حزب البعث السوري: تجربة خمسة عقود من الحكم.. ما أبرز التحولات؟

الأحزاب العربية

حزب البعث السوري: تجربة خمسة عقود من الحكم.. ما أبرز التحولات؟


27/05/2019

في أعقاب خضوع منطقة المشرق العربي للاستعمار الأجنبي بعد الحرب العالمية الأولى وما رافق ذلك من تقرير لاتفاقيات ومعاهدات تقسيم للمنطقة، تصاعدت الحركات الوطنيّة الرافضة لواقع التجزئة والخضوع للإمبريالية الغربية، وفي سوريا تشكّلت حالة واسعة من مقاومة الحكم الفرنسي تُوجّت بانطلاق الثورة السوريّة عام 1925، وعلى الرغم من قضاء الفرنسيين على الثورة عسكرياً إلا أنّها أسست لنهوض العمل السياسي الوطني، وهو ما انعكس في تزايد عقد المؤتمرات وتأسيس الأحزاب والجمعيات الوطنية، وفي عام 1930 وضع أول دستور للجمهورية السوريّة التي تشكلت عام 1932.
النشأة الأولى
ضمن هذا السياق، بدأ صعود حركات قومية تؤكد على رفض التقسيمات القُطريّة التي كانت في طَوْر التشكّل آنذاك، وكان من أبرزها "عُصبة العمل القومي" التي تأسست عام 1933، وكان لها فروع في عدّة أقطار عربيّة مجاورة سعت لتحقيق استقلال ووحدة الدول العربية، وضمن هذا التنظيم في لواء الإسكندرون برز "زكي الأرسوزي"، المفكر القوميّ الذي عمل على دمج التراث الروحاني الصوفي والعلوي بالأفكار والنظريات القومية الرومانسية الحديثة ذات المنشأ الفلسفي الألماني بالأخصّ، في وقت شهدت صعوداً للقوميّات في أوروبا.

اقرأ أيضاً: الأحزاب الكردية: صراعات وأحلام تنتظر التغيرات الدولية
تبلور مفهوم البعث عند الأرسوزي كتعبير عن إرادة تحقيق انبعاث الأمّة العربية، وعودتها إلى التاريخ والفعل الحضاري، بحيث تترافق العودة وتتحقق من خلال إنجاز الوحدة للأمّة العربيّة ونشوء الوطن القوميّ الموحّد، وبعد ضمّ لواء الإسكندرون إلى تركيّا عام 1939، غادر الأرسوزي ومجموعة من رفاقه اللواء، واستقرّ في دمشق، وهناك بادروا لتأسيس حزب باسم "الحزب القومي العربي" عام 1940، قبل تغيير اسمه إلى "حزب البعث العربي" في العام ذاته.

غادر الأرسوزي لواء الإسكندرون بعد ضمّه لتركيا

في الوقت نفسه، كان ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، المدرسّيْن العائدَيْن من باريس، ينشران الأفكار القوميّة في أوساط الطلاب والشباب بدمشق، وفي عام 1941 أسسا حركة "الإحياء العربيّ"، والتي تحوّلت في العام ذاته إلى "الحزب العربي القومي"، وكانت هناك تأثيرات متبادلة بين المجموعتين وبدأت الحدود بينهما في التلاشي، ومع انسحاب الأرسوزي تدريجياً من العمل العام وتفرّغه للكتابة والتدريس اتجهت مجموعته للاندماج مع حزب عفلق والبيطار عام 1946، ليتشكّل حزب جديد باسم "حزب البعث العربي"، وفي عام 1947 عُقد المؤتمر الأول وأعلنت اللائحة التأسيسية للحزب، والتي نصّت على مبادئ أساسيّة عبّرت عن فكر الحزب وعقيدته، جاء في مقدمتها: وحدة الأمّة العربيّة وحريّتها.

من اليمين: ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار

الانطلاقة الكبرى
عام 1952 اندمج حزب البعث العربيّ مع حزب آخر هو "الحزب العربيّ الاشتراكيّ" بقيادة أكرم الحوراني، أحد قادة التيار القوميّ في فترة نهاية الانتداب وبداية عهد الاستقلال، وأدى الاندماج إلى إحداث تحوّلات كبيرة في بنية الحزب؛ فبعد أن كان أغلب عناصر حزب البعث من المعلمين والموظفين والطُلّاب، دخلت جماهير جديدة رفده بها حزب الحوراني الذي كانت قاعدته من الفلاحين والعُمّال، وبدأ الحزب بذلك ببناء قاعدة ريفيّة موسعّة له خارج المدن الرئيسيّة، وكان هذا الاندماج بمثابة الانطلاقة الفعليّة للحزب في المشهد السياسي السوري.

اقرأ أيضاً: الأحزاب العربية: خيبات الفرص الضائعة
وجاء اندماج الحزبين عام 1952 في ذروة المعارضة والنضال ضد حكم أديب الشيشكلي، الذي كان حاكماً دكتاتورياً عطّلَ الحياة الديمقراطيّة في البلاد، وتوّجت هذه المعارضة بمشاركة الحزب في الانقلاب على الشيشكلي عام 1954، وهو ما أعقبته عودة الديمقراطيّة وتحقيق الحزب حضوراً متصاعداً في الحياة السياسية.

أكرم الحوراني.. أحد قادة التيار القوميّ في فترة نهاية الانتداب وبداية عهد الاستقلال

اعتبر حزب البعث دول ما بعد الاستعمار مظهراً من مظاهر التجزئة التي ينبغي تجاوزها إلى دولة الوحدة العربيّة، ولم يعترف بالدول القائمة كمشروع نهائيّ، وبادر لتأسيس عدد من الفروع القُطريّة في الأقطار العربيّة لكل منها قيادة قطريّة، مع وجود قيادة قوميّة جامعة مركزها دمشق؛ فتأسس الحزب القُطريّ في لبنان عام 1949، وآخر في كل من الأردن والعراق عام 1951، وخلال الخمسينيات والستينيات تأسست فروع وخلايا تابعة للحزب في كل من؛ ليبيا، ومصر، والسودان، والكويت، والسعوديّة، واليمن، وتونس.
الوحدة طريق الانقسام
بعد الصعود الذي حققه الحزب في الانتخابات التشريعية عام 1954، قرر البرلمان السوري، بقيادة كتلة حزب البعث في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1957، المضيّ في جميع الخطوات اللازمة لتحقيق الوحدة مع الجمهورية المصرية، وكانت مجموعة من الضباط المنتسبين للحزب قد شكلت وفداً سريّاً في كانون الثاني (يناير) 1957 للذهاب إلى القاهرة لدعوة عبد الناصر لإقامة دولة الوحدة، وهو ما تم تحقيقه فعلاً في شباط (فبراير) من العام التالي، في عهد الرئيس شكري القوّتلي.

القوّتلي وعبد الناصر يوقعان اتفاق الوحدة

وانسجاماً مع توجّهات وسياسات عبد الناصر حلّ الحزب نفسه، ليفسح المجال أمام "الاتحاد القوميّ" إلى أن بدأ الخلاف مع عبد الناصر في التصاعد منذ عام 1960؛ على اعتبار أنّ حكمه يقوم على إخضاع القُطر السوريّ بشكل كامل للمصريّين.

عمل الأرسوزي على دمج التراث الروحاني بالأفكار والنظريات القومية الحديثة

على إثر ذلك وقع الانقلاب الانفصاليّ في 28 آذار (مارس) 1963 بقيادة "عبد الكريم النحلاويّ"، وهو انقلاب لم يكن للبعث أيّ علاقة مباشرة به، إلا أنّ قطاعاً معتبراً من البعثيين أقروه ضمنياً بالتصريح بأنّ عبد الناصر كان المسؤول الأول عن هذه النكسة؛ بسبب عدم الانفتاح على الشعب وبناء الوحدة على أساس التسلّط الفردي والبوليسيّ، وبدأت معظم الأصوات البعثيّة تدعو إلى قيام نظام الدولة الواحدة الاتحاديّة (الفدراليّة) وليس النموذج الاندماجي كما حصل في العام 1958.

 

 

زمن "اللجنة العسكريّة"
أدّت تجربة الوحدة مع مصر ثم الانفصال إلى تبلور آراء وتيارات متباينة داخل حزب البعث، فكان أكرم الحوراني ورفاقه الأكثر عداءً للنظام الناصريّ، ووقع الحوراني شخصياً على وثيقة الانفصال وتعاون مع الحكومة الانفصاليّة، في حين برز "تيار وحدويّ" تبنى الدعوة إلى الوحدة الفوريّة مع مصر، معتبراً أنّ الانفصال كان مؤامرة رجعيّة إقليميّة مدعومة من الاستعمار، وتبنّى تيار ثالث اتجاهاً وسطيّاً دعا إلى قيام وحدة مبنيّة على أُسس صحيحة.

نظر الحزب لدول ما بعد الاستعمار باعتبارها دول تجزئة وكيانات قُطريّة ينبغي تجاوزها

خلال تلك المرحلة المرتبكة تشكّلت المجموعة التي عُرفت بـ "اللجنة العسكريّة" وهي تنظيم سريّ تأسس بين مجموعة من ضباط القوات الجوية السورية البعثيين عام 1959 بينما كانوا في القاهرة، وفي مقدمتهم: سليم حاطوم، وحافظ الأسد، وصلاح جديد، وأمين الحافظ، ومحمد عُمران.
وبعد قيام حزب البعث في العراق بحركة "8 شباط/فبراير" عام 1963 ونجاحه في الوصول إلى الحكم بقيادة عبد السلام عارف، بادرت اللجنة العسكريّة للقيام بتحرّك مماثل في الثامن من آذار (مارس) من العام ذاته، وأقرت القيادة المدنيّة للحزب الانقلاب وباركته، وبذلك وصل حزب البعث إلى سدّة الحكم في سوريا، ليصبح أمين الحافظ رئيساً للجمهورية.

ميشيل عفلق (يسار) إلى جانب صلاح جديد.. في أعقاب "الثامن من آذار" ووصول البعث إلى الحكم

في العام نفسه، وعلى إثر قيام الضابط الناصريّ "جاسم علوان" بمحاولة انقلابيّة في 18 تموز (يوليو)، والتي جرى التصديّ لها، شرع البعث في إقصاء الجناح اليساري من بين صفوفه، وهو ما دفع باليساريين إلى المبادرة بالانشقاق وتأسيس حزب باسم "حزب البعث العربي الاشتراكيّ اليساريّ"، وما لبث الحزب أن غيّر اسمه إلى "حزب العمال الثوري العربي"؛ وذلك بسبب الاختلاف الأيديولوجي مع البعث بشكل عام ومع "العفلقيّة" (نسبة لميشيل عفلق) بالتحديد، والتي وصفها بالرجعيّة واعتبرها حالة من الحنين والدعوة للعودة إلى الماضي.

اقرأ أيضاً: الأحزاب الدينية الإسلاموية.. إلى متى؟
أبدى الحزب الجديد توجهاً أكبر نحو الاشتراكية، مع إعطاء مضمون اجتماعيّ اقتصاديّ جديد لمفهوم الوحدة العربيّة؛ بجعلها متقاطعة مع الثورة على الاستعمار والإقطاع والبرجوازية، وبذلك صاغ الحزب أيديولوجيا عُرفت بـ "الماركسيّة القوميّة"، تضمنت محاولة لتعريب الماركسيّة، وكان المفكّر "ياسين الحافظ" المنظّر الأهم لتلك المحاولة.

ياسين الحافظ.. المنظّر الأبرز لحزب العمال الثوري

وعلى إثر إبعاد تيار اليسار، تبقى داخل الحزب تياران: تيار الوسط ممثلاً في اللجنة العسكريّة، وتيار اليمين متمثلاً بالقيادة المدنيّة، وعلى رأسها ميشيل عفلق، ومنيف الرزاز، الأردنيّ الذي انتخب أميناً عاماً للحزب عام 1965، وبدأ الصراع يتصاعد بين التيارين، حتى قررت مجموعة من ضُبّاط اللجنة العسكريّة (صلاح جديد، وحافظ الأسد، وسليم حاطوم، ومصطفى طلاس) الانقلاب على أمين الحافظ، الذي كان متقارباً مع القيادة المدنية، فيما عرف بـ "حركة 23 شباط" عام 1966، وقاد الحركة الرائد سليم حاطوم في الميدان، فيما كان "صلاح جديد" مدبّرها من وراء الستار، وأصبح الرئيس الفعليّ للبلاد على إثرها، وإن كان قد تم تقديم "نور الدين الأتاسيّ" ليكون رئيساً مدنياً إلا أن سلطاته بقيت شكلية ومحدودة.
وعلى إثر التحوّل لجأ ميشيل عفلق وصلاح البيطار إلى لبنان، ومنيف الرزاز إلى الأردن، وبذلك انتهى وجود القيادة المدنية وأصبح التيار العسكريّ هو المسيطر على الحزب والحاكم للبلاد.

ميشيل عفلق (يمين) مع الرئيس العراقي أحمد حسن البكر.. حيث استقر في بغداد منذ العام 1975

الأسد في السلطة
سريعاً نشبت الخلافات داخل التيار الحاكم الجديد؛ فعلى إثر هزيمة حرب العام 1967 تبادل الضُبّاط الاتهامات، وألقى صلاح جديد بالمسؤولية على حافظ الأسد، وزير الدفاع آنذاك، وتصاعد الخلاف مع توجّه جديد لخوض حرب استنزاف طويلة الأمد مع "إسرائيل" في حين عارض الأسد ذلك بحجة عدم جاهزية الجيش.

اقرأ أيضاً: حزب الوسط المصري إذ يدور في فلك جماعات الإسلام السياسي
تطور الخلاف على إثر اندلاع أحداث أيلول (سبتمبر) 1970 في الأردن؛ حيث أمر صلاح جديد بإرسال قوات من سلاح المُدرعات السوري إلى شمال الأردن، فيما امتنع الأسد عن تقديم الغطاء الجوي للقوات الزاحفة، ما أدى إلى إلحاق خسائر جسيمة بها، وعلى إثر ذلك عُقد مؤتمر للحزب وصدر قرار بإقالة حافظ الأسد ومصطفى طلاس، ولكن الأسد رفض الخضوع للقرار.

أدّت تجربة الوحدة مع مصر ثم الانفصال إلى تبلور آراء وتيارات متباينة داخل حزب البعث

في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) قام الأسد بحركة عُرفت لاحقاً بـ "الحركة التصحيحية"، وجرى تعيين "أحمد حسن الخطيب" كرئيس شكليّ مؤقت للبلاد، وسُجن نور الدين الأتاسي وصلاح جديد (ظلا في السجن حتى وفاتيهما عامَيْ 1992 و1993) وفي عام 1971 تم إجراء استفتاء على رئاسة حافظ الأسد للبلاد، ليظل رئيساً حتى وفاته عام 2000.
إذا كان صلاح جديد قد تميّز بسياساته اليساريّة التي تجلت في إجراءات التأميم والإصلاح الزراعي والتمسّك بمفاهيم التقسيمات الطبقيّة للمجتمع السوري والمواجهة مع الإقطاعيّة والبرجوازية، فإنّ حافظ الأسد كان أقل اهتماماً بالبعد الأيديولوجي، وإن كان قد أبدى توجهاً واهتماماً بتعزيز التضامن العربيّ؛ فبادر في عام 1971 للانضمام إلى "ميثاق طرابلس" (1969)، والانخراط في مشروع "اتحاد الجمهوريات العربية"، وفي عام 1973 خاضت القوّات السورية حرب تشرين الأول (أكتوبر) إلى جانب مصر، والتي انتهت بتحرير مدينة "القنيطرة" على إثر توقيع اتفاق فض الاشتباك عام 1974.

اقرأ أيضاً: كيف حفّز حزب النور سلفيي الدول العربية على العمل الحزبي؟
وفي أعقاب إعلان السادات في تشرين الثاني (نوفمبر) 1977 أمام مجلس الشعب المصري استعداده للتوجه إلى "إسرائيل"، كانت سوريا من الدول المؤسسة لـ "جبهة الصمود والتحديّ"؛ وفي عام 1978، طرح الأسد مشروع الوحدة مع الجمهورية العراقية قبل أن يؤدي انقلاب صدام حسين على البكر عام 1979 إلى عرقلتها نهائياً.

اختار الأسد الانضمام لميثاق طرابلس ضمن توجهه لتعزيز التضامن والوحدة العربيّة

التحول البيروقراطيّ للحزب
عام 1972 أسس الحزب ائتلافاً حاكماً باسم "الجبهة الوطنية التقدمية"، ضمّت أحزاب: الشيوعي، والقومي السوري، بحيث كان مجلس الشعب يتشكل من عناصرها مجلس وزراء من بين سياسييها، فيما بقيت جماعة "الإخوان المسلمون" خارج إطار العملية السياسية الرسميّة، إلا أنّه بعد حرب 1973 جرى إقرار دستور جديد للبلاد، تم فيه حصر السلطات الثلاث في شخص الأسد، وترافق ذلك مع انحسار مظاهر التعددية السياسية والمعارضة، وانحصار السلطة في البعث الذي تحوّل إلى الحزب الوحيد الحاكم للبلاد، وتحوّلت القيادة الحزبيّة إلى طبقة بيروقراطيّة مسيطرة على أجهزة الدولة ومؤسساتها، وتحوّل الحزب إلى سُلّم للطامحين للوصول إلى مناصب الدولة، وأدى كُلّ ذلك إلى توسّع قاعدة الحزب وانضمام الآلاف له، واعتمد الحزب على تنظيمات الشبيبة والطلائع للتغلغل في المجتمع، كما تمدد في الريف، وخلال الأعوام الثلاثة الأولى فقط من حكم الأسد تضاعف عدد المنتسبين للبعث ليصل إلى نحو 200 ألف عام 1974.

 

 

في مطلع السبعينات بدأت تظهر داخل صفوف شباب الإخوان توجهّات لتبنّي خيار الصدام المباشر مع السلطة الحاكمة؛ فوصفت النظام الحاكم بـ "الكفر" ودعت لإعلان الجهاد ضده، وفي منتصف السبعينيات بدأت تنشط جماعة "الطليعة المقاتلة" بقيادة "مروان حديد" واتجهت للصِدام المسلّح مع الدولة، قبل أن يتم اعتقال حديد الذي قُتل عام 1976 في السجن، ليتولّى "عدنان عُقلة" قيادة التنظيم، وتصاعدت المواجهات بعد قتل العشرات من الطلاب في مدرسة المدفعيّة العسكريّة بحلب عام 1979، ليبدأ بذلك تمرد استمر مدة ثلاثة أعوام، عُرف باسم "تمرد الإخوان المسلمين"، تلقى الدعم من دول مجاورة كانت على خلاف مع النظام السوريّ الحاكم (كالعراق، والأردن، ومصر) وانتهى بعد شنّ حملة عسكريّة حاسمة على مدينة حماة، المعقل الأخير للتنظيم.

من اليمين: مروان حديد وعدنان عُقلة

صراعات على مستوى الإقليم
جاء وصول صدام حسين إلى الحكم في العراق بعد الانقلاب على أحمد حسن البكر عام 1979، في إطار مواجهة مع التيار البعثي العراقي الداعم لمشروع الوحدة مع سوريا، ومنذ تلك اللحظة بدأ العداء بين الرئيسين: حافظ وصدّام، وتحول إلى صراع بعثي-بعثي أسفر عن توتر العلاقات بين البلدين، وبعد اندلاع الحرب العراقية الإيرانيّة عام 1980، اختار الأسد التقارب مع طهران والوقوف في مواجهة الدولة العراقية وهو ما ظهر كمخالفة صريحة للتوجه القومي والوحدوي الذي يُعلنه البعث، واستمر ذلك الموقف حتى حرب الخليج الثانية (1990-1991)، حين شاركت سوريا ضمن قوات التحالف الدولي ضد العراق.

وصف حزب العمال "العفلقية" بالرجعيّة واعتبرها حالة من الحنين والدعوة للعودة إلى الماضي

وبعد اندلاع الحرب الأهليّة في لبنان عام 1975، قرر الأسد الدخول في الصراع عام 1976، وهو ما قُرئ كإرادة للتوسع والتمدد ضمن النطاق الإقليمي في إطار "سوريا الكبرى"، وآن ذاك دخلت سوريا في مواجهة مع فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وبعد خروج قوات المنظمة من لبنان عام 1982 قدمت دمشق الرعاية والدعم لانشقاق منظمة "فتح الانتفاضة" عام 1983.
كما دعمت المنظمات الفلسطينية الموالية لها (الصاعقة، وفتح الانتفاضة، والجبهة الشعبية - القيادة العامة) وحركة أمل، في المواجهة مع الفصائل الموالية لعرفات في "حرب المخيّمات" (1985-1988)، وبذلك كانت دمشق مسيطرة على عدد من المنظمات والفصائل الفلسطينية، وهو ما منحها ثقلاً في الملف الفلسطيني، إلا أنّه سرعان ما تراجع هذا الثقل بعد دخول منظمة التحرير في مفاوضات أوسلو وانحصار الشرعية الفلسطينية فيها وتشكيلها للسلطة الوطنيّة، في المقابل حاولت دمشق ايجاد أوراق جديدة عبر التقارب مع تنظيمات من خارج المنظمة كحماس والجهاد، رغم انتمائهما للتيار الإسلاميّ.

اقرأ أيضاً: حزب التحرير: الخلافة الإسلامية والأسطورة المهدوية
وبموازاة ذلك تراجع النفوذ السوري في لبنان بعد حادثة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، في 14 شباط (فبراير) 2005، واتهام السوريين بالوقوف وراءها، وما تبع ذلك من أحداث "ثورة الأرز" والتي اضطرت دمشق على إثرها لسحب القوات السورية من لبنان.

مقاتل من حركة "أمل" أثناء حرب المخيّمات

تحوّلات السياسات الداخلية
شهد الحزب تحوّلات هامّة على مستوى السياسات الداخليّة، فظهرت منذ التسعينيات مجموعة عرفت بـ "مجموعة نبيل سكر" داخل الحزب، تبنّت التوجه والدعوة للانفتاح الاقتصادي وتطبيق برامج الهيكلة الليبرالية للاقتصاد السوري، وفي المقابل ظهرت توجهات معارضة ومتمسكة بالقطاع العام وهو ما استمر إلى حد ما حتى نهاية عهد حافظ الأسد عام 2000.

تصاعد الخلاف بين الأسد وصلاح جديد بعد توجّه الأخير لخوض حرب استنزاف مع إسرائيل

وبعد وصول بشار الأسد إلى الحكم تسارعت وتيرة التحوّل نحو النيو ليبرالية، فمن جهة ظهرت بوادر للتحوّل على المستوى السياسي، فيما عُرف بـ "ربيع دمشق"، التجربة التي لم تدُم طويلاً، ومن جهة أخرى تسارعت وتيرة التحوّل الليبرالي على المستوى الاقتصادي فيما عُرف بنموذج "رأسمالية المحاسيب"؛ حيث لم يكن الانفتاح قائماً على أساس الحرية الاقتصادية والشفافيّة، بل على أساس من العلاقات الشخصية والقرابة، وبذلك ظهرت رؤوس أموال واستثمارات خاصّة بعدما كانت شركات القطاع العام هي اللاعب الوحيد في الاقتصاد السوري.
وقد جعلت هذه التحوّلات، في ظل تراجع نظام الرعاية الاجتماعية وتزايد مستويات البطالة وانغلاق الأفق السياسي، النظام الاقتصادي الاجتماعي مكشوفاً، وهو ما ظهر بالتحديد في البيئات التي كانت تضم في السابق القواعد الاجتماعيّة للحزب، والتي تزايدت فيها مستويات البطالة والفقر كما في درعا وحمص، وسرعان ما أسفرت هذه الأوضاع عن حركات احتجاجية في سياق ما عُرف بالربيع العربي 2011.

رامي مخلوف ابن خال الرئيس الأسد من أشهر الأمثلة على المستفيدين من التحوّلات الاقتصاديّة

ومع تصاعد الأحداث، وبسبب خصوصيّة الموقع الجيواستراتيجي لسوريا، لم يكن بالإمكان أن يبقى الحراك السوري محض صراع داخلي؛ حيث تحوّل إلى صراع دولي على الساحة السوريّة، ومع دخول الصراع عامه التاسع، وبالتزامن مع بدء جهود إعادة الإعمار وعودة اللاجئين، تتضافر الجهود الدوليّة لتشكيل لجنة لصياغة دستور جديد للدولة، وهو ما ينبئ عن الانتقال لمرحلة جديدة.

الصفحة الرئيسية