وليد سيف يشتبك مع "الشاهد والمشهود" ويضيء الحنين لفلسطين والأندلس

وليد سيف يشتبك مع "الشاهد والمشهود" ويضيء الحنين لفلسطين والأندلس


24/02/2019

عندما غادر وليد سيف قريته "باقة" في مدينة طولكرم بفلسطين المحتلة التي ولد فيها في العام 1948، ظل مشحوناً بطاقة حنين دفعته، فيما بعد، إلى ابتياع قطعة أرض خارج العاصمة الأردنية عمّان؛ لأنه عندما رآها ذكّرته بطبيعة قريته في طفولته.

ثمة من يتحمّس لوليد سيف فيرى أنّ ثلاثيته (صقر قريش، ربيع قرطبة، ملوك الطوائف) بوّأته مكانة غير مسبوقة

ولعل هذا الحنين الذي ظل يشتعل في روح الفتى، الذي غادر بلدته وهو في التاسعة عشرة من عمره كان وراء ما هو أبعد دفع صاحبه إلى مدّ الحنين إلى أقصاه، فكانت الأعمال الدرامية التي وضعت سيف في قائمة أهم كتاب الدراما في العالم العربي.
ثمة من يتحمّس فيرى أنّ ثلاثيته عن الأندلس (صقر قريش، ربيع قرطبة، ملوك الطوائف) بوّأته مكانة غير مسبوقة من قبل، كما فعلت الأمر نفسه أعماله عن مأساة شعبه الفلسطيني التي بدأها في "الدرب الطويل" ثم أكملها وطوّرها وعمّقها في "التغريبة الفلسطينية" التي يتقاطع اسمها مع ديوانه "تغريبة بني فلسطين" الذي أصدره في العام 1980، بالإضافة إلى ديوانين شعريين آخرين سابقين هما "قصائد في زمن الفتح" 1969 و"وشم على ذراع خضرة" 1971.
التخصص في اللغويات
حصل وليد سيف على شهادة البكالوريوس في اللغة والأدب العربيين من الجامعة الأردنية؛ كما حصل على شهادة الدكتوراة في اللغويات من المدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن عام 1975. وقد عمل بعد هذا التاريخ، وفق ما تذكر الويكيبيديا، محاضراً في قسم اللغة العربية في الجامعة الأردنية عدة سنوات قبل أن يترك العمل الأكاديمي ليعمل كاتباً متفرغاً للدراما التلفزيونية.

يقرّ سيف بأن الجزء الكبير من "التغريبة الفلسطينية" صدر عن ذاكرته المحمّلة بقصص أهل المخيم أمام دكان والده الصغيرة

كتب عدداً كبيراً من الأعمال الدرامية التلفزيونية أخرج جلها الفنان صلاح أبو هنود. ومن بين أعمال سيف: الخنساء، شجرة الدر، عروة بين الورد، طرفة بن العبد، المعتمد بن عباد، بيوت من مكة، جبل الصوان، ملحمة الحب والرحيل، الصعود إلى القمة، وسواها كثير.
والدكتور وليد سيف متزوج من الدكتورة إيمان محمود إبراهيم وله ثلاثة أولاد خالد وليانا وليلى. ولعمّه الراحل الدكتور محمود إبراهيم، أستاذ الأدب وعلّامته، مكانة مرموقة في قلبه حتى إنه جسّده في مسلسل "التغريبة الفلسطينية"، بحسب ما اعترف خلال مقابلة تلفزيونية.

"التغريبة الفلسطينية"
ويقرّ بأن الجزء الكبير من المادة الحكائية والسردية في مسلسل "التغريبة الفلسطينية" الذي أخرجه السوري حاتم علي، لم يأت من فراغ، ولم يأت من خلال قراءات فقط. بل "صدر عن ذاكرتي المحمّلة بكل هذه القصص التي كنت أستمع إليها من أهل المخيم الذين كانوا يأتون ويجلسون مع والدي، رحمه الله، في دكانه الصغيرة، بالإضافة إلى ما كنت أسمعه من أهلي من والدي، ومن أعمامي، ومن أقاربي، ولكل منهم حكاية وقصة إلخ، وتتشابه القصص على نحو ما، فعندما جئت لكتابة العمل، بالإضافة إلى المصادر المكتوبة الحقيقة وبالإضافة أيضاً إلى التجارب الشخصية، وجدت نفسي الحقيقة أركّب الشخصيات من جماع هذه القصص".

وليد سيف في سيرته "الشاهد والمشهود": الشجاعة هي أن تكون ذاتك، وتشيد روايتك الخاصة بعيداً عن الإملاءات الخارجية

يرى سيف بأنه عندما نتحدث عن التاريخ ونقول إننا نستخلص منه العبر ونقدم من خلاله رسائل تتعلق بالأسئلة الراهنة التي نعيشها، فهذا لا يعني أن التاريخ يكرر نفسه حرفياً. نعم كان هناك شبه بالطوائف التي نعيش فيها في الوقت الحاضر والتي هي أيضاً مسؤولة إلى حدٍ كبير عن حالة التخلف الذي نعيش فيه، هذه التجزئة القُطرية التي هي مع الأسف الشديد مزاج خيار ذاتي لبعض القوى أو النخب المحلية أو العربية، وخيار أجنبي استعماري، ويؤكد ما ذكرته من العلاقة الشرطية ما بين العوامل الذاتية والعوامل الاستعمارية الخارجية، هناك وجود شبه نعم بين هذا التاريخ الأندلسي القديم وبين التاريخ الحاضر.
اندثار الأندلس لا ينذر باندثارنا
ولا ينذر اندثار الأندلس باندثارنا، وفق سيف، فالأمة تمتلك من الطاقات الكامنة ومن الإمكانيات ما يجعل اندثارها مستحيلاً... لا أفقد ثقتي ومراهنتي على المستقبل، وأذكر الناس بشيءٍ واحد، نحن ننظر إلى السلبيات فقط، نحن تعرضنا إلى هذه الهجمة الاستعمارية قبل مئتي عام ومازلنا نتعرض لها بأشكالٍ متطورة مختلفة حتى الوقت الحاضر واستهدفت بلادنا من حيث ثرواتها واستهدفت من حيث، التجزئة القُطرية واستهدفت من حيث إقامة المشروع الصهيوني الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية لتكون وكيلاً متقدماً عن الاستعمار والإمبريالية في إحباط المشروع النهضوي العربي الإسلامي، هذا صحيح ولكن ما تزال هذه الأمة. ولو كانت أمة أخرى لا تمتلك هذا العمق الحضاري التاريخي لربما اندثرت من قديم، ولكن ما تزال أمة تقاوم، تقاوم وجدانياً وتقاوم ثقافياً وتقاوم بوسائل مختلفة، حركة الاحتجاج ضد الهيمنة الإمبريالية الأمريكية.

اقرأ أيضاً: أدهم الشرقاوي: هل يمكن أن يتحول طالب مثقف وثري إلى لص وسفاح؟
ويعد مسلسل "عمر" الذي يتناول شخصية الخليفة الراشدي الثالث، عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، من أعلى القمم الدرامية التي عمل عليها سيف الذي يعترف في تصريحات صحفية بأنّ المسلسل كان أصعب عمل فني شارك فى صناعته، "لأنه يضم شخصيات عظيمة ومهمة، والتزام الحقائق التاريخية في تقديمها أمر ضروري".

مسلسل "عمر" استغرق 600 يوم كتابة
وعن المدة التي استغرقها في الكتابة والتحضير للمسلسل يقول: "استغرق البحث والكتابة 600 يوم تقريباً، وكنت خلال هذه المدة أشبه برجل مشغول بإعداد رسالة دكتوراة، لا أتوقف عن القراءة، ولا أكتفي بالمراجع والمصادر القريبة، كنت أبحث عن القديم والبعيد للوقوف على الحقائق التي (تعشش) في بطن التاريخ، ولا أبالغ إذا قلت إنّ هذا المسلسل هو أصعب عمل قدمته في حياتي، لأنّ مساحة السرد الدرامي محدودة جدا بالنظر إلى أهمية الشخصيات التى تزامنت مع عمر بن الخطاب".

اقرأ أيضاً: موسى بن ميمون: يهودي في بلاط صلاح الدين
وتمثلت المعاناة في قلة وندرة المصادر القديمة، ووجود فروق واختلافات بين المصادر، "وهذا ما كان يجعلني في حيرة شديدة، ولكني كنت فى نهاية الأمر أحتكم إلى أصدق الروايات وأقربها إلى عصر وطبيعة المجتمع الذي شهد اعتناق عمر الإسلام، وشهد عدله وحكمته".
وتحتشد في شخصية وليد سيف روح الشاعر والمسرحي والقاص والناقد وكاتب الدراما والمؤرخ، فهو يتوفر على ثقافة قلما يجدها المرء عند كثيرين، كما يحلّق في كتاباته ورؤاه المجنّحة في سماوات المعاني والأفكار المبدعة. وقد حاول سيف أن يضع جزءاً من هذه المواهب والأسرار في كتاب السيرة "الشاهد والمشهود" الذي صدر عن الدار الأهلية بعمان عام 2016، وفيه يقول وليد سيف:
من قال إنّ شجاعة البوح في السيرة لا تتمثل إلا في كشف ما يحرص الإنسان عادة على كتمانه من الخبايا والخفايا الخاصة، لا سيما ذاكرة الجسد في متاهاته؟
إنما الشجاعة في مقاومة التيار وإغراءات الأمان في ظل القطيع ..

كتاب السيرة "الشاهد والمشهود"
وإنما الشجاعة في الامتناع عن الشرب من نهر الجنون حين يتكاثر الشاربون وتصير أوهامهم وهذاؤهم هي القاعدة ..
وإنما الشجاعة في تفكيك الأساطير التي تؤسسها الطوائف المهنية والثقافية والسياسية عن نفسها ..
إنما الشجاعة في رفض اشتراطات النادي لحمل بطاقته مهما تكن سلطته وامتيازاته العملية والمعنوية ..
إنما الشجاعة في تفضيل مغارم العقل على مغانم الجهل ..

اقرأ أيضاً: سيمون بوليفار.. الحرية لمن يخلص لحلمه حتى النهاية
وإذا كان تحدي خطاب السلطة الحاكمة الفجة يحتاج إلى قدر من الشجاعة، فإنّه لشجاعة نقدُ الكثير من الخطابات المعارضة، وكشف إداعاءاتها وازدواجيتها وأضاليلها وسلطتها الكامنة، وما يبتزك بمفردات الأصالة والخصوصيات الثقافية وحماية الهوية المهددة.
ذلك أنّ تحدي خطاب السلطة قد تخرج منه بنياشين الفروسية والشهامة. أما نقد الخطابات الأيديولوجية والشعبية فقد يوزع دمك بين القبائل السياسية والفكرية، فلا تدري على أي جنب تميل؛ فمن قال إنّ عدو عدوي صديقي بالضرورة؟
الشجاعة، أخيراً، هي أن تكون ذاتك، وتشيد روايتك الخاصة بعيداً عن الإملاءات الخارجية.
وهذه روايتي!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية