هل نجح ابن حزم في مواجهة ذكرى ُحُبّه الأول؟

هل نجح ابن حزم في مواجهة ذكرى ُحُبّه الأول؟


02/08/2021

لم يُفتن المستشرقون والباحثون والنقّاد بكتاب من كتب ابن حزم، كما فتنوا بكتابه الأشهر (طوق الحمامة في الألفة والألاف)؛ ففي خِضَم العديد من الاعترافات التي يتطوّع للإدلاء بها عبر سيرته المضمّنة في الطوق، ومع ضرورة التذكير بأهمية التفريق بين زمن حدوث الحكاية وزمن كتابتها من جهة وبين الذكرى / الحكاية والذاكرة / الزمن والمخيّلة / الكتابة من جهة ثانية، يستوقفنا اعترافه الخاص بتلك الجارية التي نشأت في داره وكانت بنت ستة عشر عاماً، لأكثر من سبب: فمبادرته للبوح الصريح والمباشر (وإني لأخبرك عني: أني ألفت في صباي ألفة المحب جارية نشأت في دارنا... الخ) تنطوي ضمناً على استشعاره العميق لميثاق لوجون في كتابة السيرة الذاتية، من حيث الالتزام بضمير المتكّلم فضلاً عن تأكيد خوضه في سيرته الذاتية.

 

لم يُفتن المستشرقون والباحثون والنقّاد بكتاب من كتب ابن حزم، كما فتنوا بكتابه الأشهر (طوق الحمامة في الألفة والألاف

 

   ومع أننا لسنا متأكدين مما إذا كانت صفة (الجارية) تعني (الجارية المملوكة) أو (الصبيّة) أو (الخادمة)، لكننا نميل إلى الاعتقاد بأنها ليست من جواريه أو جواري أمه أو أبيه. وهي على الأغلب جارية أو خادمة لإحدى نساء العائلة، بدليل قوله لاحقا (فأمرَتها سيّدتُها)، فضلاً عن تأكيده عدم انتقال الجارية بانتقال عائلته.

 ومع أننا لسنا متأكدين أيضاً مما إذا كان ابن حزم (384 هـ - 456 هـ) مجايلاً للجارية، إلا أننا نرجح أنه كان أصغر منها سنّاً، بدليل قوله إنه سعى إليها عامين دون أن يظفر منها بكلمة خاصة وبدليل قوله إنه كان يتنقل مع النساء من باب إلى باب حتى يكون قريباً منها؛ ولو كان مُجايلاً لها لَوُبِّخ ونُهِر.

اقرأ أيضاً: ما دلالات إفراد الجمحي طبقة خاصة بالشعراء اليهود في العصر الجاهلي؟

وأما قول ابن حزم (واعلم أنّ قيافة النساء فيمن يميل إليهن أنفذ من قيافة مدلج في الآثار) فهو تدخّل من جانب وعيه الّلاحق الذي ينتمي إلى زمن كتابة طوق الحمامة، أي في عام 418 هـ كما يرجّح أستاذنا العلاّمة إحسان عباس، وليس نتاج وعيه في زمن حدوث الحكاية. وكذا قوله (وإن الشيء يتضاعف حسنه في عين مُستحسنِه). ومن الضروري التنويه بأن ابن حزم قد عمد إلى تسوية حسابه مع غريمه / منافسه (العباس بن الأحنف) الذي تغنّت محبوبته بشعره في زمن الحكاية، من خلال المبادرة إلى نظم الشعر لاحقاً في زمن كتابة طوق الحمامة، وذلك من باب رد الاعتبار لوعي الطفولة الجريح.

اقرأ أيضاً: لماذا يحب المفكرون المشي كثيراً؟

  ومن الملاحظ أنّ ابن حزم قد لجأ لتوظيف الوصف أكثر من مرة للتعويض عن شعوره الممضّ بالحرمان وعدم امتلاك الجارية على النحو التالي :

- بعد أن يُجمل وصف الجارية بالقول (كانت غاية في حسن وجهها وعقلها وعفافها وطهارتها وخَفَرها ودماثتها) يستفيض في الوصف المزدوج المتضاد المسجوع كما يلي:   

عديمة الهزل / منيعة البذل

بديعة البِشر / مُسبلة الستر 

فقيدة الذام / قليلة الكلام

مغضوضة البصر / شديدة الحذر

نقية من العيوب / دائمة القطوب

حلوة الإعراض / مطبوعة الانقباض

مليحة الصدود / رزينة القعود  

كثيرة الوقار / مستلذّة النّفار

الخ الخ الخ....

ويعود مرة أخرى لوصف حنينه الممضّ لحبّه الطفولي فيقول: (فلقد أثارت وجداً دفيناً؛ وحرّكت ساكناً، وذكرتني عهداً قديماً، وحباً تليداً، ودهراً ماضياً، وزمناً عافياً، وشهوراً خوالي، وأخباراً بوالي، ودهوراً فواني، وأياماً قد ذهبت، وآثاراً قد دثرت، وجدّدت أحزاني، وهيّجت بلابلي)!

 

إنّ مخيّلة ابن حزم (الكتابة) تحتال على تمزّق الذاكرة بين الذكرى الحالمة والواقع المؤلم، عبر افتعال مقارنة بين قدرة النساء وقدرة الرجال على احتمال انقلاب الأحوال

 

- ويعود مرة ثالثة في سياق تباكيه على ذبول محبوبته إلى الوصف المحمّل على عدد من الاستعارات المتوالية (وذهبت نضارتها، وفنيت تلك البهجة، وغاض الماء الذي كان يُرى كالسيف الصقيل، والمرآة الهندية، وذبل ذلك النور الذي كان البصر يقصد نحوه متنوّراً، ويرتاد فيه متخيراً، وينصرف عنه متحيّراً الخ)، علماً بأنه عزا هذا الذبول إلى زوال النعمة وقلّة العناية بالذات، بدلاً من الاعتراف بأنها أصبحت في الأربعين من عمرها؛ فلم يعد يراها بعين الطفل العاشق بل بعين الرجل الناضج المجرّب الذي بلغ الرابعة والثلاثين.  ولا ينبغي أن يفوتنا توظيف ابن حزم لعبارتين لافتتين هما :

- لكأن المِضراب يقع على قلبي! 

- ثم ضرب الدهر ضرباته!  

لأنهما رغم تباعدهما في الحكاية، تُحيلان إلى معنى ودلالة  الإيلام الشديد (المِضراب - ضَرَب - ضَرَباته)! ومع أنه المتكلم الوحيد في هذه الحكاية فيما أن محبوبته الغابرة هي الصامت الدائم، إلا أنها بدت لنا في النص أكثر بلاغة، ما يؤكّد أنّ الصمت أبلغ من الكلام في بعض الأحيان. وإذا نظرنا بعين الاعتبار الشديد إلى كل  الملاحظات البلاغية السابقة، فإن الاستعارة الكبرى التي راكمها مُجمل الإجراءات البلاغية تتمثل في (الحب الأول الضائع) أو (الحب المحروم) أو (الحب المفجوع) أو (الحب المستحيل).

اقرأ أيضاً: هل تجتمع الخلاعة والتقوى في شخص المبدع؟

 إنّ مخيّلة ابن حزم (الكتابة) تحتال على تمزّق الذاكرة بين الذكرى الحالمة والواقع المؤلم، عبر افتعال مقارنة بين قدرة النساء وقدرة الرجال على احتمال انقلاب الأحوال، وتحسم هذه المقارنة لصالح الرجال على نحو تعميمي لا يخلو من المغالطة والتعسّف. كما كثّفت ذاكرته (قصة روائية) امتدت بين 15 - 20 عاماً في حكاية واحدة تقع في بضع صفحات. فلو أنه تمكّن من محادثة الجارية التي لم يُسمّها؛ لأنها تخص بعض الأقارب أو من قبيل الأسطرة، هل كان سيظل مكتظاً بذكراها؟ وبعبارة أخرى؛ هل الحرمان هو موقد الحب والحنين، حتى بعد أن ينقشع سحر الطفولة ويحل محله وعي الثلاثين؟!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية