يا خالد الترك جدّد خالد العرب

يا خالد الترك جدّد خالد العرب


17/01/2022

انخرطت الحركة الوطنية المصرية في معركة الدستور، عبر أكثر من عقد من الزمان، في الفترة من 1924 وحتى العام 1935، استفرغت تلك المعارك طاقات كلّ المخلصين من أبناء الوطن، الذين عوّلوا على أهمية انتزاع الدستور لتهيئة الظروف لنهوض الدولة الوطنية المستقلة، لكنّ الإخوان كانت لهم معركتهم الخاصة التي لم تكن في المطالبة بعودة الدستور أو تقوية ظهر الحركة الوطنية او تبنّي مطالبها، بل كان انزعاج الإخوان الكبير مرتبطاً بحدث آخر لم يكن له أيّ تأثير على استقلال مصر أو بناء دولتها الحديثة، ألا وهو انزعاج الإخوان ولوعتهم على سقوط الخلافة العثمانية، هذا الشكل المتخلّف من الحكم الذي ألقى بظلاله الكثيفة على كلّ الأقطار العربية التي حكمها الأتراك، فلم يحكم الأتراك قطراً عربياً إلا وحرصوا على حجب كلّ أنوار التقدم عنه، وفرض العبودية باسم الدين وباسم نصرة الخليفة والخلافة.

اقرأ أيضاً: العثمانية الجديدة تتوسّع في أفريقيا

يقول مؤرّخ الإخوان، في الكتاب الذي أعدته لجنة من منسوبي الجماعة، وحمل عنوان "أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين" بتوقيع عضو مكتب الإرشاد جمعة أمين عبدالعزيز، المعروف في أوساط الإخوان بـ"حارس الأصول العشرين": "مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، أعلنت تركيا (دولة الخلافة) الحرب على بريطانيا، وأهاب الخليفة العثماني، السلطان محمد الخامس، بالمسلمين أن يهبّوا لقتال أعداء دولة الخلافة الذين اعتدوا عليها، والجدير بالذكر أنّ طاعة الخليفة واجبة على المسلمين طالما أنّها في معروف"، ونحن نسأل بدورنا؛ هل كان من المعروف الانضمام إلى الألمان وتقوية ساعد النازية وتحويل الأقطار الإسلامية إلى ظهير لهتلر ومشروعه بعد أن تصوّر الإخوان أنّ الرهان على الألمان سيكون هو الرهان الصحيح في حرب قال عنها شيخ الأزهر آنذاك إنّها حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل؟

كان الإخوان أول من جرّموا العاطفة الوطنية التي استبدلوها بالعاطفة الدينية، وأول من حرّموا الدفاع عن الوطن والقسم على حمايته والشهادة من أجله كما تفضحهم نصوصهم

لم تنجح الخلافة العثمانية حتى في الحفاظ على تركيا كدولة، وسيطرت اليونان على العديد من ممتلكاتها حتى كادت تصل إلى العاصمة الأستانة، ولم يتصدَّ لهم سوى الجيش التركي، بقيادة الضابط التركي مصطفى كمال أتاتورك، الذي امتدحه أمير الشعراء أحمد شوقي قائلاً:

الله أكبر كم في الفتح من عجبِ                          يا خالد الترك جدّد خالد العربِ

يقول مؤرّخهم: "وتتابعت انتصارات أتاتورك حتى أجلى الاحتلال عن بلاده، وكان الناس إذا قارنوا كفاح مصطفى كامل المظفر باستسلام الخليفة القابع في الأستانة مستكيناً لما يجري عليه من ذلك، كبر الأول في نظرهم بمقدار ما يهوى الثاني، وزاد في سخطهم على الخليفة ما تناقلته الصحف من إهدار دم مصطفى كمال واعتباره عاصياً متمرداً، ولم يكن مصطفى كمال في نظرهم إلا بطلاً مكافحاً يغامر بنفسه لاستعادة مجد الخلافة، الذي خيّل إليهم أنّ الخليفة يمرّغه في التراب تحت أقدام الجيوش المحتلة "كانت هذه هي الحقيقة التاريخية، فلم يكن أتاتورك سوى بطل قومي سمّي أبو الأتراك، وهو الذي أسس دولة حديثة تقدّمت تحت لواء العلمانية، بعد أن أنهى تلك الصيغة المتخلفة المنافية للعصر، ورغم كلّ الجهد الذي بذل عبر كتابات متواترة لكتّاب الإخوان ومن لفّ لفيفهم لتشويه الرجل وسيرته، بل واتهامه بأنّه ليس مسلماً بل كان من يهود الدونمة، الذين تسموا بأسماء إسلامية وأخفوا هويتهم اليهودية لتخريب الخلافة والتآمر على المسلمين، بقي أتاتورك في وعي ووجدان الشعب التركي بطلاً حافظ على وجود الدولة التركية بعد أن كادت تنتهي تحت أقدام اليونانيين والإنجليز.  

اقرأ أيضاً: كيف عزز أردوغان أيديولوجية تركيا العثمانية الجديدة؟

لكنّ تباكي الإخوان على دولة الخلافة لم يتوقف عند أمير الشعراء، الذي عاد عن مدح أتاتورك ليذمّه على تضييع الخلافة في أبيات أخرى، تحليقاً مع مناخ عام كان يعتبر سقوط الخلافة سقوطاً للإسلام ودولته، ولم تكن الخلافة العثمانية أبداً تجسيداً أميناً لقيم الدين وفرائضه، ولم تشرق أنوارها قطّ على أيّ قطر احتلته، بل أبقت وراءها مظالم سيذكرها التاريخ بمداد أسود.

اقرأ أيضاً: من العثمانية إلى العلمانية ما الذي تغير في السياسة التركية؟

بدأ تاريخ الإخوان بعد التصرفات والأحداث السياسية التي جرت، باعتباره تأييداً لسعيهم ولمشروعهم في مناهضة سقوط الخلافة يقول مؤرخهم: "ولم تهدأ الأمة الإسلامية بل هبّت دعوات مخلصة من أجل إنقاذ الخلافة ودوامها، وتحرك العلماء الغيورون على الإسلام وعقدوا عدة اجتماعات، وانتهى الأمر باتفاق العلماء على ضرورة عقد مؤتمر إسلامي عام يحضره ممثلون عن الدول الإسلامية، ويكون مقره القاهرة وغرضه بحث مسألة الخلافة الإسلامية وما آل إليه الأمر، وحددوا آذار (مارس) 1925 ولم ينعقد المؤتمر إلا في أيار (مايو) 1926، وتعذر الوصول إلى اتفاق على من يكون الخليفة" حيث كان الصراع بين الملك فؤاد وشاه إيران وملك أفغانستان.

في نيسان (أبريل) عام 1925؛ أصدر العالم الأزهري الجليل على عبدالرازق كتابه الأشهر "الإسلام وأصول الحكم"، مؤكداً أنّ الإسلام لم يحدّد شكلاً محدداً للحكم، وأنّ الخلافة كانت مجرد إطار تاريخي للحكم قد يتغير ويتطور، وأنّه حتى دولة الخلافة الراشدة كانت ملكاً دنيوياً، ولم تكن خلافة دينية، وكانت تلك الصيحة الأزهرية من محراب الأزهر تعبيراً عن يقظة عقلية ورؤية تقدمية في المؤسسة تجاه أمر سياسي أرادت جماعة الإخوان أن تحوله إلى أمر ديني، في سياق مشروعها السياسي، وكان حرص الإخوان ومؤرّخوهم على ذلك واضحاً؛ حيث صوروا كلّ خلاف مع صيغة الخلافة باعتباره عدواناً على الدين وتعطيلاً لفريضة هي أهم وأقدس الفرائض، وأنّ العدوان عليها قد أتى عبر الأزهر وعبر أتاتورك معاً. "فكرة الخلافة الإسلامية تعرّضت لهجمتين شرستين، قاد إحداها العسكر بقيادة أتاتورك، والأخرى شيخ معمم منتسب للأزهر الشريف، لكنّه أبعد ما يكون عن علماء الأزهر الفقهيين".

اقرأ أيضاً: باحث يروي قصة تدمير الأرمن والمسيحيين في الدولة العثمانية

 بطبيعة الحال، العالم الأزهري الفقيه وحده هو من يؤمن بمشروع الجماعة، وهو من يقبل بامتطائه من قبل جماعة سياسية تريد تسخير الدين لتحقيق مصالحها، ويحرّض على جيش بلاده نصرة لجماعة إرهابية، كما فعل القرضاوي وأمثاله بعد سقوط الإخوان في مصر.

كانت الأجواء بعد إسقاط الخلافة العثمانية أجواء صعود للروح القومية ولتأسيس الدول الوطنية القوية الواعدة، ودعاوى أنّ الاستقلال عن الاستعمار شرقياً كان على يد تركيا أو غربياً على يد إنجلترا، لكنّ إرادة الإخوان أبت إلا أن تزيّن الاستعمار التركي العثماني للناس، بديلاً عن الاستقلال الوطني، تحت دعاوى نصرة الدين.

اقرأ أيضاً: أردوغان وثمن تطلعاته "العثمانية"!

يقول مؤرخهم: "وهنا، وفي هذا الجوّ الكئيب المليء بالشهوات والشبهات، يظهر دور الإمام البنا رحمه الله، في هذه الفترة، فكان مشاركاً في حملات العلماء والغيورين على الإسلام"، ولا أعرف ما وجه الغيرة أو الخطر على الإسلام كدين في ظلّ غياب سلطة العثمانيين هل اختفى الإسلام؟ وهل دخل الناس أفواجاً في دين آخر بزوال دولة العثمانيين؟

تصوّر الإخوان أنّ زوال دولة العثمانيين النكبة الكبرى التي أصابت المسلمين في مطلع القرن العشرين، ولم يبتهج الإخوان في مصر باستقلال بلادهم وتقدمها في مدارج الدول الوطنية الناشئة؛ فكيف نظروا إلى مصر ومستقبلها؟ يقول مؤرخهم: "وهكذا أصبحت مصر بعد سقوط الخلافة وطناً باهتاً اقتطع من أصله، بعد أن قطع الحلفاء المنتصرون بريطانيا وفرنسا وغيرهما أوصال الإمبراطورية العثمانية، … وشجّع المستعمرون النعرة الوطنية هادفين أن يحلّ الوطن محلّ الدين، وأن يكون الولاء للوطن لا الله وأن يقسم الناس بالوطن لا بالله، وأن يموتوا في سبيل الوطن لا في سبيل الله" أعد قراءة هذا النص بهدوء لتكتشف أنّ أفكار سيد قطب لم تكن جديدة، وأنّ الفكر الداعشي لم يكن نبتاً شيطانياً بلا جذور؛ فها هي الجذور جلية، نعم أول من كرّس التناقض بين الدين والوطن وجعل الرابطة التي تربط البشر هي الرابطة الدينية وليست رابطة الوطن كان جمال الدين الأفغاني، هذا في التأسيس للمفهوم، لكن من الذي جعل الأمر ثقافة شائعة تبنتها تيارات وحركات؟ كان الإخوان المسلمون هم من فعل ذلك؛ لذلك يرى محمد عمارة أنّ تأسيس الإخوان كان بمثابة المنعطف الجديد، فيما أسماها مسيرة الإحياء والتجديد الإسلامي الذي بدأ بالأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا.

يرى المفكر الإسلامي محمد عمارة أنّ تأسيس الإخوان كان بمثابة المنعطف الجديد، فيما أسماها مسيرة الإحياء والتجديد الإسلامي الذي بدأ بالأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا

كانت الخلافة هي المعركة التي طغت على معركة الدستور التي كان الشعب المصري يخوضها بكل قواه، والتي كانت إيذاناً بولادة مشروع الإخوان التخريبي في قطع طريق الدولة الوطنية، وإشغال الشارع بالوهم بديلاً عن الحقائق، وتزيين الماضي بكلّ ما يحمله من تخلّف، بديلاً عن المستقبل بكل ما يحمله من أمل.

كان الإخوان أول من جرّموا العاطفة الوطنية التي استبدلوها بالعاطفة الدينية، وأول من حرّموا الدفاع عن الوطن والقسم على حمايته والشهادة من أجله كما تفضحهم نصوصهم؛ لذلك لم يكن غريبا أن يرى سيد قطب الوطن حفنة من تراب، أو يقبل عاكف أن يحكم مصر ماليزي، فالقوم لا يعرفون تلك العاطفة وتحتل مصر من وجدانهم زاوية باهتة، كما قالوا في أدبياتهم فهي وطن باهت مقابل الوطن المتألق دولة العثمانيين، التي هاجروا إليها تباعاً بعد سقوط حكمهم في مصر، ليمارسوا من على أراضيها الهجوم على كلّ ما هو مصري وعربي. 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية