ملوك الطوائف في الأندلس: ما أشبه الليلة بالبارحة!

الأندلس

ملوك الطوائف في الأندلس: ما أشبه الليلة بالبارحة!


09/04/2019

لعصر ملوك الطوائف في الأندلس حضور قوي في تاريخنا المعاصر، ورغم تحميل تلك الفترة كلّ الإخفاقات التي أسست لانهيار حكم العرب لشبه الجزيرة الإيبيرية، إلّا أنّها كانت المحطة الأخيرة في سلسلة من الفتن والهزائم والتناحرات السابقة لها، قامت على أثرها حقبة ملوك الطوائف، التي تبعتها دولة المرابطين، ومع ذلك فقد تركت تلك الفترة بصمتها في التاريخ الفني الأندلسي، بشكل دفع بعض الباحثين إلى إعادة قراءتها وتناولها بشكل أكثر موضوعية.
توفّي آخر الخلفاء الفعليين لبني أمية في الأندلس، الحكم بن المستنصر بالله، عام 366هـ

فترة الفتنة
توفّي آخر الخلفاء الفعليين لبني أمية في الأندلس، الحكم بن المستنصر بالله، عام 366هـ، وبويع ابنه هشام بالخلافة، وهو ما يزال صبياً لم يتجاوز العاشرة، وكانت صبح أم هشام، والدة الخليفة، ذات نفوذ في القصر، وكان المتحكم الفعلي آنذاك في الأمر هو محمد بن أبي عامر، الذي كان وزيراً للحكم، والذي لقب بالمنصور، لكثرة غزواته التي قام بها كي يستولي على الخلافة، فبعد وفاة الخليفة، عمل على التقرب من صبح، واستمال قلبها، حتى قضى على كلّ من له نفوذ من بني أمية، وأصبح الحاجب والوزير للخليفة، بمشورة أمه؛ ففي كتابه "تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس"، يذكر الدكتور والمؤرخ المصري، السيد عبد العزيز سالم؛ أنّ استحواذ بني عامر على الخلافة بقيادة المنصور، هو بداية الإخفاق الفعلي لبلاد الأندلس؛ حيث تنازع أبناء المنصور من بعده على الخلافة، وأسرفوا في الترف، وظنوا أنّ استيلاءهم على الخلافة من بني أمية سيحميهم من ثورة أنصارهم وعامة الأندلسيين الغاضبين من الحكم الاستبدادي الذي مارسه بنو عامر، كما ذكر سالم في مؤلَّفه، وهو ما لم يكن صحيحاً، فقد ثار من تبقوا من بني أمية، حتى يستردوا الأراضي التي سلبها المنصور من إمرتهم.

ابن خلدون في مقدمته: المسلمون في الأندلس انغمسوا في الشهوات والعيش الرغيد حتى انصرفوا عن شؤون الحكم

حين تولى أبناء المنصور من بعده أمور السلطة، قام ابنه عبد الرحمن، الملقّب بالمأمون، بالضغط على الخليفة هشام بن المستنصر، كي يكتب له ولاية العهد، ففعل الخليفة تحت الضغط الممارس عليه، وهو ما لم يرضاه عامة الأندلسيون، فأعدوا جيشاً من المعارضين، أغلبهم من اليمنيين والمضريين، وعلى رأسهم أنصار بني أمية، واقتحموا قصر الخلافة، أثناء غزو المأمون لإقليم ليون، عام 1006 من الميلاد، تحت قيادة محمد بن هشام بن الناصر، وأجبروا الخليفة على التنازل لقائد الثورة، ولقبوه بالمهديّ، وفي طريقه إلى العودة، علم المأمون بخبر الثورة التي عزم على إخمادها، فتركه جنوده من البربر، وأخذوا يتسللون إلى قرطبة مبايعين الخليفة الجديد، ثم ألقي القبض على المأمون من قِبل ثائري قرطبة، وقاموا بصلبه، وبهذا انتهى حكم بنو عامر، الذي اتسم بالاستبداد السياسي الأشد عنفاً في الأندلس، بحسب ما وصفه الدكتور السيد سالم، وقد انتهت تلك الفترة، التي اتسمت بالكثير من الاضطرابات السياسية، أخفقت الحياة العلمية والأدبية أشدّ الإخفاق بحلول عام 422 من الهجرة، الذي حلّت فيه فترة ملوك الطوائف، وبدأ فصل جديد في تاريخ الأندلس، لن ينتهي إلّا بزوال دولتهم.
زادت الفوضى، وعمّت الاضطرابات في البلاد

زوال الخلافة وانقسام الطوائف
لما زالت الخلافة بعد الثورة على بني عامر، زادت الفوضى، وعمّت الاضطرابات في البلاد، فحكم البربر في الجنوب، واستحوذ الصقالبة على الشرق، وأصبحت كلّ من حكومة قرطبة وإشبيلية حكومة شورية، مما حذا بالعلماء والفقهاء إلى الاستناد إلى محمد بن جهور، ليتولى حكم قرطبة، وقيامه بمهام السلطة التنفيذية، وحكم بنو عباد إشبيلية، وفي كتابه "ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام"، تحدث المستشرق الهولندي، رينارد دوزي، عن حقبة ملوك الطوائف، التي كان أبرز محطاتها فترة حكم بنوعباد، وعلى رأسهم المعتضد بالله، السياسي المحنّك، والشاعر المرهف، والذي وضع ابنه المعتمد إلى جانب فطاحل الشعر العربي، كأحد أعمدته في العصر الأندلسي، والذي، كما ذكر لسان الدين الخطيب، لا يخلو مجلسه من الشعر، ولا يدخل مجلسه أيام الإثنين إلّا الشعراء، واستطاع بنو عباد بسط نفوذهم على العديد من الولايات التي سيطر عليها البربر، فبفضل ذكاء المعتضد استطاع هزيمة البربر في أكثر من موقعة، قبل أن تنزلق أقدام بنوه في معركة الزلاقة، التي كانت جسراً لاستيلاء المرابطين على الأندلس.

اقرأ أيضاً: الأندلس: اليمين المتطرّف ينهي حكم اليسار
وبينما يمضي المعتضد في غزواته، تزداد التناحرات في الممالك الجنوبية التي يحكمها البربر، وتزداد الفتن بين ملوك الإمارات، التي انقسمت بحسب العديد من المصادر إلى اثنتين وعشرين طائفة، وبينما انشغل ملوك أوروبا عن غزو الممالك الإسلامية لعقود، بدأت الهجمات تتابع بحلول عام 1055، وبأمر من "فيردينند"، ملك قشتالة وليون، الذي غزا سرقسطة وبطليوس وطليلطة، وسيطر عليها، وأخضع أمراءها لشروطه، مع دفع الجزية، ثم قدم إلى إشبيلية؛ حيث فزع المعتضد من الهزيمة التي لحقت بجيشه، خاصة أنّ الجنود قد أحرقوا قرى بأكملها في إمارته، ولمّا رأى الخليفة عجزه عن الذود عن ملكه، ذهب متوسلاً إلى ملك قشتالة، بأن يتركه على كرسيه على أن يدفع له الجزية التي يطلبها، فرقّ له فردينند، ووافق بشرط أن يدفع له الجزية، وأن يرسل إليه رفات القديسة جوست العذراء التي استشهدت في عصر الاضطهاد الروماني، فوافق المعتضد، وبمجيء عام 1064، هاجم فردينند مملكة بلنسية، وأخضعها لسيطرته، بعد أن قتل قوات جيوش النورمانديين ستة آلاف من أهل المدينة.

إمعاناً في الذلّ
يتواتر الخطاب الإسلاموي المتباكي على الأندلس منذ عقود، حول ضياعها بسبب البعد عن تطبيق شرع الله، بيد أنّ المتعمّق في تاريخ تلك الحقبة، يجد أنّ الضعف السياسي الناتج عن تكالب الأمراء ونزاعاتهم حول السلطة، والضعف الاقتصادي الذي تواجد بسبب بذخ الإنفاق، كانا أبرز ملامح تلك الفترة، وهو ما أكده أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة طنطا، الدكتور محمد فيّاض، لـ "حفريات"، ليس هناك ما يسمى "السقوط المباشر للإمبراطوريات، إنما هي العوامل الاجتماعية التراكمية التي تنذر باقتراب الزوال، ولا يتحمّل ملوك الطوائف المسؤولية الأولى عن سقوط الأندلس، لكنّهم ورثوا تركة الفوضى السياسية، التي سادت منذ أواخر حكم الأمويين، وكانت ملوك الطوائف آخر المحطات، ولكن السبب متشابك، فالأندلس منذ نشأتها كمملكة إسلامية عانت من القلاقل السياسية والاجتماعية؛ بسبب التعدّد العرقي والديني بداخلها، وهناك عدة عوامل اجتماعية من البداية أدت إلى إضعاف الدولة، على رأسها: ثورات البربر، والتحولات في تعامل الحكومة مع تلك الثورات في كيفية إخمادها، كما مثلت التحالفات بين بعض قادة البربر وملوك الإفرنج، التي عززت من إنهاك قوى الجيوش الإسلامية".

فياض: ليس هناك ما يسمى السقوط المباشر للإمبراطوريات، إنما هي العوامل الاجتماعية التراكمية التي تنذر باقتراب الزوال

وبالإضافة إلى ذلك، "هناك أيضاً الصراعات المذهبية التي نشأت بين اليهود والمسيحيين، والإدارة لهذه المشكلات التي أخفقت في عدة جوانب، أضف إليها العلاقات الخارجية، وعلى رأسها الحروب الصليبية في الأندلس، التي أغفلها العديد من الباحثين، فبحسب كتابات ابن الأثير؛ فإنّ الحروب الصليبية قد بدأت في الأندلس قبل أن تبدأ في المشرق، ولم يأخذها المشرقيون بعين الاعتبار، وظنوا أنّهم في منأى عنها"، وبحسب طرح عالم الاجتماع، ابن خلدون، في مقدمته؛ فإنّ المسلمين في الأندلس قد انغمسوا في الشهوات والعيش الرغيد والإفراط في الملذات، حتى انصرفوا عن شؤون الحكم، وضعفت دولتهم، وتكالبت عليهم الجيوش الأوروبية لإخراجهم منها.

بعد رحيل المعتضد تولى ابنه المعتمد الحكم

الحُبّ... وبنوعباد
بعد رحيل المعتضد، وتولي ابنه المعتمد الحكم، وقع في غرام جارية تُدعى اعتماد الروميكية، كانت ذات قدر كبير عند المعتمد، والتي، كما ذكر دوزي في كتابه، أفسدت الخليفة، وصرفته عن شؤون الحكم، ورغم ذلك؛ فقد نجح المعتمد فيما فشل فيه أبوه وجده، وهو ضمّ قرطبة تحت إمرته بقيادة صديقه ووزيره الوفي، ابن عمار، الذي احتال على أمير قرطبة، وفرض سطوته عليها بالحيلة، وزاد طمع ابن عمّار فتطلع إلى ضمّ بلنسية ومرسية، وكانت آنذاك مستقرة سياسياً، بينما دخل ابن عمار إلى مرسية دخول الفاتحين، أوغر قلبَ الخليفة عليه بعض الحاقدين من القصر، ولعبوا بلبّ الخليفة، الذي أصبح على قناعة بأنّ صديقه يكنّ له حقداً ويحاول الانقلاب عليه، وكان صاحب تلك الفتنة الشاعر الكبير، أبو الوليد بن زيدون، فصارت الوقيعة بين المعتمد ورفيق عمره، حتى قتله، ولم يدم حكمه بعدها.

اقرأ أيضاً: "على دروب الأندلس" رحلة إلى بلاد الحلم في ثلاثين يوماً
ازدادت المحن على المعتمد، ولم يشغل بال الأمراء سوى التآمر على بعضهم، وهو ما دفع الإدفونش، أو ألفونسو، أمير الصقالبة، إلى رفض مساعدتهم ووصفهم جميعاً بالخونة المتآمرين، بعد ما رآه من غرق جميع الملوك في الملذات، حتى أنّ أمير طليلطة كان يعجز عن دفع جزيته؛ بسبب بذخه في الإنفاق على شعراء المديح.
وبسقوط إشبيلية انهارت أقوى ممالك الطوائف، التي عبر من خلالها المرابطون، بعدما أجادوا تنظيم أنفسهم، ليؤسسوا دولتهم عقب استيلائهم على إشبيلية، واعتقال ابن عباد ومن تبقى من أسرته.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية