حريق نوتردام: كيف تحول نقاش في العمارة إلى جدل سياسي؟

حريق نوتردام: كيف تحول نقاش في العمارة إلى جدل سياسي؟


16/06/2019

ترجمة: محمد الدخاخني


الاستعادة أم الاستحداث؟ منذ قام ذاك الحريق الرّهيب بتدمير كاتدرائيّة نوتردام في نيسان (أبريل) الماضي، انقسمت الأمّة الفرنسيّة بين من يرغبون في رؤية الكاتدرائيّة يجري إعادتها بتأنّ ودقّة إلى مجدها السابق، وأولئك الذين يفضّلون وجهة نظر الرئيس، إيمانويل ماكرون، الذي تعهّد "بإعادة بناء نوتردام حتّى تكون أجمل ممّا كانت عليه".

اقرأ أيضاً: العالم يتضامن مع فرنسا.. كيف احترقت "نوتردام"؟ .. فيديو وصور

أيضاً، أصرّ ماكرون، بأسلوبه القويّ والمُفرِط في الطموح عادةً، على أنّ الكاتدرائيّة ستعود إلى أفضل حالاتها "خلال خمسة أعوام". وكان قد صرّح في اليوم التالي للحريق قائلاً: "إنّنا شعب من البناة. ولدينا الكثير لنعيد بناءه".

كاتب وناشط ينتمي إلى يسار الوسط: إنّ أيّ شيء بخلاف التّرميم الكامل من شأنه أن يدمّر روح نوتردام

ولكن بدلاً من أن يكون مشروعاً مُوحِّداً، أصبح السّؤال الخِلافيّ المتمثّل في استعادة نوتردام استعارةً للمعركة بين رؤية ماكرون التّحديثيّة لفرنسا، "أمّة الشّركات النّاشئة"، وبين عدد كبير من المواطنين الفرنسيّين غير المقتنعين بهذا المنظور. وقد وقّع حوالي 1169 معماريّاً ومُتحفيّاً وجامعيّاً خطاباً مفتوحاً إلى ماكرون، نصحوه فيه بالانتظار والتّفكير في عمليّة إعادة البناء هذه. وجاء في الخطاب: "لنأخذ الوقت الكافي للقيام بتشخيص مناسب. ونستمع إلى الخبراء، ونطّلع على معارفهم، ثمّ، نعم، نحدّد مهلة طموحة لاستعادةٍ مثاليّة".

وتشير الاستطلاعات إلى أنّ أكثر من نصف السّكان يريدون عودة الكاتدرائيّة إلى ما كانت عليه. وفي الشّهر الماضي، أقرّ مجلس الشّيوخ الفرنسيّ مشروع قانون ينصّ على أنّه ينبغي استعادتها إلى مظهرها مباشرةً قبيل الحريق. ومع ذلك، وافق ماكرون على مسابقة دوليّة للتّصميمات المعماريّة المبتكرة.

وافق ماكرون على مسابقة دوليّة للتصميمات المعمارية المبتكرة

وفي وسط الخِلاف التّحديثيّ يأتي برج الكنيسة المتهدّم. وهو البرج الذي صمّمه وشيّده يوجين فيوليت-لو-دوك عام 1859 ويصل ارتفاعه إلى 93 متراً، وكان يُعَدّ تحفةً فنيّةً تنتمي إلى العصر القوطيّ الحديث. وعندما اشتعلت النّيران وتحطّمَ عبر السّقف، اختفى جزء من نوتردام إلى الأبد.

اقرأ أيضاً: هل حفّز حريق "نوتردام" من "كراهية الإسلام" عند اليمين الأوروبي المتطرف؟

وعندما أعلن ماكرون أنّ "لفتة معماريّة معاصرة" ستكون بديلاً مناسباً - بعد إعلان رئيس وزرائه، إدوارد فيليب، عن مسابقة التّصميمات المعماريّة -، ظهر هاشتاغ TouchePasANotreDame (لا تلمس نوتردام) على وسائل التّواصل الاجتماعيّ. ويقول رافائيل غلوكسمان، وهو كاتب وناشط ينتمي إلى يسار الوسط، إنّ أيّ شيء بخلاف التّرميم الكامل من شأنه أن "يدمّر روح نوتردام". وفي لحظة نادرة من الوحدة السّياسيّة بين مُختلف الأطياف، التقت وجهات نظر كلّ من الزّعيمة اليمينيّة المتطرّفة مارين لوبن والنّجم المُحافِظ فرانسوا كزافييه بيلامي.

لكن المقترحات المختلفة لشيء مختلف تماماً تسير على قدم وساق. فقد اقترح المعماريّ ألكساندر تشاسانغ وضْع قمّة مستدقّة مصنوعة من الكسرات الزّجاجيّة، وشارك ذلك عبر تويتر، قائلاً: "لا ينبغي لنا نسخ الماضي عن طريق المحاكاة". ومهما كان القرار، فإنّ الأعمال الّتي ستخضع لها نوتردام ستكون بمثابة ترميم لمعلَم أثريّ مُدرَج ضمن قائمة اليونسكو للتّراث العالميّ، وهو ما يجعلها عمليّة يجب أن تتفق مع قانون عام 1913 بشأن الآثار، وهو القانون الّذي يحدّ من الإضافات الجديدة لهذه الأبنية.

فتح حريق نوتردام نقاشاً أوسع حول حماية المواقع التّاريخيّة

ومن جانبه، لم يختر حفيد المعماريّ الأصليّ، فيوليت-لو دوك، جانباً، لكنّه لاحظ أنّ ما يجري هو "نقاش رائع بين القديم والجديد. ومن المؤسف أنّ فيوليت-لو دوك لم يعد بيننا للمشاركة فيه، فقد كان ليهتمّ للغاية بمثل هذا الأمر"!

العديد من المعالم الأثريّة في فرنسا بحاجة إلى أعمال التّرميم، وفتح حريق نوتردام نقاشاً أوسع حول حماية المواقع التّاريخيّة

لكنّه نقاشٌ يُظهِر، أيضاً، كيف يقوم نهج ماكرون المتحمّس بإزعاج الكثير من الفرنسيّين. كما هو الحال في السّياسة، ماكرون مهووس بالابتكار عندما يتعلّق الأمر بالعِمارة: إنّ أصغر رئيس لفرنسا لا يريد ببساطة إعادة بناء الكاتدرائيّة - وإنّما تحسينها. في السّياسة، يتمتّع ماكرون بسمعة مستحقّة في تحديده لأهداف جريئة (مثل تحرير قطاعات واسعة من الاقتصاد الفرنسيّ) وعدم القلق بشأن التّفاصيل، وهو ما يمكن أن يؤدّي في نهاية الأمر إلى احتجاجات تستمرّ عدّة أشهر، كتلك الّتي قامت بها مجموعات "السّترات الصُّفر". من هنا، يودّ ماكرون أن تُجسّد الكاتدرائيّة الجديدة فرنسا المُحدَّثَة الّتي يتطلّع إليها.

يمكن أن تكون عمليّة إعادة بناء الكاتدرائيّة، بالتّأنّي والحذر، فرصةً لمشروع يأتي مرّة واحدة في الجيل، عبر إعادة بناء الدّاخل والخارج باستخدام خبرات تقليديّة في النّجارة والعِمارة. أيضاً، العديد من المعالم الأثريّة في هذا البلد في حاجة ماسّة إلى أعمال التّرميم، وقد فتح حريق نوتردام نقاشاً أوسع حول حماية المواقع التّاريخيّة الفرنسيّة. ورؤية ماكرون الّتي تقضي بعمل مسابقات كبرى وتحديد مواعيد مستحيلة لإنجاز المخطّط تُبرِز ببساطة القدرات الإداريّة الضّعيفة وراء أدائه الاستعراضيّ.

اقرأ أيضاً: كاتدرائية نوتردام تحيي أول قداس بعد الحريق

لكنّني أعتقد أنّنا يجب أن نكون شاكرين لحسن حظٍّ ضئيل. فعلى الأقلّ، نجت نوتردام من عمليّة تلميع أرادتها العائلات والشّركات الّتي تبرعت بالمبالغ الأكبر من الأموال لنفسها: لن تكون هناك كاتدرائيّة نوتردام تابعة لشركة "لوريال". على الأقلّ، ليس الآن.


المصدر: الغارديان، بولين بوك

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية