الإسلام واليهودية والعداء للسامية

الإسلام واليهودية والعداء للسامية


25/02/2019

السيد ولد أباه

في فرنسا فجّر الرئيس ماكرون جدلاً واسعاً حول المفهوم الجديد لمعاداة السامية الذي قررت فرنسا اعتماده باعتبار معاداة الصهيونية في بعض دلالاتها داخلةً في نطاق الكراهية المدانة بحق اليهود. الجدل ليس جديداً، لكنه عاد بقوة في الأيام الأخيرة إثر اتهام بعض مكونات حركة السترات الصفراء الناشطة في الشارع الفرنسي بإطلاق تصريحات والقيام بأفعال يمكن تصنيفها في سياق المعاداة للسامية.
العديد من الساسة والكتاب الفرنسيين من بينهم رئيس الجمهورية الأسبق ساركوزي ورئيس الحكومة السابق فالس، ربطوا موجة الكراهية الجديدة لليهود بالإسلام (عقيدةً ونصوصاً)، معتبرين أن الأحداث التي تنطلق أحياناً من أحياء المهاجرين ذوي الأصول العربية الإسلامية مردها الانتماء الديني والثقافي الذي يحتاج إلى معالجة حاسمة، من بين مقترحاتها إلغاء آيات كاملة من القرآن الكريم!
والغريب في الأمر أن ربط كراهية اليهود بالقرآن الكريم والدين الإسلامي وتوسيع مفهوم العداء للسامية ليشمل رفض الأيديولوجيا الصهيونية، قوبلا بنقد شديد من وجوه فكرية يهودية بارزة، من بينها كتاب ومفكرون إسرائيليون مشهورون. ولنبدأ بموضوع ربط كراهية اليهودية بالدين الإسلامي الذي خصص له مؤخراً «مير ميكائيل بار آشر»، أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة العبرية بالقدس، دراسة وافية في كتابه «اليهود والقرآن»، دحض فيه بقوة وجلاء أطروحة الجذور العقدية والنصية للنزعة العدائية العنصرية ضد اليهود في الإسلام. ما يبينه الكاتب هو أن القرآن الكريم أعلى من شأن بني إسرائيل ونص على اصطفائهم وذكر أنبياءهم بكل إجلال، كما أن مفهومه لأهل الكتاب يسع اليهود من حيث هم أمة توحيدية، أما النصوص التي تبدو قاسية ضد اليهود فهي مرتبطة بسياقات ظرفية لم تمنع طوال التاريخ الوسيط علاقات التعايش والتفاعل الحية والثرية بين المسلمين واليهود، بما فيها الجانب الفكري والعقدي، مشيراً إلى أن الإسلام واليهودية متشابهان من حيث منزلة الشريعة في بنية الدين بخلاف المسيحية. ويخلص المؤلف إلى أن العداء للسامية مفهوم أوروبي له سياقه التاريخي في المجتمعات الأوروبية الحديثة، ولا يمكن ربطه بالإسلام عقيدة ونصوصاً.
أما توسيع مفهوم العداء للسامية ليشمل رفض الصهيونية، فقد اعتبره المؤرخ الإسرائيلي «شلومو صاند» إدانةً لأغلب رجال الدين والفكر اليهود الذين رفضوا بشدة الأطروحة الصهيونية ووجدوا أنها تحريف خطير للديانة اليهودية وخطر حقيقي على وجود الشعوب اليهودية.
وفي رسالة قوية إلى الرئيس ماكرون، يبين «صاند» أن أكبر حاخامات اليهود قابلوا مشروع هرتزل بالرفض، ولا يزال التيار اليهودي الأرثوذكسي في إسرائيل وبقية العالم رافضاً للفكرة القومية الصهيونية، كونها حولت مفهوم «العودة إلى أرض الميعاد» من دلالاته الدينية المرتبطة بمعجزة إلهية خارقة لا دخل للبشر فيها، إلى دلالة سياسية علمانية تحول الأمة الروحية «المصطفاة» (حسب اعتقادهم) إلى كيان سيادي على حساب «الأغيار». ومن هنا يخلص «صاند» إلى أن المشروع الصهيوني لا علاقة له بالتصورات اللاهوتية والشرعية اليهودية، بل هو من تأثير الإحيائية البروتستانتية التي تتبنى «عودة» اليهود لفلسطين لأسباب دينية تنضح في العمق بكراهية اليهود واستعجال إبادتهم بظهور المسيح المنتظر.
بيد أن الأطروحة الصهيونية التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر في سياق صعود الأيديولوجيات القومية الأوروبية، أُريد لها أن تكون حلاً لما عرف في أدبيات تلك المرحلة بالمسألة اليهودية، وقد كتب فيها أهم الفلاسفة المنحدرين من أصول يهودية، مثل ماركس وفرويد ولاحقاً حنة ارندت وجان بول سارتر.. وقد أجمعوا على رفض هذه الأطروحة من منظور أنها تكرس هوية اليهودي المنبوذ، إذ لا فرق بين عزله في غيتوهات مغلقة لمنع اندماجه في محيطه الاجتماعي والوطني وعزله في كيان وطني مغلق بالقفز على حقوقه الوطنية والمدنية في البلدان التي ينتمي إليها.
لقد لاحظت الفيلسوفة الألمانية حنة ارندت، اللاجئة للولايات المتحدة بعد صعود النازية في بلادها، أن الأيديولوجيا الصهيونية التي تحمست لها في بدايتها، لا تختلف في الجوهر عن النزعة القومية الألمانية التي تتصور الأمة في شكل جسم عضوي أزلي، يتوارث خصائص طبيعية مميزة، بما يعني النظر للشعوب لا من حيث هي مجموعات سياسية منظمة وفق مقاييس الحداثة السياسية، وإنما من حيث هي شخصيات بيولوجية ما فوق بشرية.
إن هذا النقد للصهيونية يتزايد اليوم في إسرائيل نفسها وتحمله مدارس فكرية وفلسفية جديدة، من بينها مدرسة المؤرخين الجدد الذين فندوا علمياً السردية الصهيونية الرسمية، وحركة ما بعد الصهيونية التي تشكل اليوم العمود الفقري للجماعات الداعمة للسلام ومنح الشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية المشروعة.
وبطبيعة الأمر، لا مجال لإنكار ما نقر به من شطط ظاهر في فكر وسلوك الجماعات الراديكالية المتطرفة التي تستند زوراً للإسلام في سلوكها العدواني العنيف ضد المخالف في العقيدة، خروجاً على كل أدبيات الفقه الإسلامي وتجربة التعايش التاريخي بين المسلمين وغيرهم، وفي مقدمتهم اليهود الذين شكلوا على الدوام مكوناً من مكونات نسيج المجتمع الإسلامي. ولا شك أن لأطروحة الأخوين سيد قطب ومحمد قطب حول المؤامرة اليهودية التي صنعت الثورة الفرنسية والتنوير الأوروبي، دوراً في تثبيت هذه المقاربة المنتشرة لدى جماعات الإسلام السياسي. ومن المفارقات الغريبة أن «اليهود الثلاثة» الذين يتحدث عنهم سيد ومحمد قطب (أي ماركس وفرويد ودوركايم) هم أهم مَن نقد النزعة الصهيونية على غرار جل المفكرين الأوروبيين من أصول يهودية.

عن "الاتحاد" الإماراتية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية