جناية "أل" في الخطاب الديني

جناية "أل" في الخطاب الديني


03/02/2022

يُعاني الفكر الإسلامي خللاً في منظومة المفاهيم ناتج عن تداول بعض الكلمات المؤسّسة للخطاب الديني مقترنة بأل "الجنسية" التي تدخل على النكرة؛ لتفيد معنى العموم والاستغراق، وهي في الواقع ليست مفاهيم إطلاقية، وإن اكتسبت هذا الإطلاق المكذوب من كثرة ترديدها وتداولها مقترنة بأل..

اقرأ أيضاً: إستراتيجيات بناء الخطاب الديني: العدل ومعرفة مراد الله
فيتداول الخطاب الديني كلمات مثل؛ السنّة والإجماع والحكم والدنيا..، على نحو ملتبس، ويتجلّى هذا الخلط والارتباك عندما ندخل في نقاشٍ حولها؛ إذ سرعان ما يتحول إلى حوار طُرشان، يحتفظ فيه كلّ طرف بمدلوله الخاص متجاهلاً الإطار المحدد الذي يعمل فيه هذا المدلول أو ذاك، والنتيجة أننا نجد أنفسنا أمام خليطٍ من الأصول والماهيات حول هذا المفهوم أو ذاك.. يريد المتحدث أو الكاتب دلالة، ويُدرك السامع أو القارئ دلالة أخرى.. فنُناقش القضايا مرّاتٍ ومرّاتٍ دون الوصول إلى نتائج نبني عليها وننطلق منها.

يُعاني الفكر الإسلامي خللاً بمنظومة المفاهيم ناتج عن تداول كلمات مؤسِّسة للخطاب الديني مقترنة بأل "الجنسية

وللخروج من تلك الإشكالية نحتاج بداية إلى تسليمٍ معرفي بأنّنا لسنا أمام مفهومٍ واحدٍ بل مفاهيم احتمالية متعددة، ففي الوقت الذي احتفظ مدلول السّنة في القرآن الكريم بمعناها اللغويّ المُتداول قبل نزول القرآن الكريم، وهو العادة المستمرة، والطريقة المعتادة، حسنة كانت أم سيئة، سنجد أنّ مدلولها تنوّع في لغة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، رضي الله عنهم، بين معنيين لا صلة لهما بالاستخدام المتداول في الخطاب الديني المعاصر، أولهما لا يختلف عن معناها في القرآن الكريم ولغة العرب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنة سيئة فعليه وِزْرها ووِزْر من عمل بها إلى يوم القيامة"، وجاء ثانيهما بمعنى الطريقة العملية المطّردة في الدين التي نُقلت عن الرسول، صلى الله عليه وسلم نقلاً متواتراً عملياً معروفاً عند الكافة بلا اختلاف بينهم، وقد وردت بتلك الدلالة مقترنة بالكتاب في قوله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما إن تمسكتم بهما، كتاب الله وسنة رسوله".

اقرأ أيضاً: ما هي أدوات الخطاب الديني في ظل الثورة الصناعية الرابعة؟
ولم يخرج مدلول "السنة" في لغة مسلمي القرن الأول الهجري عن هذين المدلولين حتى بدأ المسلمون محاولات تدوين أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أوائل القرن الثاني الهجري، فأطلقوا لأول مرّة على الأحاديث والأخبار المُسندة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، كلمةَ "السنّة"؛ لتكتسب بذلك مدلولاً جديداً في لغة المحدّثين، وهو يختلف عن المدلول الرابع الذي أضافه الفقهاء، فالسنّة عندهم صفة لما يفعله المسلم استحباباً لفعلٍ أو قولٍ أتاه النبي، صلى الله عليه وسلم، فيُمدح المسلم على الاقتداء، ولا يُذمّ على التّرك، وهي بذلك تختلف عن مدلولها الخامس عند الأصوليين التي تأتي في لغتهم ليس بوصفها حكماً من الأحكام الشرعية كما يستخدمها الفقهاء، بل بوصفها مصدراً ودليلاً من أدلة التشريع، واستنباط الأحكام، فالسنّة عندهم اسم لدليل من أدلة الأحكام، فيُقال: هذا الحكم ثبت بالسنّة، إشارة إلى ما رُوي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، من أقوال، أو أفعال، أو تقريرات.

اقرأ أيضاً: ناشطة تونسية تدعو إلى مناهضة الذكورية المهيمنة على الخطاب الديني
فمدلول "السنّة" في القرآن الكريم يختلف عن مدلولها في الخطاب الديني، ومدلولها وصفاً للروايات المسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يختلف عن مدلولها في لغة علماء أصول الفقه، ومدلولها عند الفقهاء يختلف عن مدلولها عند الأصوليين الذين اختلفوا في تحديد سنة الأحكام.
أضف إلى ذلك أنّ سنة الأحكام تدخل في إطار الأسلوبية العربية ذات الدلالة الاحتمالية على حدّ قول الإمام محمود شلتوت: "ما من آية حصل من دلالتها اختلاف بين العلماء، وفي موضوعها حديث أو أحاديث، إلا كانت هذه الأحاديث أيضاً محل خلاف بينهم، وقلما نجد حديثاً خلت دلالته ما بين العلماء من خلاف في دلالة آية من القرآن الكريم. ولعلّ ذلك يرجع إلى اشتراك القرآن الكريم والسنّة النبوية في الأسلوبية العربية، وهي واحدة فيهما، كما يرجع إلى أسباب أُخرى تتعلق بثبوت الحديث، وعدم ثبوته، وقوته وضعفه".

اقرأ أيضاً: الخطاب الدينيّ الشعبيّ واختراق الأصوليات الإسلامية له
من جانب آخر يتداول الخطاب الديني مفهوم "الإجماع" وكأننا أمام مدلول واحد قابل للتحقق، فالمفهوم الأشهر في الثقافة الإسلامية والأقرب إلى أذهان العامة، هو "اتفاق جميع المجتهدين من أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، في عصر من العصور على حكم شرعي"، وهذا ما يستحيل تحققه، فلا يُمكن؛ أن يجتمع المجتهدون في مكان واحد ليجمعوا على رأي في مسألة ما؛ وهذا ما دفع بعض الأصوليين إلى تعريف الإجماع بأنه "اتفاق أكثر المجتهدين فحسب" ثم اختلفوا في تحديد ضابط الأكثرية، والمقياس الذي نعرف به المجتهدين الذين سيُعتدّ باتفاقهم أو اختلافهم! وأطلق آخرون الإجماع على "اتفاق طائفة بعينها على رأي اجتهادي"، ثم اختلفوا حول تلك الطائفة بين قائل بأنهم "الصحابة" وقيل: "أهل المدينة"، وقيل: "أهل البيت"، وقيل "الشيخان: أبو بكر وعمر" وقيل: "الأئمة الأربعة"، كذلك اختلف الأصوليون حول طرق تحقق الإجماع هل يشترط أن يُصرح الجميع بالحكم مشافهة أو كتابة، أو يكفي تصريحُ بعضِهم وسماعُ الباقين مع سكوتهم؟

اقرأ أيضاً: تجديد الخطاب الديني... رؤية مختلفة
وهذا ما دفع أئمة الفقه القدامى إلى التشكيك في حجية الإجماع، ومن ذلك قول أحمد بن حنبل: "من ادّعى وجود الإجماع فهو كاذب"، وقول ابن حزم: "ويكفي في فساد ذلك أنّا نجدهم يتركون في كثير من مسائلهم ما ذكروا أنه إجماع، وإنما نحُوا إلى تسميته إجماعاً عناداً منهم وشغباً عند اضطرار الحجة والبراهين إلى ترك اختياراتهم الفاسدة".
وحصر الشافعي وابن حزم مفهوم الإجماع في العمل الذي تلقّته الكافّة عن الكافة مما لا شبهة في ثبوته عن صاحب الشرع"، وهو ما يُطلق عليه "المعلوم من الدين بالضرورة" مثل الظهر أربع ركعات، وهو في هذه الحالة ليس مصدراً للعمل ولا دليلاً وأصلاً في ثبوته، وإنّما هو أثر من آثار هذا الثبوت؛ فإرسال الخطاب الديني كلمة "الإجماع" دون تقييد، وكأنّه مفهوم واحد إطلاقي هي محاولة لإرهاب المخالف في الرأي، واتّهامه أمام العامة بأنّه من الخارجين عن "الإجماع" بما في ذلك من عواقب وخيمة.

مدلول "السنّة" في القرآن الكريم يختلف عن مدلولها في الخطاب الديني أو علم الحديث

فمن اللوازم الشائعة بين الناس لمن يُتهم بمثل ذلك، على حدّ قول شيخ الأزهر محمود شلتوت، أنه متهم بـ"مخالفته سبيل المؤمنين، ومشاقّة الله ورسوله، وخرْق اتفاق الأمة، إلى غير ذلك مما يتحرّجه المسلم، ويخشى أن يُعرَف به عند العامة. وكثيراً ما نراهم يُردفون حكايتهم للإجماع بقولهم: "ولا عبرة بمخالفة الشيعة والخوارج" أو "بمخالفة أهل البدع والأهواء" أو "بمخالفة المعتزلة والجهمية" ونحو ذلك مما يُخيفون به.. وبهذا امتنع كثير من العلماء عن إبداء رأيهم في كثير من المسائل التي هي محل خلاف ضنّاً بسُمعتهم الدينية، فوقف العلم، وحُرمت العقول لذة البحث، وحِيل بين الأمة وما ينْفعُها في حياتها العملية والعلمية. ونحن معشر الأزهريين لا ننسى شيوع القول بحرمة الاشتغال بالعلوم الرياضية والكونية والحكم بالزندقة والإلحاد على من شذّ فتعلّمها أو أباح تعلمها!"

اقرأ أيضاً: الخطاب الديني الرقمي والترويج للتطرف
أخيراً تظهر جناية "أل" في تحذير الخطاب الديني الدائم من الدنيا وتحقيرها والدعوة إلى كراهيتها انطلاقاً من أخبار مسندة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، من قبيل "الدنيا ملعونة ملعون من فيها" متجاهلاً أنّه في مقابل الأخبار التي تُحذّر من الدنيا وتلعنها تُوجد أخبار أخرى مسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيها "الدنيا حلوة خَضِرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون"، فالتوظيف الخاطئ للأخبار أنتج فكراً متطرفاً يسعى إلى هدم الدنيا، أو فكراً عاجزاً مستكيناً متخلفاً عن القيام بدوره في دفع المسيرة الإنسانية، والواقع أنّ التحذير النبوي ليس من الدنيا عامة بل من دنيا الإفساد، دنيا الأطماع، دنيا الركون والتّخلف، وهي على نقيض دنيا المحبة والتسامح، دنيا العمل والبناء.
لمواجهة تلك الإشكالية ودفع هذه الجناية نحتاج إلى تقييد المفاهيم المقترنة بـ"أل" الجنسية، فهناك قيد محذوف تُشير إليه السياقات، وتدل عليه طبيعة الخطاب بما يحول دون التعميم المضلل الذي يقع فيه الفكر الديني.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية