذا افتقدتها عادت القهقرى.
عيوب جينية
الانخراط الظاهري وحده لم يكن يكفي؛ فقد ظلت جماعة الإخوان المسلمين رافضة الاعتراف بخطاياها التاريخية، ولم تقم بمراجعات فكرية لمنهجها؛ بل قفزت على الحياة السياسية بقوة الأمر الواقع، حتى تعرضت لمحكّات رئيسة سقط فقه الواقع الذي كانت تتسربل به في مسيرتها السلمية الظاهرية، وفوجئنا نحن بكتب شرعية تتحدث عن أدبيات جهادوية بحتة مثل: دفع الصائل، وقتال الطائفة الممتنعة، ثم مَن يشرعن للقتل والعمل المسلح، بدعوى أنّ المؤسس الأول، حسن البنا، لم يكن يرفض الحركية المسلحة، بل سعى إليها.

إنّ الجهادويين سيمضون في قتالهم حتماً، دون أن تغير من قناعاتهم حريات أو تداول سلطة

ذلك لأنّ قادة الدولة والنخب المدنية، اعتقدوا في مرحلة من المراحل أنّ الجماعة طلّقت العنف، ولم تكن عودتها إليه ممكنة، فتصوروا أنّ الزمن تجاوز مطالبة الإخوان بالقيام بمراجعات فكرية، مع أنّ كتبهم كانت تنضح بالعنف وبالتكفير في مواضع عديدة.
قلت: جلست مع منشقين وتائبين كثر، على تنوعهم، لكني خرجت بأن انكسار طموحاتهم في الوصول إلى السلطة في مواجهة الأجهزة الأمنية، كان العامل الرئيس في تراجعهم، فضلاً عن تهاوي تنظيماتهم، وتلاشي الحلم في إقامة الدولة الإسلامية وفق اعتقادهم.
كان ذلك مقدمة، لدى البعض منهم، للشكّ في المشروع، ولم تكن المراجعات الحقيقية للأفكار والمناهج، هي المقدمة الأولية لانسلاخهم عن تنظيماتهم.

اقرأ أيضاً: من هو "الجهادي" إياد الطوباسي الذي قتل بظروف غامضة في درعا؟
ربما يعني ذلك أنّ الإشكالية الجهادوية ستظل ممتدة معنا لعقود قد تطول؛ فهناك أجيال ستتولد من رحم ذات الأفكار، في مراحل مختلفة، بعد أن ترى تلك الأجيال أن ما تعرض له السابقون من انكسار تحت وقع الضربات الأمنية، قد ينجحون هم في مقاومته، ويصلون إلى السلطة وإقامة دولتهم.
تفهّم ضيفي ما طرحته عليه، لكنّه كان يرى أنّ في الحرية خروجاً من نفقنا المظلم، وأنها لا شكّ ستحدّ من توالد تلك الأجيال.
أجبت: أتمنى ذلك.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية