ماذا لو ربّت الذئاب طفلاً؟

ماذا لو ربّت الذئاب طفلاً؟


06/05/2019

عدم رؤيتنا للشجرة لا يعني أنّها غير موجودة خلفنا، وإذا لم نسمع الصخب النشيط الذي يدفع الأرجوحة المعلقة على غصنٍ منها، هذا لأننا ننظر إلى مكان معتمٍ تفوح منه رائحة الخوف، الخوف الذي يُخرس كل شيء، ويشلّ قلب الحياة، وطالما لن يوقظنا فرح طفلٍ فلن يوقظنا شيء في هذا العالم المتوحش. في بيت الحكايا هناك من التفت إلى الشجرة، وملأها بأراجيح تحرّكها إمكانات الطفولة، لتستيقظ بكل الأسئلة التي يحاول الرماد أن يغلقها.

اقرأ أيضاً: أين المشكلة.. في التعليم المختلط أم في أنماط التربية؟

في مدينتي العالقة بكلابات الجنون والتوجس، كمثيلاتها من المدن السورية الحزينة، ولِد بيت الحكايا، في ظلال المشهد الذي يتصدّره الخوف، والأطفال الذين يدخلون إليه من بوابة افتح يا سمسم، يصنعون حكاية مختلفة، حكاية يتناقض إيقاعها الفرح مع القلب المثقل للمدينة، فما يصنعه الأطفال هناك، هو ما نسينا أو تناسينا أنه يصنع الحياة، وينقذ خطواتنا الذاهبة إلى حتفها.

عندما تصبح الدمية صديقة للطفل ويكون لها حكايتها الخاصة معه فلا بدّ أن تشكل قيمة ومكانة مختلفة في نفسه

بالتأكيد سنعثر في ضفافٍ أخرى من العالم على بيوتٍ للحكايا، في دولٍ عربية وأجنبية، ولسوف تدهشنا بيوت الحكايا التي نراها في كندا وهولندا، وقد يُحبَطُ فقرنا أمام الإمكانات المدهشة التي زُوّدت بها هذه الأماكن، وأخص هنا "البنية التحتية للمكان"، ولكن بيت الحكايا في مدينتي بموجوداته البسيطة، ربما يجعلنا نعاود التفكير بهذا الإحباط، حيث لا نجد فيه أكثر من أقلامٍ وأوراقٍ ملونة، وبعض أشياء جمعتها يد الصدفة، ولكن ما أن تمسّها مخيلة وأيدي الأطفال، حتى يصبح الغصن دمية، والقوقعة نافذة يطلون منها على البحر، وقد تغدو الورقة زورقاً يبحر في أنهار وبحار لم نعرفها من قبل، فكل ما هو بالمتناول والبسيط، يمكن أن يفتح باباً على الحكاية، وكل هذا يتمّ بعيداً عن التكنولوجيا وألعاب النت والعالم الافتراضي.

اقرأ أيضاً: التربية الأخلاقية الفعالة ومحو الأمية العاطفية

إحدى مشرفات بيت الحكايا منتهى ناصيف تقول: "لعل صناعة دمية من مواد بسيطة ليس أمراً غريباً، لكن عندما تصبح تلك الدمية صديقة للطفل، ويكون لها حكايتها الخاصة معه، فلا بدّ أن تشكل قيمة ومكانة مختلفة في نفسه، فتجعله ومن خلال الحديث بلسانها أو معها، أكثر قدرة على التعبير والنقد، فالكثير من المكونات حولنا، نحتاج لرؤيتها بعين النحلة ليزهر الجمال، والأطفال كائنات أكثر قدرة منا على ذلك، قد لا يكون جميع الأطفال موهوبين بفنٍّ من الفنون، ولكن جميع الأطفال سيكون لديهم هنا الفرصة للتعبير عن أنفسهم، ولا بدّ أن تضيء داخل كل منهم نجمته".

اقرأ أيضاً: التربية الجنسية تهيّج الصراع بين الليبراليين والمحافظين في كندا

أعتقد أنّ غالبيتنا أصيب بالدهشة على مواقع التواصل، حين نسمع إجاباتٍ لأطفالٍ على أسئلةٍ تتعلق بالله أو الحب أو الأسرة أو المدرسة...الخ، وربما تعود هذه الدهشة لفعل مقارنتهم مع أطفالنا، فإجاباتهم العميقة تبدو لنا بعيدة عن أفواه أطفالنا، بالطبع نحن محقون في ذلك، ولكن ليس لأن هؤلاء الأطفال أفضل من أطفالنا، بل لأن مساحات النمو الواسعة والحرّة التي يحظون بها، تُحدِثُ فارقاً أمام التسطيح والتهميش الذي نمارسه على أطفالنا، وقولبتهم ضمن جمل مغلقة تصادر حريتهم وقدرتهم على التعبير، ولكن ما لا ندركه أنّه عندما تتاح الفرصة لهم سوف تتحرر طاقاتهم الكامنة والمقموعة، وهذا ما تمّ لمسه من قبل مشرفات بيت الحكايا "سمر وسهام ومنتهى" "في كل مرة نرسم خطة للعمل، يفاجئنا الأطفال أنّ الخطة خرجت عن مسارها، وأنّ الفكرة تحررت معهم لأبعد مما كنا نتخيل، فخيالهم الجميل لا يمكن أن نرسم له حدّاً، هو حقاً نبعٌ من الماء العذب، أو شلالٌ من المؤذي أن نتحكم بتدفقه، لذا نتركه يتدفق ليحيي الجمال الساكن حوله".

اقرأ أيضاً: هل نحتاج فعلاً إلى التربية الجنسية؟

لا يمكن أن تنمو الأجنحة بعيداً عن الهواء، فالهواء الذي يتنفسه الأطفال في بيت الحكايا، حلّق جملاً ملونة في أجنحتهم، لقد استطاعوا أن يعبّروا بإجاباتٍ واضحة عمّا يحبون، وعمّا يزعجهم، وفهم رغباتهم، وتجاوز خجل الجمل المغلقة، فمن خلال إجاباتهم على سؤال: لماذا تحبون بيت الحكايا؟ تطفو في كل إجابة أزمة من أزمات المجتمع، التي يدفعون ضريبتها بصمت.

إن وجود الجانب الإنساني مرتبط بوعينا له وأي نقص في هذا الوعي سيخلق نقصاً في إنسانيتنا

"أحب بيت الحكايا لأنه لا يشبه المدرسة، بيت الحكايا يشبه عالم النجوم أو كوكب جديد ومختلف، أتمنى أن يأتي والداي إلى بيت الحكايا "لحتى يبطلوا معصبين"، أتمنى أن يأتي والدي ويشاركني التمثيل، ليفرح ويتخلص من غضبه، أحب كتابة القصص، وأتمنى أن أبقى وحدي أياماً، حتى أكتب صفحات طويلة، ففي هذا المكان فقط أحب الكتابة، كنت أعتقد أنني الوحيدة التي لديها أصدقاء مثل الفراشة والشجرة، وأخجل أن أخبر أحداً بذلك، ولكني هنا اندهشت أنّ هناك أطفالاً يشعرون مثلي، أشعر هنا بسلام وأمان، إنه أكثر مكان لا أشعر فيه بالملل، وأنّ الوقت يمضي بسرعة البرق، أكثر شيء أحبه عندما آخذ دور الشجرة، ونشكّل أنا وأصدقائي غابة أشجار وعصافير، أتمنى لحظتها أن أبقى شجرة أو عصفوراً، ولا تنتهي الموسيقا واللعبة أبداً".

اقرأ أيضاً: من رواد التربية والتعليم .. نستذكره معاً

ربما إجابات الأطفال تدفعنا لنسأل: هل إنسانيتنا فطرية أم مكتسبة؟ كما يجعلنا هذا السؤال نعيد التفكير بالكثير من الحقائق التي تغذي وعينا، وقد تحمل الإجابة أسئلة من نوع: ماذا لو ربّت الذئاب طفلاً؟ هل سيتجاوز وعي هذا الطفل وعي الذئب الذي تربّى في كنفه؟ وهل ماوكلي داخل الحكاية هو نفسه خارجها؟ وهل سيتمكن حقاً من ملامسة إنسانيته؟

وجود الجانب الإنساني مرتبط بوعينا له، وأي نقص في هذا الوعي سيخلق نقصاً في إنسانيتنا، ولكن أن يصبح هذا النقص هو السمة الأعم للوجود، هذا يعني أنّ الإنسان سيفقد معناه، ونتعامل مع الاستثناء على أنه القاعدة، نمارس أحقادنا وحروبنا، ذئاباً نمضي قُدُماً باتجاه خوفنا، تاركين وراءنا أرجوحة يتيمة، تعلو وتهبط على إيقاع رتابة الإهمال.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية