ما تأثير الإسلام السياسي على المجتمع الجزائري؟

ما تأثير الإسلام السياسي على المجتمع الجزائري؟

ما تأثير الإسلام السياسي على المجتمع الجزائري؟


كاتب ومترجم جزائري
27/03/2024

ترجمة: مدني قصري


لا تزال تدور في ذهن الرأي العام الغربي "السنوات المظلمة"، التي وُلِدت بفعل إلغاء الانتخابات التي جاءت بالإسلام السياسي إلى السلطة. والسؤال الكبير هو دائماً حول تأثير الإسلام في المجتمع الجزائري. للإجابة على ذلك، يعود الرئيس السابق للمسجد الكبير في باريس غالب بن شيخ (1) إلى قصة هذا التأثير، بدءاً من الحركة الإصلاحية الإسلاموية نهاية القرن التاسع عشر وحتى أيامنا؛ حيث في جمهورية الجزائر الحديثة يتم الرجوع طواعية إلى إسلام قرطبة، الذي تُدان فيه التوجهات المتطرفة.

اقرأ أيضاً: قراءة في المخارج والسيناريوهات المحتملة بعد إلغاء الانتخابات في الجزائر
يقول غالب بن شيخ: فيما يتعلق بالجزائر، يُشكل احترام حرية الضمير وأحياناً الحرية الدينية، مشكلة حقيقية. لستُ متأكداً من أنني أفضلُ مؤهَّل للحديث عن تأثير الإسلام على المجتمع الجزائري المعاصر. سيكون حديثي ملخصاً موجزاً للوجود الإسلامي في الجزائر، دون أن ننسى خلفية البربر، ناهيك عن الوجود المسيحي قبل الاستقلال؛ لأن هناك كنيسة جزائرية حقيقية، حتى لو لم تكن متأصلة في الجزائر. كل من يذكر "الخلفية البربرية" يشير إلى جميع الطبقات، النوميديين، والرومان، والقرطاجيين، وما إلى ذلك، إلى موجات متعاقبة من الفاتحين العرب المسلمين...
يرى غالب بن الشيخ أن حرية الضمير مشكلة حقيقية

اللون الحنفي
ويتابع بن شيخ: دعنا الآن نصل إلى الوجود العثماني. إنّه يهمّنا لأن الوجود العثماني أعطى لوناً حنفياً للإسلام الذي عاش في الجزائر. يجب أن أذكر أنّ هناك في المذهب السنّي أربع مدارس فقهية كبيرة، بما في ذلك الحنفية. في شمال إفريقيا والأندلس، اختفت هذه المدرسة، لكن اليوم لا تزال هناك آثار منها في المدرسة المالكية، والتي أعطاها الوجود العثماني، على مدى أكثر من أربعة قرون، هذا اللون الحنفي. نأتي بعد ذلك إلى العصر المعاصر مع الوجود فرنسي، أنا لا أقول "العصر الاستعماري" لأنني اعتقدت دائماً أنّ الاستعمار هو رِجس مطلق. لا يعني أنّ هناك مساهمات إيجابية، وأنّنا كسبنا قوانين أو بنية تحتية أو أشياء أخرى. إنّها الفكرة ذاتها، مبدأ الاستعمار ذاته، التي يجب رفضها. فبعد هذا الوجود الفرنسي، تواجه الجزائر نفسها الآن.

اقرأ أيضاً: ماذا وراء إلغاء انتخابات الجزائر؟
هناك مرجعية دينية مرتبطة بالشعب الجزائري. إنّ ما يثير الفضول والحيرة هو أن نسمع الحديث عن أوروبيين ومسلمين، وعن فرنسيين ومسلمين. البعض يُعرّف في شكل سلالة قارية، أو بانتمائه إلى بلد، أو في شكل مواطَنة، والبعض الآخر يُعرّف بمرجعية دينية.
دور جمعية علماء المسلمين
للحديث عن الحركة القومية الجزائرية، من الضروري استحضار الإصلاحية الإسلامية لجمعية العلماء الجزائريين، برئاسة عبد الحميد بن باديس (2) (من مواليد 1889 - توفي في 16 نيسان 1940). في نهاية القرن التاسع عشر، حدث بعضُ العمل لإصلاح التراث الديني نفسه، في سياق فكر محمد عبده، الذي توفي عام 1905، وهو نفسه تلميذ للأفغاني، وهو أحد الشخصيات الرمزية، وليس الشخصية الوحيدة في النهضة، هذا المصطلح العربي الذي يعني في نفس الوقت، التجديد، والصحوة..، إلخ.
عبد الحميد بن باديس، مؤسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

السلفية ثمن الإصلاح
على الرغم من أنّ النهضة هي في الوقت نفسه تيار رومانسي، وفلسفي، وأدبي ولكن سياسي أيضاً بالمعنى الواسع للكلمة، فقد حدثت في داخل هذه الحركة فكرةُ إصلاح التقاليد الدينية التي عرفت "تصلباً حقيقياً" ثابتاً. هذا النوع من الإصلاح هو الذي مجّد ما ندفع ثمنه اليوم سلفية. كان من المفاجئ إذن أن تأتي فكرة العودة إلى المتدينين القدامى، وإلى ممارساتهم، وطرقهم في الحياة، إلخ. في بداية النهضة، ربما كانت هذه العودة أكثر ذكاءً من أولئك الذين أخذوها الآن حرفياً. مفهوم السلفية يعود إذن إلى ذلك الإصلاح.

اقرأ أيضاً: تصفية حسابات بين إسلاميي الجزائر
أعود إلى بن باديس، المرشد الروحي للكشافة المسلمة. هذه الحركة الإصلاحية هي مصدر هذا المفهوم من الثوابت الثابتة للهُوية الجزائرية، وهي العروبة والإسلام، و"الجزائرية" بالطبع، وهو المفهوم الذي أدّى إلى التمرد لاستعادة الاستقلال. لسوء الحظ والمفاجأة، في السنوات العشرين الأولى بعد الاستقلال، ولمدة عقد ونصف تحديداً، كان هناك نوع من خيانة المُثل العليا التي وقع من أجلها التمرد.

أحداث 5 أكتوبر 1988 دفعت الشاذلي بن جديد لتحرير سياسته من كل وجهة نظر وصدر دستور جديد كرس التعددية

كلمة "خيانة" لا شك أنّها قوية للغاية، ولكن الأمر على أي حال يتعلق بعدم توافق، وبعدم وفاء لهذه المثل العليا، تجاه الشعب بشكل عام، ولكن بشكل خاص تجاه القضايا السياسية. لقد تم تأسيس الحزب الواحد بشكل جذري، فيما كانت هناك في أعقاب استعادة الاستقلال، تعددية حقيقية مع وجود جمعية تأسيسية وطنية (برلمان). كل هذا اختفى لصالح رؤية بلشفية إلى حد ما، واشتراكية قليلاً على أي حال، وماركسانية (نسبة إلى الماركسية).
على مدار الخمسة عشر عاماً الأولى من الاستقلال، وعلى مدى ما يصل إلى عقدين من الزمن، تناول أشخاصٌ الخطاب الديني، دون معرفة لاهوتية منطقية حقيقية. هناك قول مأثور قديم معروف عن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم يفرض علينا أن نتحدث جيداً عن موتانا، "اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ"، لكن يؤسفني أن أتجاوز هذا، بِذكر اسمين: الشيخ سلطاني، والشيخ سحنون. لقد كانا جزءاً من حركة العلماء الجزائريين، ولكن دون أن تكون لديهما المعرفة والمهارات المطلوبة؛ اللاهوتية والإسلامية عموماً، عِلم الإسلام يتجاوز اللاهوت في السياق الإسلامي.
كانا وهما يراقبان المجتمع الجزائري، غاضبين لرؤية كل ما كانا ينظران إليه على أنّه نوع من التدهور في المجتمع، المجتمع الذي أصبح، حسب رأيهما، متساهلاً ومُغَوْرَبًا، إلخ. حتى أنّ أحدهما قال إنّه صُدِم عند مشاهدة عرض  لحركات رياضية جماعية لفتيات مشاركات في عرض عسكري، في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر)، على سبيل المثال، يوم إحياء ذكرى تمجيد قيم الثورة الجزائرية والاحتفال بها.

اقرأ أيضاً: القضاة الجزائريون يرفضون هذه الاتهامات
هذا مثال من بين أمثلة أخرى، وهو أمر لم يشكل مشكلة حقيقية للمجتمع كمجتمع، لكن الذين ذكرتهم، وآخرون، بدأوا يقولون إنّهم لم يحاربوا من أجل الاستقلال للوصول إلى مثل هذه الأوضاع. ففي نظرهم، كل هذا مرفوض ولا يجوز...
الرئيس شاذلي بن جديد

الشاذلي بن جديد يعلن التعددية
دعنا ننتقل مباشرة إلى جبهة الإنقاذ الإسلامية. يبدو لي أنّ التحليل الجيد أقرب إلى العلوم السياسية منه إلى علم الإسلام. لقد تحالف رجل وُلد عام 1931 (عباسي مدني) مع رجل آخر مولود عام  1956 (علي بلحاج). الأول؛ استراتيجي، والثاني؛ يملك موهبة الكلمات السهلة وما يشبه الاندفاعات الصوفية في بعض الأحيان. في تلك الأثناء جاءت أحداث 5 تشرين الأول (أكتوبر) 1988 التي دفعت الرئيس شاذلي بن جديد لتحرير سياسته من كل وجهة نظر، على خلفية أزمة وتراجع أسعار النفط. وهكذا صدر دستور جديد في 23 شباط (فبراير) 1989، كرس التعددية الفكرية والتعددية الحزبية.
عباسي مدني، رئيس جبهة الإنقاذ الإسلامية

إضفاء الشرعية على الجبهة الإسلامية للإنقاذ
نكاد نقول: كم من الوقت الضائع منذ عام 1962! من المثير للدهشة أنّه في شهر أيلول (سبتمبر) من نفس العام (1989)، تم إضفاء الشرعية على الجبهة الإسلامية للإنقاذ، كحزب، على الرغم من عدم دستوريتها؛ لأن الدستور ينص على أنه لا يمكن الاعتراف بالأحزاب القائمة على أساس إقليمي أو الأحزاب الطائفية في الجزائر الحديثة. وحدث انتخابان تعدديان: الأول، الانتخابات البلدية في حزيران (يونيو) 1990 - مع وجود موجة عارمة لصالح هذه الجبهة الإسلامية للإنقاذ، والانتخابات التشريعية في عام 1991، وهي أول انتخابات تشريعية حرة في حياة الجزائر الحديثة.

اقرأ أيضاً: توماسي سيريس: الاحتجاجات الجزائرية نجحت وأرسلت رسالة صارمة للعالم
ولكن بعد الانتخابات التشريعية، تم إيقاف العملية الانتخابية، ونتيجة لذلك، للأسف، كانت بداية "العقد الأسود" الشهير الذي دفع فيه الشعب الجزائري الثمن الباهظ، لكن معه أيضاً أصدقاء الجزائر أو المتعاونون أو الأجانب أو غير الجزائريين، حيث قتل 60 أجنبياً بينهم 20 فرنسياً.
مؤتمر روما
وعلى الفور عُقد مؤتمر روما، تلاه مؤتمر المصالحة الوطنية. بعد رئاسة اليمين زروال، توالت الفترات ووصلنا إلى ولاية عبد العزيز بوتفليقة الرابعة، وهو رجل، كان يمكنه، من وجهة نظري، أن يكون حكيماً على طريق مانديلا في العالم العربي، لكنه ضيع الفرصة عن طريق الانقلاب بالقوة ضد دستور 1996، وهو دستور حديث؛ لأنه يحدد فترات الرئاسة بفترتين. وكانت النتيجة أنّ الفترة الثالثة كانت عديمة الفائدة، والرابعة لم تقدم أيّ شيء. ولما جاءت الخامسة كانت الكارثة.
علي بلحاج

اسم الكرم واللطف والشرف
وآتي الآن لأجيب عن السؤال المطروح: ما هو تأثير الإسلام الحاسم على المجتمع الجزائري المعاصر؟ للأسف، نحن نشهد اليوم نوعاً من استيراد رؤية قديمة للإسلام، رؤية غير جزائرية بشكل صحيح؛ حيث إنّ الإسلام الجزائري يتم تقديمه على أنّه هادئ، طيب، تقليدي، ترحيبي، اسم الكرم، واللطف، والشرف ...

اقرأ أيضاً: الموت يغيّب مؤسس الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية.. أبرز محطات حياته
الإسلام دائماً ما يكون مُجمَّعاً ومتراكماً وموجوداً في التاريخ، وينتقل عبر الثقافات. يمكننا أن نقول إنّ التاريخ والثقافة، أو بالأحرى الثقافات الجزائرية هي التي شكلت فهماً معيناً للإسلام، حيث شكل الإسلام أيضاً هذا الشعب، وطبقاته المختلفة، لدرجة أنّ المجتمع الجزائري كان أيضاً "عنصرياً"، إن صح القول على مستوى الجنسين، ولكن من المفاجئ والمفارقة أنّه شهد تأنيثاً للفضاء العام، بفضل التعليم والوصول إلى التعليم العالي، وكذلك من خلال بعض المهن التي أصبحت أكثر تأنيثاً، على سبيل المثال، الطب أو التعليم العالي...
مدارس بن باديس الحرة
أعود إلى بن باديس. لقد ذكرت عن عمد أنّه توفي في 16 نيسان (إبريل) 1940.  و 16 نيسان هو يوم وطني للمعرفة والعلوم يحتفل به سنوياً. أشرت أيضاً إلى أنّه كان المرشد الروحي لكشافة المسلمين. الكشافة الإسلامية كانت مفتوحة للبنين والبنات. كان الأولاد يرتدون سراويل قصيرة وكانت الفتيات يرتدين التنانير. وإذا كان هناك أي وشاح، فقد كان حول الرقبة، وكان مزيناً بالألوان الوطنية الجزائرية، في ذلك الوقت.

اقرأ أيضاً: "إخوان" الجزائر يفشلون في ركوب الحراك الشعبي
وكانت هناك أيضاً معاهد بن باديس، التي كانت تسمى بالمدارس "الحرة". كانت هذه المدارس الحرة مختلطة عندما كانت المدرسة المجتمعية لا تزال تفصل الصبيان والبنات. المعلمات اللواتي كن يدرسن في هذه المدارس لم يكنّ محجبات، وهي حالة غير مقبولة لإسلاميي اليوم، وكنّ يرتدين نوعاً من "التاج" أو عصابة الرأس.

 

إسلام قرطبة لؤلؤة الكون
نقطة أخرى جديرة بالاهتمام وهي وصول محمد عيسى وزيراً للشؤون الدينية. رأيي أنّنا في الجزائر لم نكن بحاجة إلى وزارة الشؤون الدينية؛ لأن المجلس الإسلامي الأعلى وحده يكفي، إذا كان يتمتع بالحكم الذاتي والمستقل. والحال أنّه ليس كذلك، فهو تحت إشراف رئاسة الجمهورية. علاوة على ذلك، ما الجدوى من جعل المسائل الدينية جزءاً من برنامج حكومي؟ أنا شخصياً، لا أريد أن أعطي دروساً للحكومة الجزائرية، لكن إذا كان لا بد لنا من وزير، فمن الأفضل أن يكون لدينا وزير مثل محمد عيسى.

على مدار الـ 15 عاماً الأولى من الاستقلال تناول أشخاصٌ الخطاب الديني دون معرفة لاهوتية أو حتى إسلامية منطقية حقيقية

محمد عيسى كان يتحدث عن إسلام قرطبة. ما هو إسلام قرطبة؟ أخبرنا الراحل مالك شبل عن إسلام التنوير. باختصار، يمكننا إضافة جميع التصنيفات التي نريدها خلف كلمة "الإسلام" - باستثناء ربما تصنيف "معتدل" لأن هذا التصنيف يحمل دلالات كثيرة. لكن أتصور أنّ هذا ما أراد محمد عيسى إظهاره. كان إسلام قرطبة، كما تعلمنا، لؤلؤة الكون، بمخملها وأعمدة إنارتها، في الوقت الذي كانت فيه باريس لا تزال غارقة في الوحل. كان إسلام قرطبة كل ذلك، وكان فضاءً للنقاش والاجتماع. ظني أننا ضخّمنا كثيراً هذه النقطة. كان بإمكاننا التحدث عن سمرقند، أو بغداد، لكنني أعتقد أن محمد عيسى مُحقّ.
ولأوّل مرة، لدينا عضو في الحكومة يقول إنّ الوهابية ألحقت الكثير من الضرر بالجزائريين، وإنّ هناك أئمة غير مدربين ويتجرأون على الكلام في المساجد، وإنّ هناك خطاباً دينياً عاماً ضاراً، وخاصة مع تحرير القنوات الفضائية.
مُفتٍ يدعو للقتل
المثال الأخير الذي سأقدمه في هذا السياق هو قصة الكاتب كامل داود الذي قال وكتب أشياء لم ترض الكثير من الجزائريين. فإذا بٍمفتٍ مزهوّ يدعو لقتله. لكن العدالة الجزائرية أدانت هذا المفتي. ومع ذلك، فإنّ التناقضات موجودة دائماً على المستوى القضائي. لكن، هناك مناقشات جارية، وأعتقد أنّنا عدنا إلى مزيد من الذكاء.
هذه هي الصورة التي يجب تذكرها هنا، وهي صورة مجتمع يعيش علاقته مع التقاليد الدينية بطريقة متناقضة. هناك ما أسميته "تبليد العقول "، وأعتقد، في الوقت نفسه، أنّ هناك نقاشات وانفتاحاً".


المصدر: www.chretiensdelamediterranee


الهوامش:
(1) غالب بن الشيخ: ولد عام 1960 في مدينة جدة، بالمملكة العربية السعودية، وهو دكتور في العلوم والفيزياء، وهو الرئيس السابق للمسجد الكبير في باريس.
(2) بن باديس هو الإمام عبد الحميد بن باديس، من رجال الإصلاح في الوطن العربي، ورائد النهضة الإسلامية في الجزائر، ومؤسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية