كيف استهدف الإخوان تغيير العرف العام؟ ولماذا؟

كيف استهدف الإخوان تغيير العرف العام؟ ولماذا؟

كيف استهدف الإخوان تغيير العرف العام؟ ولماذا؟


14/01/2024

إنّ خروج جماعة الإخوان من دوائر الحكم التي وصلوا إليها في أعقاب ثورات "الربيع العربي" حدث غاية في الأهمية يقع ضمن مشروع مواجهة الماضوية والتطرف والإرهاب، لكنه لا يمثل نهاية المطاف ولا يعد هزيمة لهذا المشروع، فما يزال الطريق طويلاً لاجتثاث الأفكار المتشددة والظلامية التي بثها المتطرفون في الأمة عبر تسعة عقود مضت.

بعد 10 أعوام من إنشاء الجماعة أعلن البنا أنّ غايته ليست الوعظ والإرشاد بل تغيير العرف العام

كانت البداية بعد عشرة أعوام من نشأة جماعة الإخوان، وبعد عدة محاولات للتوغل داخل المجتمع المصري، أعلن حسن البنا، مؤسس الجماعة، أنّ غايته ليست الوعظ والإرشاد، لكن تغيير العرف العام وتكوين تنظيم قوي يتم تربيته على عينه، ففي المؤتمر الخامس للجماعة والمنعقد في شباط (فبراير) 1939 بسراي لطف الله فاجأ البنا الجميع بغايته الجديدة، وهي "تكوين جيل جديد من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح، يعمل على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية الكاملة في كل مظاهر حياتها"، مؤكداً أنّ "وسيلته في ذلك تنحصر في تغيير العرف العام وتربية أنصار الدعوة على هذه التعاليم".

أدرك حسن البنا أنّ طريقه للسيطرة على أي مجتمع وصبغه بصبغته التي زعم أنّها إسلامية، تأتي عبر وسيلتين؛ الأولى عامة والثانية خاصة، أما العامة: فتقوم على تغيير العرف العام أي تغيير ما تعارف عليه الناس وألفوه، وصاروا عليه في تصرفاتهم، سواء كان فعلاً أو قولاً واعتادوا عليه، ببساطة يريد البنا تغيير الوجدان الشعبي وفق هواه؛ لأنّ هذا الوجدان هو المعيار الفعلي في قبول فكرة ما أو رفضها، وهو الذي يقر أفعالاً بعينها أو يرفضها، وحاول تغيير العرف العام بتغيير منظور المجتمع لما يعتبره مقبولاً أو مرفوضاً سواء كان فعلاً أو فكراً.

اقرأ أيضاً: تحوّلات "الإخوان": معارضة بالكلاشنيكوف وإرهاب باللسان

وأما الوسيلة الخاصة فهي "التربية المقصودة" تلك التي تتم لعناصر جماعة الإخوان في لقاءاتهم بالأسرة (الخلية التنظيمية الأولية)، ومنها يتم صياغة الفرد الإخواني، وتقديمه على أنه النموذج الإسلامي الذي ينتظره المجتمع ليخلصه من مشاكله.

رسم البنا لجماعته الطريق لتحقيق غايته، فبدأ بنشر أفكار سلبية عن الأفراد وعن المجتمع ككل وعن المؤسسات وعن الحكومات وعن الدولة القطرية الحديثة في مجلة "النذير" التي أصدرها في أيار (مايو) 1938، فقدم شرحاً جديداً لـ"مفهوم شمولية الإسلام"، بشكل يخدم الدور الوظيفي الجديد المقدِم عليه، واتهم الجميع أنهم بعيدون عن الإسلام "وإنّ الجيل الحالي لا يستحق أن يطلق عليه مسلم"، و"إنّ هناك جيلاً جديداً ننتظره سيكون على يديه النصر"، وزعم أنّه قادر على تكوين هذا الجيل عبر تربيته لأتباعه من الجماعة.

أسس البنا تنظيماً مسلحاً يتم تربية أفراده على مبادئ الإخوان السرية والشفهية لإخراج "النموذج الإخواني"

ثم قام بتأسيس وتكوين تنظيم سري مسلح العام 1938 يتم تربية أفراده على مبادئ الإخوان السرية والشفهية لإخراج "النموذج الإخواني"، الذي تعمد أن يكون مبهراً ذا شكل إسلامي ظاهري ليعجب به الناس، ومن ثم يحاولون أن يقتربوا منه بتطبيق أفكاره، أو على الأقل لا يمانعوا أن يطبق أبناءهم ذات الأفكار، أو ينضموا للتنظيم الذي يصيغ أفراده بمثل هذه الأفكار.

ثم أطلق كل دُعاته لبثّ هذه الأفكار في المجتمع، والتبشير به على أمل تغيير أعراف الناس، ليقوموا بتحطيم نظامهم الاجتماعي بأيديهم، أو بأيدي الإخوان، وهذا التحطيم أفصح عنه في المؤتمر السادس الذي انعقد في 9 كانون الثاني (يناير) 1941 بأنّه يريد تحطيم النظام الاجتماعي القائم وأن يُستبدل به نظام اجتماعي خير منه لم يوضحه في حينه، واكتفى بأن وصفه "نظاماً إسلامياً"، وطبعاً بعد تحطيم النظام الاجتماعي وتغيير الأعراف العامة يسهل على التنظيم السري الإخواني السيطرة على مفاصل المجتمع.

رسم البنا لجماعته الطريق لتحقيق غايته فبدأ بنشر أفكار سلبية عن الأفراد والمجتمع ككل

في رسالة التعاليم حدد البنا 38 واجباً على عضو التنظيم أن يتصف بها، وإن لم يتصف بها فهو من القاعدين الكسالى، فقد ختم رسالته بتلك الجملة المحفزة لأتباعه والتي اعتبرها الإخوان ميزاناً يزنون بها أتباعهم والناس أيضاً، ومن داخل تنظيم الإخوان السري انتقلت كعدوى فكرية إلى كثير من مكونات المجتمع، وبتحليل هذه الواجبات يكمن السم في العسل، ففي غالب الواجبات التي تبدو إسلامية (وهي تمثل العسل) توجد واجبات تنظيمية تهدد العرف العام وتهدم النظام الاجتماعي (وهي السموم) التي دسّها الإخوان في المجتمعات، منها الواجب رقم (16) حيث يطلب البنا أن يقطع الناس صلتهم بالحكومات فيقول "ألا يحرصوا على الوظيفة الحكومية، وأن يعتبروها أضيق أبواب الرزق، مع عدم رفضها إذا أتيحت، والتخلي عنها إذا تعارضت تعارضاً تاماً مع واجبات العضوية في الجماعة (التي سيطلق عليها البنا مصطلح الدعوة).

اقرأ أيضاً: "الإخوان" يبدأون من الهامش.. ولكن!

خطورة هذا الواجب أنه يمنع أتباعه أو من يؤمن بأفكارهم، من التأثر بأي قيمة سلوكية أو فكرة تخرج من الدوائر الرسمية، وتمنعهم من الانتماء للدولة ومؤسساتها، بهذا الواجب يضمن البنا ولاء وانتماء أتباعه له ولجماعته وتنظيمه فقط.

كذلك الواجب رقم (21) الذي ينصح أتباعه فيه بعدم التعامل المالي مع المخالفين في العقيدة داخل الوطن الواحد، فيقول "أن تخدم الثروة الإسلامية العامة بتشجيع المصنوعات والمنشآت الاقتصادية الإسلامية، وأن تحرص على القرش فلا يقع في يد غير إسلامية مهما كانت الأحوال، ولا تلبس ولا تأكل إلا من صنع وطنك الإسلامي"، نلاحظ هننا أنه لم يقل وطنك المصري أو السوري أو المغربي، فالوطنية والقومية لا محل لها عند البنا أو أي إخواني، أو أي شخص يؤمن بهذا الواجب، والتطبيق العملي لهذا الواجب، تحويل الشخص لمشترٍ ومستهلك لمنتجات غير وطنية، ومقاطع لمنتجات مصرية تم تصنيعها في مصانع لمصريين مسيحيين مثلاً.

في غالب الواجبات التي روّجها الإخوان إسلامية توجد أخرى تنظيمية تهدد العرف العام والنظام الاجتماعي

لم ينس البنا تغليف الواجب بغلاف يبدو إسلامياً، في حين أنه مخالف لسيرة الرسول الكريم الذي باع واشترى واقترض من غير المسلمين بالمدينة المنورة، ولم يؤثر هذا في الدين الإسلامي، ولكنها طريقتهم لتغيير النظام الاجتماعي والعرف العام، والزج بكلمة إسلامي ليوهم أتباعه أنها فكرة إسلامية، ولو بالمخالفة لسنّة الرسول، صلى الله عليه وسلم.

اقرأ أيضاً: الإخوان المسلمون: صراع وانشقاقات وفساد بالمليارات ومخطط للتخريب

أيضا الواجب رقم (24) الذي يكشف رفضه للتحديث والانفتاح على الآخر، ويكشف رؤيته الماضوية الظلامية، تحت مزاعم إحياء العادات الإسلامية فيقول "أن تعمل ما استطعت على إحياء العادات الإسلامية، وإماتة العادات الأعجمية في كل مظاهر الحياة، ومن ذلك التحية واللغة والتاريخ والزي والأثاث، ومواعيد العمل والراحة، والطعام والشراب، والقدوم والانصراف، والحزن والسرور..إلخ، وأن تتحرى السنّة المطهرة في ذلك".

نلاحظ هنا أنّه يوهم أتباعه أنّ هناك زياً إسلامياً وآخر غير إسلامي، وأنّ هناك أثاثاً إسلامياً وآخر غير إسلامي، وأنّ هناك طعاماً وشراباً إسلامياً وآخر غير إسلامي، ولاحظ أيضاً أنّه لم يتحدث عن الأطعمة المحرمة شرعاً، والتي لن يختلف عليها أحد، لكنه تحدث عن عادات وتقاليد في اختيار أنواع الطعام وأنواع الأثاث، والتي لم يحدد ما طبيعة الأثاث الإسلامي والأثاث غير الإسلامي الذي يتحدث عنه، وحتى المشاعر (الفرح والحزن) التي أوهم متابعيه أنّ منها مشاعر إسلامية تختلف عن مشاعر غير إسلامية، لكنه قصد تغيير منظور أتباعه لأي تحديث بأنّه غير إسلامي، وأصبح العرف العام للإسلامويين يفضلون تناول الطعام على الأرض بدلاً من المائدة، والأكل بأيديهم بدلاً من الملاعق، وهكذا زرع ما يمكن أن يكون عائقاً نفسياً ووجدانياً ضد كل ما هو حديث باعتباره ضد الإسلام.

زرع ما يمكن أن يكون عائقاً نفسياً ووجدانياً ضد كل ما هو حديث باعتباره ضد الإسلام

وأيضا الواجب رقم (25) والذي يحرص على نزع عضو الإخوان من المجتمع، مع توليد مشاعر كراهية ضد أهم مؤسسة في الدولة الحديثة وهي القضاء، فيقول لهم: "عليكم أن تقاطعوا المحاكم الأهلية وكل قضاء غير إسلامي، والأندية والصحف والجماعات والمدارس والهيئات التي تناهض فكرتك الإسلامية مقاطعة تامة"، في هذا الواجب يكرس البنا رفض التقاضي ووصف أي محكمة مدنية بأنها محكمة غير إسلامية، ولم يكتفِ بهذا، بل حرص على نزع الفرد الإخواني ومن يؤمن بأفكاره من أي وسيلة يمكن أن تساهم في تكوين أفكاره وثقافته بعيداً عن التنظيم مثل الصحف والأندية الرياضية وغيرها والجماعات المختلفة سواء كانت ثقافية أو أدبية أو دينية، وكذلك المدارس بأنواعها، تحت الزعم أنها تناهض فكرته الإسلامية، ونلاحظ أنّه لم يقل التي تناهض الإسلام كدين، فالفكرة الإسلامية في أدبيات حسن البنا المقصود بها الجماعة ولكنه لا يصرح بذلك.

وأيضا في الواجب رقم (37) الذي يستمر فيه بفرض حصار على عضو الجماعة، ومن بعده المتأثرون بأفكار الإخوان إذ يقول لهم "عليكم أن تتخلوا عن صلتكم بأية هيئة أو جماعة لا يكون الاتصال بها في مصلحة فكرتكم وخاصة إذا أمرتم بذلك"، وهو ما يزيد من تسليم الفرد وعيه لصالح التنظيم والجماعة.

اقرأ أيضاً: خبراء ليبيون: الإخوان تسعى لإفشال السلطة الجديدة

وفي الواجب رقم (35) يحرّض البنا أتباعه ضد المجتمع فيقول لهم: "عليكم أن تحاربوا أماكن اللهو فضلاً عن أن تقربوها، وأن تبتعدوا عن مظاهر الترف والرخاوة جميعاً"، هنا يدخل البنا بأتباعه في اشتباك مع المجتمع مباشرة، فلم يقل ما المقصود بأماكن اللهو، وبالتالي أصبح من حق كل عضو أن يحارب أي مكان تحت الزعم أنّه مكان للهو، كما رسم شكل الفرد الإخواني الذي يتجهم في حياته بزعم أنّه جادّ، وأنّه يعمل للإسلام، وأن غيره رخو مترف، وبالتالي انتقلت هذه المظاهر للمجتمع.

الفكرة الإسلامية في أدبيات حسن البنا المقصود بها الجماعة ولكنه لا يصرح بذلك

هذه الأفكار مايزال بعضها يعمل في المجتمع وسط فئات لا تنتمي لتنظيم الإخوان، لكنها وقعت تحت تأثير الجماعة في تغيير العرف العام، نجدها في كوابح التفكير التي تعيق أي حوار جاد حول الكثير من قضايا الوطن المصيرية ولمواجهة هذه الأفكار، علينا إعداد مشروع نهضوي تنويري شامل للمنطقة العربية الإسلامية، يعتمد على الحرية والاختيار، واحترام نتائجها والحوار المجتمعي الفعال.

الصفحة الرئيسية