مراجعات الصحوة والعنف... قراءة مغايرة

مراجعات الصحوة والعنف... قراءة مغايرة


14/05/2019

يوسف الديني

رغم الجدل الكبير الذي حظيت به مراجعات د. عائض القرني، تثميناً وتبخيساً، وصولاً إلى اعتبارها مراجعة منقوصة، لأنها لم تأتِ على طريقة (إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا)، فهي مراجعات عامة أشبه بطريقة الاعتذار الدبلوماسي، إلا أن الحقيقة تكمن وراء فكرة المراجعات التي ترافقت مع حالة الانكسار أو التحولات الكبرى التي تعيشها كل التيارات الفكرية إجمالاً، والإسلامية على وجه الخصوص، منذ فترة مبكرة.
بالنسبة لمراجعة د. القرني ليست بالتأثير ذاته على مستوى بنية «الصحوة»، أو الإسلام السياسي، ولا حتى نقّادها؛ فالطرفان لا يحملان شخصيته على محمل الجد، فهو أقرب إلى نموذج الواعظ السيّار المتنقل من موقف لآخر، والمعتذر على الدوام من مواقف اجترحها كانت محل حنق الطرفين؛ «الصحوة» لشعورهم بالخذلان، وناقدي الإسلام السياسي، باعتبار أنها جزء من براغماتية التحولات الدينية، حسب الوضعية السياسية، هذا إذا ما استبعدنا موضعة د. القرني في تراتبية «الصحوة»، فهو ليس من المنظرين، أو المفكرين أو المؤثرين على مستوى الكوادر الداخلية، وإنما كان شخصية جماهيرية شهيرة في عصر «الكاسيت» والكتيبات، ومكتسحة ما بعد الفضائيات.
فكرة المراجعات الفكرية أهم من الاعتذار العام، بمعنى الذي يسجل موقفاً، ولكن لا يلج إلى نقد البنى الأساسية التي شكلت هويّة الإسلام السياسي وتيارات «الصحوة»، وفكرة النقد الذاتي ليست وليدة هذه المرحلة التي تعصف بالحالة الإسلامية خطاباً ومرجعيات ومتلقين، ففكرة إعادة النظر والاجتهاد والتأمل المتجدد في النصوص الشرعية والتراث الذي خلفته لنا المدارس العقائدية والفقهية الكبرى ليست بالأمر الجديد أو المثير، لأنها جزء من الاجتهاد المطلوب شرعاً.
لكن اللافت في ملف المراجعات، هو القسم الذي يختص بمراجعات العنف والتطرف والعمل المسلح، التي تقدمها شخصيات بارزة مرت بتحولات فكرية ومراجعات لأفكارها حول مسائل متعلقة بالتطرف والعمل المسلح وقضايا عقائدية وفقهية ذات صبغة سياسية، مثل هذه المراجعات كانت ولا تزال محل ارتياب وأخذ ورد وجدل، بسبب دوافعها ونتائجها وآثارها على المتلقين، لا سيما أن كثيراً منها يبدو كالتراجع المعنوي أكثر من كونها تقدم قراءات جديدة يمكن أن يكون لها تأثيرها على واقع التطرف والغلو في خطاب جماعات الإرهاب والعنف المسلح.
والحق يقال بعيداً عن رصد كل المراجعات في المشهد الإسلامي، وقد أُلفت فيها كتب ودراسات أكاديمية، لكنها في السياق السعودي خصوصاً لم تحظ بالبحث والمطارحة، وفي ظني أن واحدة من أهم المراجعات في تاريخ الإسلام السياسي والعنف في السعودية كانت لأستاذ العقيدة المتخصص، الشيخ عبد العزيز الحميدي، قبل نحو العقد، تحديداً في عام 2010، وقد تم توثيقها في 6 حلقات بثت على شاشة التلفزة السعودية، وأعدها واحدة من أهم الوثائق اليوم في جدال الفكر المتطرف من داخله، فهي لا تبدو كتلك المراجعات العابرة لأسباب كثيرة تتعلق بتخصص الشيخ وسابقته في العلم الشرعي ومؤلفاته التي يمكن لأي باحث أن يرى فيها المتانة العلمية، إضافة إلى أن مراجعاته التي بدأها بحديث مطول عن مسائل حساسة تتصل بموضوع الولاء والبراء، والموقف من غير المسلمين في البلدان الإسلامية، ومسألة ضوابط «النصرة»... إلخ، كل هذه المراجعات تبدو مليئة بالتفاصيل المهمة والتفريعات الدقيقة التي تلامس شغف طلبة العلم الشرعي، وتحاول أن تجيب بصراحة ووضوح على تساؤلاتهم في هذه الملفات الشائكة.
تميزت مراجعات د. الحميدي عن د. القرني بأنها أتت من خلفية متخصصة ومتينة من زاوية امتلاك الأدوات الشرعية، ولذلك كان حضوره في تيارات العنف مكسباً كبيراً، لأن حتى تلك التيارات تفتقد المنظّرين الشرعيين أكثر من أي شيء آخر. الحميد ناقش أدلة التكفيريين بشكل تفصيلي، كما استطاع أن يعرج على أبرز الإشكالات التي يتم طرحها عادة في ملف «الولاء والبراء»، وهو الشعار الأكثر استخداماً من قبل جماعات التطرف والغلو لما له من تأثير كبير، بسبب تعقيده وتفاصيله، على تبني رؤية هجومية تجاه غير المسلمين بدعوى النصرة والجهاد.
الدور الأهم لمراجعات الحميدي، هو أنه جادل أهم شخصية علمية في الخطاب الجهادي المسلح، وهو أبو محمد المقدسي، وحسب الباحثة المرموقة كارين أرمسترونغ، التي اعتبرت أن ملهم الفكر الأصولي في العصر الحديث هو سيد قطب، إلا أن من مزج هذا الفكر بنكهة جهادية متطرفة هو أبو محمد المقدسي عبر تطويعه للنصوص والاقتباسات لرموز المدرسة السلفية، لتأييد أفكاره الخاصة عن الواقع الحالي.
الحميدي قام بنقد المقدسي في أهم كتبه، التي بُني عليها الجانب التكفيري داخل الجماعات الجهادية، (ملة إبراهيم)؛ تلك الجماعات التي كانت في بداياتها مترددة بشأن تكفير الأنظمة في بدايات مرحلة أفغانستان، وقبل اندماجها مع مقاتلين من كل العالم. وحسب د. الحميدي، فإن ما فعله المقدسي وآخرون هو استخدام أدوات الخطاب السلفي الشائع نفسها، ومدارسه، ورموزه، لكن بتحوير نصوصهم لصالح نتائجه، وأن ذلك تم بطريقة انتقائية في غاية المكر والتلبيس على غير المتخصصين، ولذلك كان هذا النوع، حسب الحميدي، هو أكثر ما يخافه العلماء المعتدلون استناداً إلى حديث نبوي: «أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن».
الأكيد أن تلك المراجعات ونظيراتها هي ما يمكن البناء عليه في الحرب الفكرية على العنف والتطرف، وعلاقته أيضاً بأفكار الإسلام السياسي ومرحلة «الصحوة»، وهو عمل يحتاج إلى عمل مركزي متخصص، وليس استناداً إلى توبات أفراد وأشخاص، فالخطاب الديني، حتى المعتدل منه، لم يخرج اليوم من مرحلة الاعتذار، أو كما يقال بالعامية «الفشلة» من مرحلة «الصحوة»، لكن الأهم هو أخذ المبادرة بكل شجاعة واقتدار في قراءة منهجية تلك المرحلة، واستدلالاتها، كخطوة أولى في طريق الحرب على أفكار الغلو والتكفير وتضييق الخناق على الإرهاب من الداخل من دون الاكتفاء بإدانته، أو تجريمه بعبارات عامة لا تصل إلى قلوب المترددين أو المتعاطفين، فضلاً عن عقولهم.

عن "الشرق الأوسط" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية