الحروب السيبرانية المقبلة: وداعاً للسلاح التقليدي

الحروب

الحروب السيبرانية المقبلة: وداعاً للسلاح التقليدي


22/06/2019

تستهدف الحروب مكاسب سياسية وجغرافية واقتصادية، وأخرى استعمارية وإمبراطورية كما كان يحصل في الماضي، وكان هذا كله يستدعي كتلاً ضخمة ومرعبة من الآليات والطائرات والجنود، تنذر بالدمار والموت، إلى أن يحسم طرفٌ ما الحرب.

اقرأ أيضاً: أمريكا تستعد لـ"حرب سيبرانية"
التطور الذي يعد سمة عصرنا الحالي، خصوصاً منذ شيوع الإنترنت، ربما يكون أعفى البشر في العديد من الحالات من وجود حروبٍ بالشكل التقليدي المعروف، لكنه ومن ناحيةٍ أخرى، يقدم تجربةً جديدة على التاريخ والإنسان معاً، ربما تجعل من كل فردٍ جزءاً من حربٍ أكثر نعومة وخطراً على المستقبل، وفي الوقت ذاته أكثر صلابةً وشموليةً من حيث التدمير، إنها الحروب السيبرانية، الحاضرة يومياً، والغامضة في الآن ذاته، ومن الجدير بمكان، البحث عن معناها إن وجد، وعن أنماطها، وطبيعتها.
الحاسوب كسلاح
قبل الولوج إلى عالم الحروب السيبرانية (cyber wars)، فإنّ كلمة سايبر أو سيبراني، تفضي إلى معانٍ عدة، فهي تشير أولاً إلى شبكات الحاسوب حول العالم، وتشير كذلك "إلى شبكات الإنترنت وكل الأنشطة المتعلقة بها والتي يتم تنفيذها من خلالها" وفقاً لموقع "الأمن السيبراني" على شبكة الإنترنت. إضافة إلى أنّها تعني كل ما يتعلق بثقافة الحاسوب والإنترنت؛ أي المعلومات والبيانات التي تخزنها الحواسيب حول العالم، وكذلك تلك التي تستقبلها أو تنتجها.

تستهدف الحرب السيبرانية البنى التحتية للمعلوماتية، مثل قطاعات عسكرية وحكومية واقتصادية وتغيير البيئة الثقافية والفكرية للخصوم

وبصورةٍ عامة، فإنّ لتلك البيانات والمعلومات قوة عظيمة اليوم، يتمتع بها من يملكها ويتحكم بها، والأداة الأساسية لربط هذه البيانات وجمعها وإضفاء نوعٍ من التواصل بينها، هي شبكة الإنترنت.
ويمكن النظر إلى الموضوع بطريقةٍ بسيطة، فبدلاً عن أفراد المجتمعات، والتحكم بجزء من مصائرهم في الحروب التقليدية، أو مشاركتهم فيها، أو كونهم عرضة لنتائجها، فإنّ أنشطة هؤلاء الأفراد وأعمالهم بما يتمخض عنها من معلومات وبيانات، هي من تحدد مصائرهم دون مشاركة مباشرة منهم أحياناً، وذلك في حال أصبحت هذه البيانات مستهدفةً من قبل حرب سيبرانية تقودها دول أو جماعات. لكن هذا لا يعني مباشرةً المعلومات الشخصية للأفراد، مثلما يوجد في عالم برنامج "فيسبوك" مثلاً.

لا هدف معلن ولا زمان أو مكان يمكن للهجمات السيبرانية تدمير أي هدف تريده

المقصود أنّ هذه الحرب تستهدف بنى تحتية أساسية للدول، لكنها ليست البنى المادية بالفعل، بل "البنى التحتية للمعلوماتية، مثل قطاعات عسكرية وخدمية وحكومية واقتصادية وبنكية وغيرها" بحسب الموقع ذاته، الذي يضيف أنّ "هجمات الفضاء الإلكتروني غير محددة المجال، وغامضة الأهداف، كونها تتحرك عبر شبكات المعلومات والاتصالات المتعدية للحدود الدولية، إضافة إلى اعتمادها على أسلحة إلكترونية جديدة تلائم طبيعة السياق التكنولوجي لعصر المعلومات، حيث يتم توجيهها ضد المنشآت الحيوية، أو دسها عن طريق عملاء لأجهزة الاستخبارات" إذاً، تبدو هذه الحروب فعالةً جداً، بل ومدمرةً على مستوياتٍ عديدة، ربما تفوق مستويات الدول ذاتها، ذلك أنّ "تزايد ارتباط العالم بالفضاء الإلكتروني، اتسع معه خطر تعرض البنية التحتية الكونية للمعلومات لهجمات إلكترونية... خصوصاً مع تراجع دور الدولة في ظل العولمة وانسحابها من بعض القطاعات الإستراتيجية لمصلحة القطاع الخاص. وفي الوقت عينه، تصاعدت أدوار الشركات متعددة الجنسيات، خاصة العاملة في مجال التكنولوجيا" بحسب الموقع نفسه.

الإنترنت فتح حقلاً جديداً للمخاوف، فشركاتٌ عالمية كبرى اقتصادية أو تعمل في مجالات التقنية أخذت تخاف من سرقة تقنياتها

وبناء على هذا، تصبح (فيروسات) البرمجيات من أهم أدوات الحرب السيبرانية، ولعل أول عملية هجوم سيبراني شهيرة انتشرت سيرتها حول العالم كانت "تعود إلى العام 2010، عندما تم اكتشاف برمجيّة خبيثة نشرت على أجهزة كمبيوتر إيرانية، وذلك لإلحاق الضرر بأجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم في بعض المنشآت النووية الإيرانية، واعتقد خبراء في حينه أنها من صنع الولايات المتحدة الأمريكية" وفقاً لتقريرٍ على موقع "ANN" في 19 شباط (فبراير) 2015. ويقع هذا تحت نوع الصراع السيبراني ذي الطبيعة السياسية.
لكن الجانب غير المعلن عن هذا النوع من الحروب يشير إلى وجود تجارب سابقةٍ في الحرب السيبرانية، ويبين قوتها وأخطارها بصورةٍ أكبر، وهو ما يكشفه كتاب الصحفي الأمريكي فرد كابلان عن تاريخ هذه الحروب وتجاربها.

التسلل بصمت
قبل الهجمة على إيران، التي ظل الخبراء يرون أنها سياسية ومنظمة على مستوى الأمن القومي لأمريكا، يشير كابلان إلى أنّ أفكار الحرب السيبرانية بدأت في أمريكا منذ عام 1983، خلال عهد الرئيس رونالد ريغان، الذي رأى أنه من الممكن أن تتعرض بلاده إلى خطر مثل هذه الهجمات، فأفرز فكرةً مميزة وسابقةً لأوانها، أنتجت "وحدة السياسة القومية بشأن الاتصالات وأمن نظم المعلومات" التي تطورت خلال التسعينيات، واستخدمها الجيش في عمليات الاستشعار عن بعد، وظهرت الحاجة إليها وإلى تقنياتها خلال "الحرب على العراق في 2003" بحسب كتاب كابلان الصادرة ترجمته العام الحالي عن "عالم المعرفة" وحمل الكتاب عنوان "المنطقة المعتمة، التاريخ السري للحرب السيبرانية".

اقرأ أيضاً: ما وراء حرب أردوغان السيبرانية على أوروبا
ويقول كابلان في كتابه أيضاً "إنّ تجربة حرب العراق جعلت نوع المعارك يختلف لاحقاً، بل وربما أصبحت نتائج المعارك الميدانية تتغير وفقاً لما تنتجه الحرب السيبرانية من بيانات يتم تحليل حركتها، ودراستها بعد جمعها". إنّ الحرب السيبرانية تستهدف التجسس أحياناً، من خلال مراقبة اتصالاتٍ مختلفة وتعقبها واستخدام صور طائراتٍ دون طيار، وغرس فيروسات داخل حواسيب شخصية أو مؤسسية أو مركزية تَتتَبع جهات ما عدوة مثلاً، ويشير كابلان إلى أنّ مشروعاً ضخماً مثل "تريبيلانس" وما تمخض عنه من مشاريع أخرى، تطورت لتربط العالم كله بأساليب الدفاع والهجوم السيبرانية بفضل الإنترنت وحزم بياناته التي تشكل عصبه الأساسي.

تاريخ كبير وغامض للحرب السيبرانية في كتاب فرد كابلان

لم تكن تلك الحروب هجوميةً فقط، بل تتقصد متابعة نشاط الآخرين السيبراني ومحاولة منع اعتداءاتهم، الإنترنت فتح حقلاً جديداً للمخاوف في العالم فعلاً، فشركاتٌ عالمية كبرى، اقتصادية أو تعمل في مجالات التقنية، أخذت تخاف من السرقة المتطورة لتقنياتها وأسرارها وخطط عملها، وهو ما يذكر كابلان مثالاً واضحاً عليه في كتابه "حول تجهيز الصين لفريق متخصص من أجل الولوج إلى قواعد بيانات شركات أمريكية مثلاً".
تطور الإنترنت، كشف للكثير من المؤسسات الكبرى خاصةً كانت أم حكومية، أنه لم يعد ممكناً لها إخفاء أسرارها بطريقةٍ حقيقية، فهي على الأقل، يجب أن تكشف أوراقها وبياناتها لطرفٍ أمنيٍ تقنيٍ ما، حتى يتكفل بحمايتها من طرفٍ آخر يود تدميرها وتدمير بياناتها. فعلى الأقل، الكثير من الأشياء التي تحدث يومياً بغزارة يتم التحكم بها عن طريق الإنترنت.

اقرأ أيضاً: إذا كان الإنسان شريراً بطبعه فهل الحروب أمرٌ لا مفر منه؟
ويمكن ببساطةٍ تخيل أي خللٍ مدمر قد يحل بحركات التبادل التجاري، أو التحويلات المالية، أو حركة النقل الجوي والطائرات، أو سرقة تكنولوجياتٍ عسكرية. ويصل تأثير قوة الحرب السيبرانية إلى ما هو أبعد أيضاً، فربما يستهدف النسيج الاجتماعي لدولةٍ ما مثلاً.
وبالعودة إلى موقع "الأمن السيبراني" فإنّ ضرب مواقع التواصل الاجتماعي مثلاً وغيرها "بمعلوماتٍ أو أخبار أو أحداث مضللة" ربما يؤدي إلى نتائج وخيمة اجتماعياً وثقافياً وفقاً لأهداف من يشن تلك الهجمات. ويقع هذا النوع من الهجمات في إطار الهجمات الناعمة للتأثير في الأفكار. بينما تظل الهجمات الصامتة للتجسس أو سرقة معلومات أو تدمير قواعد بياناتٍ معينة في لحظة معينة هي الأخطر، والتي ربما تمارسها دول أو مجموعات.

اقرأ أيضاً: الحروب على الطريقة الترامبيّة
تصرف العديد من الدول، اليوم، المليارات على الأنشطة السيبرانية استعداداً لحروب المستقبل، حيث تبني إستراتيجيات حرب المعلومات، والتي يتم خوضها بهدف التشتيت، وإثارة الاضطرابات في عملية صناعة القرار لدى الخصوم، عبر اختراق أنظمتهم، واستخدام ونقل معلوماتهم. حتى لا تذهب الحروب لصالح من يملك القوة فقط، وإنما القادر على شل القوة، والتشويش على المعلومة. بل وربما تغيير البيئة الثقافية والفكرية للخصوم والتأثير بها قدر الممكن، لكنها تشبه باقي الحروب عبر التاريخ في النهاية، فلا قيمة للإنسان إن كان ضحيتها، ولا قيمة لكل ما يتعلق به من خصوصية وحرية وتفكير وحقه في حفظ بياناته دون اختراق.

الصفحة الرئيسية