طيب تيزيني.. شاهد على "موت الإنسان" وسوريا الجريحة

طيب تيزيني.. شاهد على "موت الإنسان" وسوريا الجريحة


29/05/2019

"حمص في حياتي هي المبتدأ والمنتهى". ليست مجرد عبارة بلاغية، وردت عن المفكر السوري، طيب تيزيني، لكنها بمثابة لحظة اعتراف قصوى أمام الذات، بالمحبة والشغف والانتماء لمدينته الأولى، ورغبة ملحة للعودة إلى فضاء المكان والعالم الأول الذي خرج إليه، واختبر من خلاله وجوده وحياته. ففي استعادة حنينه المفقود، وعودته للرحم الأول، بكل ما عبر إليه من مخاضات، فيها شقاء وسعادة، خوف وطمأنينة، توجس وقلق وريبة، كانت تبددها الأحلام وصناعة الأمل، باستمرار، رغبة منه للاحتماء بهويته، والحفاظ على ذاكرته، ضد النسيان والفقد، والتحايل على الشعور بالقهر وقلة الحيلة.

سيرة البدايات وقلق المستقبل

كانت لحظة وفاة تيزيني، عن عمر ناهز 85 عاماً، بمدينته ومسقط رأسه، حمص، في سوريا، بعد صراع مع المرض، في 17 أيار (مايو) الجاري، خبراً يحمل في طياته حزناً مركباً، يتضاعف الشعور بوطأته على إثر ما تتعرض له المدن السورية، من نهب وتدمير، تقوم به قوى إقليمية ودولية، فضلاً عن رعاية النظام السوري لذلك، بشكل مباشر وغير مباشر، وضلوع أجهزته الأمنية في كل الممارسات العدوانية ضد الشعب، من تعذيب وحشي، وقصف البيوت والمدنيين، في أحياء ومدن بأكملها، بأسلحة ثقيلة ومتفجرات، طوال سنوات الحرب الثمانية.

اقرأ أيضاً: بين المعارضة والنظام: سوريات يدفعن الثمن مرتين

هذا الأمر تسبب بندوب عميقة في قلب المفكر الثمانيني، وظل جرحاً نازفاً لا يبرحه، خاصة، حين لم يتحمل الشتات السوري، ورؤية النازحين السوريين؛ شباب وفتيات، في شوارع بيروت، فكانت تنهمر دموعه وتحرق قلبه الملتاع، وقبلها حين تهاوى بين حشد من المتظاهرين أمام وزارة الداخلية السورية، في العام 2011، للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين، فكان نصيبه عدد من الضربات، الموجهة من رجال الأمن بعصاهم الغليظة، والتي لم يتحملها فاضطرته للمكوث بمنزله، وعدم العودة لمواجهة ذئاب "الأسد".

وخلال مشاركته في لقاء تشاوري في تموز (يوليو) العام 2011، حضره نائب الرئيس السوري، آنذاك، فاروق الشرع، ومعه نحو 200 شخص آخرين، طالب تيزيني بـ"تفكيك الدولة الأمنية"، واعتبره "شرطاً لا بديل عنه، فالدولة الأمنية تريد أن تفسد كل شيء".

سوريا الجريحة

في العديد من المقابلات المسجلة معه، كان لا يحتمل حديثاً عن سوريا، من دون أن تطفر الدموع من عينيه، بقلب يتهدج بألم وحسرة شديدتين، والتي كان من بينها حديثه عن أحد مجازر الأسد في حمص، حيث مات "1300 شاباً وبنتاً"، كما يذكر، بصوت مختنق تتلاشى فيه الكلمات.

وصف تيزيني صعود الأصولية الإسلامية بنسختها الأكثر دموية وقتامة ممثلة في تنظيم داعش بأنها: مرحلة موت الإنسان

يعنى صاحب "من التراث إلى الثورة" بفض المركزية الغربية، ونقد تلك الرؤية التي تضع حواجز وفواصل بين المجتمع العربي وثقافته، من ناحية، والغرب، من ناحية أخرى؛ حيث يرى أنّ الحضارة العربية والإسلامية، كانت تحمل خصائص تميزها ولها أصالتها وخصوصيتها، وبالتالي، كان مشروعه النقدي للتراث، هو الكشف عن تلك العناصر، لتحرير التراكمات السياسية والثقافية المنغلقة والشمولية، التي أدت إلى تأبيد صورة جامدة ومتداعية، فرضت هيمنتها على الحاضر، وتسببت في الإشكال الحضاري الذي يعطل من الاستمرارية، وعدم المقدرة على مواجهة التحديات المعاصرة.

لذا، تبنى المنهج المادي الجدلي في كتاباته، والذي حاول من خلاله قراءة الفكر العربي، عبر فهم الشروط الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزته، والإطار السياسي الذي تكون في حواضنه؛ حيث اعتبر أنّ الفكر ليس هو الأزمة، إنما ينبغي قراءته في سياق تاريخيته، كما أنّ الإشكالية ليست جوهرية في العقل العربي الجامد، لكن في أنساقه التاريخية الذي يمر عبرها، وهو ما يحكم عملية النهضة، ومشروعها، بوجه عام.

غلاف كتاب "من التراث إلى الثورة" للمفكر طيب تيزيني

نقد المركزية الغربية

تيزيني أكد أنّ الفكر العربي، بأنساقه المستنيرة، مدعو إلى خوض اختبار عميق ومركب ومعقد، يتمثل في اكتشاف الطريقة الحقيقية للمزاوجة بين الواقع العربي المشخص، وأكثر المناهج المعاصرة نجاعة، في بعديها المعرفي والأيديولوجي، بعيداً عن هوس الإنجاز المتسرع واللاهث، وراء نتائج قطعية وتامة؛ حيث يرى أنّ مثل هذا الطموح، لا يستطيع في كل الأحوال، أن يتجاوز اللحظة الجوهرية في منهج التجاوز والتخطي، ذاك المنهج المادي الجدلي التاريخي.

اقرأ أيضاً: سلامة موسى.. مفكر أعزل أبحر عكس التيار

وفيما يتصل بالمركزية الأوروبية، فإنه ينبذ تلك الرؤية، ويعتبرها غير تاريخية؛ حيث يرى في ممثلي هذه النظرية أنهم يلتقون في نقطة أساسية؛ وهي أنّ التاريخ الإنساني الفكري، والحضاري عموماً، هو تاريخ للفكر الأوروبي، بدءاً بالعهد اليوناني القديم، ومروراً بعصر النهضة والتنوير، ومنتهياً بالعصر الحديث والمعاصر.

يرى درويش أنّ المجتمعات العربية في معظمها لم تعد تعيش أسلوب مجتمعي سلمي فيما بين أفرادها

لفت تيزيني إلى خطر تغول الدولة الأمنية في سوريا؛ إذ ظل يردد منذ بداياته أن "قدر سوريا والسوريين هو التعددية"، وذلك منذ شهد الانقلابات العسكرية في دمشق، في مطلع الخمسينات، والذي صادف مرحله انتقاله من حمص إلى دمشق، للالتحاق بالجامعة حيث درس الفلسفة في كلية الآداب. يقول عن تلك المرحلة: "تفاقمت وقتها الصراعات المحلية، وبدأت الدولة الأمنية بالتشكل منذ ذلك الحين، ولاحقاً عرفت ذلك، ولقد ساءني كثيراً أنني عشت هذه المرحلة الباكرة، فوضعت تعريفاً للدولة الأمنية: بأنها الدولة التي تسعى إلى إفساد كل من لم يتم إفساده؛ بحيث يصبح الجميع ملوثاً ومداناً وتحت الطلب، لقد ضاقت منذ ذلك الحين حياتنا، وصرت أسمع بالقتل والتعذيب، وبدأت السجون في سورية تفتح أبوابها بشكل استفز الجميع، ليستمر هذا التيار، وأصبحت غير قادر على متابعة الحياة، فالسياسة غير ممكنة، والعمل الثقافي يحتاج بيئة أخرى أكثر صحة وانفتاحاً".

داعش.. مرحلة "موت الإنسان"

وثمة واقعة شهيرة جذبت انتباه تيزيني، إلى عمق ما تركه الاستبداد والدولة الأمنية القمعية، في قلب المجتمع السوري، حيث تنامت الأفكار الأصولية، التي حققت انتصارات على الأفكار التنويرية، فضلاً عن شيوع حالة مذهبية متشنجة، ضد كل ما هو مختلف، ما جعله يحذر من احتمال "انفجار طائفي"، بحسب تعبيره، وذلك حين تقرر، في العام 1997، عمل مناظرة بين الشيخ سعيد رمضان البوطي، وأستاذ الفلسفة، وقتذاك، طيب تيزيني، بيد أنّ الحدث تم إلغاؤه، لأنّ آلافاً من مريدي الشيخ البوطي احتشدوا في باحة الجامعة، وتجمعوا في أروقتها، ومنعوه من الدخول.

 

 

وصف تيزيني صعود الأصولية الإسلامية، في نسختها الأكثر دموية وقتامة، ممثلة في "داعش"، بأنها "مرحلة موت الإنسان"، أي مرحلة العولمة التقنية، فاعتبر أنّ داعش وليدة الثورة التقنية والعولمة، وفي الوقت نفسه، هي عدوة للغرب الذي أنتج العولمة التقنية؛ فالعولمة هي الشيطان الجديد الذي يبسط قبضته على العالم كله، وداعش تعتقد أنها مكلفة بالقضاء على هذا الشيطان، وفي المحصلة، فإننا نعيش اليوم في ظل المرحلة التي أوصلنا الغرب إليها.

اقرأ أيضاً: هل يمكن هزيمة العولمة؟!

يرى الدكتور حسام الدين درويش، المحاضر وأستاذ الفلسفة، في قسم الدراسات الشرقية بكلية الفلسفة، في جامعة كولونيا بألمانيا، أنّ رحيل طيب تيزيني، جاء ليعكس ردود فعل متفاوتة ومتناقضة، لدى السوريين، بصفة خاصة، بين محاولة شيطنته أو وضعه في صورة ملائكية، وذلك على خلفية مواقفه السياسية، وإهدار أي مقاربة نقدية حول أفكاره، ومشروعه المعرفي الكبير، والذي يتضمن إبراز كل الجوانب، خاصة، وأنّ المسائل المنهجية كانت حاضرة في تناول تيزيني، لأي مسألة أو فكرة.

أستاذ الفلسفة د. حسام درويش: كان تيزيني ضد فكرة القطيعة مع الأفكار ويؤمن بالاتصال والاستمرارية

ويقول درويش لـ "حفريات": "كان تيزيني ضد فكرة القطيعة مع الأفكار، ويؤمن بالاتصال والاستمرارية، بيد أنه كان يرى أنّ العالم العربي يعيش مرحلة، غير مسبوقة، في تاريخه، وذلك لأنّ دفاع الشعوب عن هويته لم يعد منوطاً بالدخول في حوارات وسجالات نظرية سلمية؛ لأنّ نمطاً آخر من السجال أخذ يفرض نفسه بين الأطراف المعنية، يتجسد في السلاح كما في القسر العنيف".

وهذا بدوره، يدل، كما يرى درويش، على أنّ المجتمعات العربية في معظمها، "لم تعد تعيش على أسلوب مجتمعي سلمي، فيما بين أفرادها وهيئاتها وتنظيماتها، وقد مثلت الأحداث المسلحة في سوريا، واليمن، وليبيا، والعراق، مثالاً حياً لهذا التحول في جدل الهوية".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية