الإصلاح الديني بين مارتن لوثر ومحمد عبده

الإصلاح الديني بين مارتن لوثر ومحمد عبده


08/05/2019

يأتي الإصلاح الديني على رأس القضايا التي يكثر حولها الجدل، وتتنازع فيها الآراء، اتفاقاً أو اختلافاً مع تفاصيلها، والبنى المعرفية والعلمية التي تلتئمها، ومدى توافُق تلك القضية الخطيرة، التي بدأ ظهورها القوي في أوروبا على يد مارتن لوثر، الراهب الألماني، في نحو العام 1517، مع التصورات الإسلامية التي تحكم مجال الدين الإسلامي في الشرق؛ ذلك أنّ مصطلح الإصلاح الديني ظهر مقترناً بالحركات الدينيّة التي اجتاحت أوروبا في القرن السادس عشر الميلادي، وكانت كلها تدعو إلى إصلاح الكنيسة، التي أمّمت الدين المسيحي فاحتكرت فهم النصّ الديني وتفسيره، ومنعت الآخرين من ممارسة هذا الحقّ.

إصلاح الكنيسة

بالتزامن مع عصر النهضة؛ كان مارتن لوثر يرى أنّه لا واسطة بين الإنسان وربّه؛ فهو لا يحتاج إلى ما يسمّى "ممارسة الأسرار المقدسة"؛ التي يقدّمها رجال الإكليروس في الكنيسة، وبالتالي لا صحة لوجود تلك الصكوك التي يمنحها رجال الإكليروس للمخطئين، وتتلخص القضايا التي طرحها لوثر في مبادئ أساسية، لعلّ أهمها: أنّ الكتاب المقدس وحده هو مصدر أصول الإيمان المسيحي، وليس تفسيرات وتخريجات القساوسة والرهبان، أما الخلاص؛ فهو عمل ينعم الله به على المؤمن، فكلّ مؤمن كاهن بنفسه، وهو مسؤول على أعماله كلّها أمام الله، مسؤولية مباشرة، ولا يحتاج إلى وسيط، فرجال الكنيسة ليسوا وسطاء بين الناس وربهم، وليس لهم من سلطان على أحد، ولا وجود للأسرار المقدسة التي كان يتاجر بها رجال الدين المسيحي، اللهم إلا التعميد والعشاء الرباني، على حدّ اعتقاد مارتن لوثر.

مما يعزّز مكانة مارتن لوثر زعيماً إصلاحياً بامتياز أنّه أول من نهض باللغة الألمانية وآدابها

وثمة أمر آخر يجعل من مارتن لوثر زعيماً إصلاحياً بامتياز؛ ذلك أنّه أول من نهض باللغة الألمانية وآدابها، من خلال ترجمة الكتاب المقدس ترجمة جديدة تتفاعل مع لغة المواطن الألماني العادي، فأسّس لغة جديدة نقلت الأدب الألماني نقلة عظيمة في أوروبا كلها، بعد أن كانت لغة محلية غير خلّاقة على المستوى الأدبي أو الثقافي؛ لذلك يعدّه الألمان أحد أكبر الشخصيات التاريخية عندهم، ولا أدلّ على ذلك من أنّ كبار المفكرين المتنورين والفلاسفة العباقرة الذين جاؤوا من بعده، مثل: كانط، وهيجل، ونيتشه، وغيرهم، كانوا ينتحلون المذهب البروتستانتي الذي تمخّض عن تجربة الإصلاح الديني في أوروبا، ما يؤكد أنّ الإصلاح الديني إنما هو تأسيس وبداية للتنوير الفلسفي.

مع محمد عبده

وأما الإصلاح الديني عند الإمام محمد عبده (توفي 1905)؛ فهو يكشف بجلاء عبقريته في مضمار تحرير الفكر الديني من كلّ جمود وتقليد، وهو يقصد بذلك: "تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف هذه الأمة، قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لتردّ من شططه، وتقلل من خلطه وخبطه، لتتم حكمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني ...".

الإصلاح الديني عند محمد عبده يكشف عبقريته في مضمار تحرير الفكر الديني من كلّ جمود وتقليد

كما نبّه إلى دور الشجاعة من حيث كونها هي التي تنزع عن الأفكار سلاسل التقليد والعادات، فقال: "استعمال الفكر والبصيرة في الدين يحتاج إلى شجاعة وقوة جِنان، وأن يكون صاحب الحقّ صابراً ثابتاً لا تزعزعه المخاوف"، وبتلك الشجاعة تصدّى لجمود الأزهر، وعادَى كتبه التي يعكف الأزهريون عليها، وهي الحواشي والمتون، ورأى أنّ إصلاح الدين ونهضة الأمة لا يكونان إلا بإصلاح معاهد الدين؛ أي بإصلاح الأزهر، وهو ما ننادي به اليوم،  ورغم وجود بعض الممارسات التجديدية التي يقوم بها الأزهر في مصر، سواء على مستوى تطوير وتعديل مناهجه، أو على مستوى لغة الخطاب الديني، أو حتى على مستوى تعاطيه الإعلامي مع قضايا التطرف والطائفية والإرهاب.

اقرأ أيضاً: نحو لحظة تاريخية جديدة للنهضة والإصلاح الديني

لكن تبقى كلّ هذه الإجراءات والممارسات غير كافية؛ لأنّها لا تحفر عند الجذور، ولا تنفذ إلى لُبّ التجديد الحقيقي والإصلاح، ولمّا أن يئس الرجل من إصلاح الأزهر، آنذاك، كرّس جهوده العلمية والإصلاحية تجاه مدرسة "دار العلوم"، التي تمزج مناهجها بين علوم الدين والدنيا، فقد كان على يقين بأن "دار العلوم تصلح أن تكون ينبوعاً للتهذيب النفسي والفكري، والديني والأخلاقي، ويمكن أن ينتهي أمرها إلى أن تحلَّ محل الأزهر، وعند ذلك يتم توحيد التربية في مصر".

اقرأ أيضاً: لوثر وعبده: الإصلاح الديني والسياق التاريخي

وقد حدَّد محمد عبده طائفة من الأصول التي يقوم عليها الإسلام، منها: النظر العقلي لتحصيل الإيمان، وتقديم العقل على ظاهر النص عند التعارض، وتأويل النصوص على قانون اللغة، وعدم تكفير الآخرين، "فإذا صدر قول قائل يحتمل الكفر مئة وجه، ويحتمل الإيمان وجهاً واحداً، حُمل على الإيمان"، ومنها أيضاً: نفي السلطة الدينية، فليس ثمة وساطة بين المؤمن وربه، وسادسها: مودّة المخالفين في العقيدة، وهي كلها أصول لمّا نزل نفتقدها في محيطنا العربي/ الإسلامي.

وجه الارتباط

لا نجافي الحقيقة إذا قرّرنا أنّ تجربة الإصلاح الديني لدى محمد عبده كانت تهتدي بتجربة الإصلاح الديني، التي أسّسها وأطلقها مارتن لوثر، في القرن الساس عشر للميلاد، فهو يقول: "وخبرتنا بأحوال الأمم الأوروبية، والأسباب التي وصلت بهم إلى ما نراهم عليه من قوة ودراية، توجب لنا اليقين، بأنّ صلاح التعليم الديني، يكون نشأة حياة جديدة، تسري في جميع أرواح المسلمين"، وهو ما يعني أنّ تجربة مارتن لوثر، كإطار عام، كانت على مرمى نظر، وفكر محمد عبده، لكنّه جعل قضية الإصلاح الديني في الشرق أصيلة؛ لأنّه غاص في القرآن الكريم كونه كتاب عقيدة وهدْي وإصلاح، فلْنجعل من محاولاته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والخمس الأُوَل من القرن العشرين بداية، وقاعدة للبناء والفرز؛ لأنّه لا سبيل إلى التنوير دون إصلاح اللاهوت الديني.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية