أصل الفلسفة اليونانية.. ابحث عن حكمة الشـرق

أصل الفلسفة اليونانية.. ابحث عن حكمة الشـرق


23/05/2019

يروق لكثيرين أن يتحدّثوا عن تفرُّد العقل اليوناني القديم، الذي أنتج الفلسفة والمنطق، حتى إنّهم أطلقوا على هذا التفرُّد اسم "المعجزة اليونانية Greek Miracle"، دون أن يكترثوا للحقائق التاريخية والاجتماعية والأنثروبولوجية، ومدى ارتباط وتأثُّر حضارة بلاد اليونان بحضارات الشرق، ولا سيما الحضارة المصرية القديمة، إحدى أقدم الحضارات الإنسانية، التي قدّمت للبشرية أفكاراً ميتافيزيقية وفلسفية تُعدّ "المادة الخامّ" لمعظم الأفكار والمبادئ والنظريات الفلسفية التي أنتجتها قرائحُ فلاسفة اليونان، سواء قبل سقراط أم بعده، خصوصاً مع اعتراف كثير من المفكرين الغربيين بأنّ الحضارة اليونانية لم ترتقِ ولم تزدهر آدابها وفلسفتها وفنونها إلا بعد أن احتكَّت بالشرق في إيوليا وأيونيا بآسيا الصغرى، يقول روبرتسون في الجزء الأول من كتابه (تاريخ حرية الفكر): "إننا مهما قلّبنا وجوه الرأي وأمعَنّا البحث، فلن نعثر على مدنية يونانية أصيلة بريئة من التأثر بالحضارات الشرقية"، ولم يجد اليونانيون، وقتذاك، صعوبة في الاتصال ببلاد الشرق؛ فقد كان لأثينا أسطولٌ تجاري بحري يساعدها على الحركة، وطي المسافات، والتبادل التجاري مع شعوب حوض البحر المتوسط.

تهافُت نظرية "المعجزة اليونانية"

ناقش الدكتور فؤاد زكريا نظرية "المعجزة اليونانية"، في كتابه "التفكير العلمي"، وفنّدها معترفاً بتهافتها؛ إذ يقول؛ "إنّ الكلام عن معجزة يونانية ليس من العلم في شيء، فالقول إنّ اليونانيين قد أبدعوا فجأة، ودون سوابق أو مؤثرات خارجية، حضارة عبقرية في مختلف الميادين، هو قول يتنافى مع المبادئ العلمية التي تؤكد اتصال الحضارات، وتأثير بعضها ببعض، على حين أنّ لفظ المعجزة يبدو في ظاهره تفسيراً لظاهرة الانبثاق المفاجئ للحضارة اليونانية، فإنه في واقع الأمر ليس تفسيراً لأي شيء، بل تعبير غير مباشر عن العجز في التفسير".

جورج جيمس في كتابه (التراث المسروق) يؤكّدُ أنّ الفلسفة اليونانية هي بالأساس فلسفة مصرية

معلوم ما في تسويق أمر هذه المعجزة من أبعاد سياسية واستعلائية ضاربة بجذورها في بطن التاريخ منذ قرون؛ ذلك أن تضخيمها يُراد به الاستخفاف بأي جنس غير أوروبي، وتثبيت نظرية التمييز العنصري، التي تمخَّض عنها تبرير الحقبة الاستعمارية لبلاد الشرق، ودعاوى التمييز، وأفضلية الجنس الأبيض على الأجناس الملوَّنة، والادّعاء أن الرجل الشرقي لا يتقِنُ سوى العملِ لا الفكر، ولا يتعلق إلّا بالرُّوحانيات والدِّين، لا بالعقل والنظر، لذلك لا غرو في أن نجد مفكراً كبيراً مثل جيلبرت هايت يفرّق، في سفور، في كتابه "جبروت العقل" بين تراث الإغريق العقلاني، وتراث الشعوب الأخرى من البرابرة كالمصريين والآشوريين، متعامياً عن حقائق الاجتماع والسيكولوجيا والعلم، فلا توجَد أمة من الأمم تقتصر على العمل دون النظر والفكر، بل إنّ العمل والنظر، كليهما، يتوزّعان بحسب طائفة من العوامل النفسية والاجتماعية والتاريخية، الأمر الذي يثبت عنصرية مَن جعلوا من بلاد اليونان أساساً للفلسفة والنظر العقلي، دون اعتراف للشرق بأي فكر أو نظر أو فلسفة.

اقرأ أيضاً: تكفير التفكير.. الصحوة والفلسفة

لكن هذا لا يجعلنا نغضُّ الطرف عن بعض المنصفين من مفكري الغرب الذين اعترفوا بفضل حضارات الشرق، خصوصاً الحضارة المصرية، على حضارة اليونان؛ فهذا جورج. م. جيمس في كتابه "التراث المسروق" يؤكّدُ أنّ الفلسفة اليونانية هي بالأساس فلسفة مصرية سرقها اليونانيون الذين لم يكونوا يونانيين بالمعنى العِرقي للكلمة، في إشارة منه إلى أنّ أثينا لم تنجب سوى فيلسوفين اثنين؛ هما سقراط وأفلاطون، أما سائرُ الفلاسفة المُنتسبين إلى بلاد اليونان فهم ليسوا يونانيين، وإنّما ذوو أصول مصرية وسورية!

تأثير الحضارة المصرية في فلاسفة اليونان

ويبرزُ ها هنا سؤال، لماذا نفترض أنّ الشرق كله كان عاجزاً عن التفكير العقلي، والنظر الفلسفي، بينما نجد أنفسنا مدفوعين بإرادتنا إلى الاعتراف بذلك كله إلى اليونان، لا لشيء سوى لأنّ معظم مدارس الفلسفة ومفكريها سلبوا من الشرق كل تفكير ونظر وتأمل؟! ولماذا نتغافل عن اعتراف بعض مفكري وأساتذة الغرب بأسبقية الحضارة المصرية القديمة في النظر العقلي والتأمل الفلسفي في كثير من المسائل الميتافيزيقية، والقيم الأخلاقية والسلوكية والعلمية، وقد بات معروفاً لدى كثيرين ممن درسوا تاريخ الفلسفة وأصلها أنّ فيلسوفاً مثل فيثاغورس الذي عاش، تقريباً، بين العامين (580-497) قبل الميلاد، قد رحل إلى مصر وعاش فيها اثني عشر عاماً، وبعدها سافر إلى بابل بالعراق، فمكث فيها اثني عشر عاماً كذلك، ومن البابليين تعلم الرياضيات، كجدول الضرب، وجداول التربيع والتكعيب وجداول عكسية الجذور التربيعية والتكعيبية والكسور والأوزان والمقاييس، وعلم الجبر والمعادلات الأولى والثانية والثالثة، وبلا شك، فقد كانت تلك العلوم التي تعلمها فيثاغورس في مصر، هي الأساس الذي انطلقت منه وتطورت في بلاد اليونان بعد ذلك.

تضخيم "المعجزة اليونانية" استخفاف بأي جنس غير أوروبي وتثبيت نظرية التمييز العنصري

ولا بد من الإشارة إلى أنّ المؤرخ اليوناني الكبير هيرودوت يعترف بفضل الحضارة المصرية على الحضارة اليونانية، خصوصاً في مجال الدِّيـن، وكما زار فيثاغورس مصر، فقد تواترت الأدلة على أنّ طاليس، وديمقريطس، بل وأفلاطون، زاروها كذلك، ويبدو أنّ زيارة مصر، في ذلك الزمان، والحج إلى معابدها، ومخالطة كهنتها وعلمائها، كان أمراً يحرص عليه معظم فلاسفة اليونان، ولا سيما مع تطور العلوم والآداب والفنون المصرية القديمة، وثراء الديانة المصرية، وكذلك ثراء الجوانب الميتافيزيقية والأخلاقية والجمالية التي تمتزج بها.

الفلسفة اليونانية لم تنشأ من العـدَم

ليس المقصود مما سبق أن أنسِبَ إلى التراث الديني والفكري والأسطوري لمصر القديمة أي مذهب فلسفي يرقى إلى المدارس والمذاهب الفلسفية التي ظهرت في بلاد اليونان منذ بزوغ نجم الفلسفة اليونانية في نحو القرن الخامس قبل الميلاد، كما لم أبتغِ الادّعاء بأسبقية الحضارة المصرية القديمة على غيرها من حضارات الشرق، كالبابلية والآشورية، وغيرهما، لكنني، فقط، أردتُ أن أنبّه إلى أنّ الفلسفة اليونانية لم تكن لتنشأ من العدم، بل كان لها أصولٌ شرقية، على رأسها الأصول المصرية، فهي التي أسّست وعبّدت الطريق لما اتُّفق على تسميته "المعجزة اليونانيـة".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية