محنة ابن حنبل.. مع "السَّلفيات الجهادية"

محنة ابن حنبل.. مع "السَّلفيات الجهادية"


26/06/2019

رشيد الخيون

تدعي الأغلبية مِن «السلفيات الجهادية»، مِن أمثال «القاعدة» و«داعش» وغيرهما، أنها تتبع مذهب الإمام أحمد بن حنبل (ت241ه)، كمذهب فقهي، فلا أحمد بن تيمية(ت 728ه) ولا تلميذه ابن قيم الجوزية (ت751ه) ولا محمد بن عبد الوهاب(ت1791) يشكلون مذهباً فقهياً، إنما كانوا فقهاء مِن طبقات المذهب الحنبلي.
فالمذهب في العبادات والمعاملات هو المذهب الحنبلي المعروف، أحد المذاهب الأربعة (الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي) لدى أهل السنَّة، فمثلما عرضنا سابقاً عن محنة الإمام أبي حنيفة مع «طالبان» التي تعمل بفقهه، ومحنة الإمام جعفر الصَّادق مع الميليشيات والجماعات المسلحة التي تدعي أنها «جعفرية»، فلأحمد بن حنبل محنته مع فصائل «السلفيات الجهادية»، وأخطرها «القاعدة»، التي تفرعت عنها، «داعش» و«النُّصرة» وغيرهما.
فمِن المعروف أن هذه الجماعات أسرفت في سَفك الدِّماء، وتفننت بأساليب قتل الأبرياء، لغرض بناء دولتها الإسلامية، مع الحرص على حصاد عدد أكبر مِن الضحايا، كلما حانت لها الفرصة، منه لغرض إعلامي، أي أن تبقى حيَّة في الأذهان، ومنه للسبي والنَّهب مِن أجل التَّمويل المالي.
ابتدعت أساليبَ من غير التَّفجيرات المرعبة، التي حصدت العشرات والمئات، استخدام السَّيارات للدخول في وسط الزُّحام، فيتساقط المارة تحت عجلاتها، ووصل الحال إلى تغييب الضَّمائر بغسل أدمغة الشَّباب أن يتقدم ابنٌ لقتل أبيه أو بالعكس، وأن الأخ يُكلف بتصوير لحظة تفجير أخيه الانتحاري. أما الثَّمن الذي يرجونه، مِن غير الفوز بالجنَّة، هو إقامة الخلافة الإسلامية، بإنعاش ما سموها بـ«الفريضة الغائبة» أي الجهاد، وتطبيق الشَّريعة بحذافيرها، مثلما حصل بالموصل والرَّقة وبمناطق من نيجيريا، حيث فرع «داعش» بوكوحرام.
مِن هنا نفهم مِحْنَة ابن حنبل، مع مَن يدعون أنهم على فقهه، بينما سيرة الرَّجل تؤكد أنه ليس أشد عليه مثل سفك الدِّماء، ولم يتطلع إلى سلطة عن طريق ثورة بزج الدِّين فيها، كيف وقد عاش ببغداد حرب الأمين والمأمون ابني الرشيد، يومها اختلت بغداد، بطغيان الغوغاء وشُذاذ الطُّرقات، ونهبت محلاتها وكثرت الجثث في سككها، حتى قال شاعرٍ معاصر: (فقوم أحرقوا بالنَّار قسراً/ ونائحةٌ تنوح على غريقِ/وقومٌ أخرجوا من ظلِ دنُيا/متاعهم يباع بكلِّ سوقِ). (الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك).
احتشدت مجاميع للثورة على الواثق بالله(ت232ه)، إثر تصاعد مسألة «خلق القرآن»، وكان ابن حنبل أحد المطلوبين بها، فجاءه كبار أهل الحديث و«شاوروه في ترك الرِّضا بإمرته وسلطانه (الواثق)... فقال: لا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين».(الفراء، طبقات الحَنابلة).
كانت الدِّماء، التي أسرفت بسفكها الجماعات «الجهادية»، شديدة على ابن حنبل، ذكر المُحدث أحمد بن محمد بن هارون الخلال(ت311ه): أن ابن حنبل سُئل «فِي أَمر كان حدثَ ببغدَادَ، وهمَّ قومٌ بالخُروجِ، فقلتُ: يا أَبا عَبد اللَّه، مَا تَقُولُ فِي الْخُرُوجِ مَعَ هَؤُلاءِ القَومِ، فَأَنكرَ ذَلِكَ عَلَيهِم، وجعَل يقولُ: سُبْحان اللَّه، الدِّماء، الدِّماء، لا أرى ذلكَ، وَلا آمرُ بهِ، الصَّبر علَى مَا نَحنُ فِيهِ خَيرٌ مِن الفتنَةِ يُسفَكُ فيها الدِّماءُ، وَيُستَبَاحُ فيهَا الأموَالُ، وَيُنتهَكُ فِيهَا المَحَارِمُ، أَمَا عَلِمتَ مَا كَانَ النَّاسُ فِيهِ يَعنِي أَيَّامَ الفِتنَةِ (حرب الأخوين)، قُلتُ: والنَّاسُ اليَومَ، ألَيْسَ هُم فِي فِتنَةٍ يَا أَبَا عَبدِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَ، فَإِنَّمَا هِيَ فِتنَةٌ خَاصَّةٌ، فَإِذَا وقعَ السَّيفُ عَمَّتِ الْفِتنَةُ، وَانقَطَعَتِ السُّبُلُ»(الخلال، كتاب السُّنَّة). ابن حنبل كان صاحب موقف فكري سَلفي، لسنا بصدد صوابه أو خطئه: كان يرفض أي فكرة أو رأي إذا لم تكن وردت في آية أو حديث، فقد قضى عمره يجمع الحديث.
يصب البعض غضبه على شخص ابن حنبل كونه سادن السلفية أو الأُصولية، لكن هذا الغضب، أو الموافقة معه بالكامل، لا معنى له عندما يُحتج إلى الزَّمن، ففي وقته كثرت الفرق الكلامية وحصل التصادم، على حِساب الدِّين، حسب رأيه، فاتخذ موقف الالتزام بالكتاب والسُّنَّة، لكنه لا يقرب الدِّماء مهما كانت، إلا أن التّكفير وعدم الاعتراف كان متبادلاً، لا يؤخذ على ابن حنبل دون غيره.
كان بعيداً عن الجاه والسلطان، فلم تستغله السلطة ضد خصومها، فمع انقلاب جعفر المتوكل(قُتل247ه) على المذاهب مِن غير أهل الحديث، وعلى أهل الكتاب بتطبيق «الشروط العُمرية» عليهم، إلا أن داره قد كُبست بوشاية أنه يحمي ثائراً علوياً يُبايعه النَّاس بالسِّر في داره (ابن كثير، البداية والنِّهاية)، ولما بعث إليه الخليفة بمال لم يقبضه إنما وزعه، كي لا يغضب الخليفة عليه وقد يهدر دمه، وكان واسطة المتوكل لابن حنبل الشَّاعر علي بن الجهم (قُتل 249ه)، الذي لعب دوراً ضد المعتزلة (ابن الجوزي، مناقب ابن حنبل).
لسنا بصدد سيرة ابن حنبل، إنما تركيزنا على جزئية موقفه مِن الدِّماء، مقابلةً بما فعله المدعون أنهم حنابلة مِن «الجماعات الجهادية»، مع أن ابن حنبل عاش في ظرف الفراغ مِن السُّلطة، وصار الجميع طامعاً بالحُكم، وبينهم الجماعة المطاوعة مِن أهل الحديث، لهذا يوصف موقفه بالحِلم أن يبعد أمر الدِّماء. يغلب على الظَّن أن كلَّ التشدد والتطرف الذي مارسته جماعات الحنابلة جاء بعد ابن حنبل، ولا صِلة لها به سوى الاسم، والحال ينطبق على بقية الأئمة الكبار.
عن "الاتحاد" الإماراتية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية