اختصموا سياسياً لكنهم اتفقوا على حرق الخبز السوري

سوريا

اختصموا سياسياً لكنهم اتفقوا على حرق الخبز السوري


03/07/2019

بعد سنوات من الجفاف والحرب، ترقبت المناطق السورية الزراعية حصاداً استثنائياً، بالأخص في شمال شرق البلاد الخاضع لسيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" التي تعد جزءاً من التحالف الدولي ضد داعش، وذلك بفعل هطول أمطار غزيرة في بداية العام، لكن المفاجئ أن نيراناً حمراء مُستعرة من كانت تحصد، عوضاً عن حصادات بلون القمح الذهبي.

اقرأ أيضاً: رسالة أوجلان... هل تصنع السلام بين أكراد سوريا وتركيا؟
حرائق بدت مجهولة في البداية، ولربما كان من الممكن أن يتم إرجاعها لظروف المناخ، لو أنّها بقيت محصورة ضمن الحد المنطقي، لكن استمرارها وتوسعها ومن ثم تبنّي تنظيم "داعش" الإرهابي، صراحة إشعال حرائق في حقول القمح، وذكر ذلك في العدد 183 من مجلة "النبأ" الصادرة عنه، أكد بما لا يدع مجالاً للشك أنّ معظمها مُفتعل، فيما أشارت ترجيحات أخرى إلى أسباب مختلفة لارتفاع ألسنة اللهب، كالأعمال الانتقامية من عناصر سابقين لتنظيم "داعش"، والخلافات السياسية التي يكنّها النظام السوري من جهة وتركيا من جهة أخرى مع السلطات المحلية في شمال سوريا والمعروفة بـ "الإدارة الذاتية".
تنافس على الأسعار
لم يبدُ الموسم استثنائياً من حيث الإنتاج فقط؛ بل من حيث التنافس على شرائه أيضاً، فقد حدد النظام السوري أسعار شرائه بـ 185 ليرة سورية للكيلو الغرام الواحد، فيما حددت الإدارة الذاتية أسعار الشراء عند 150 ليرة، وهو ما قابله الأهالي بامتعاض، كون مناطق شرق الفرات خاضعة بشكل شبه كامل لسيطرتها، فيما لا تتعدى سيطرة النظام المربعات الأمنية في الحسكة والقامشلي إضافة إلى مطارها، ليدفع ذلك الإدارة الذاتية للاستجابة لدعوات المواطنين ورفع سعر الشراء لاحقاً إلى الـ 160 ليرة.

صحفي من القامشلي: لا نمتلك أدلة تدين المعارضة السورية لكنها من أحد المستفيدين من تأليب الناس على الإدارة الذاتية

أسعارٌ وضعت الأفضلية الشرائية لدى النظام، لكن وفي منتصف حزيران (يونيو) الماضي، قال مسؤول في الإدارة الذاتية لشمال سوريا في تصريح لوكالة "رويترز" إنّهم سيمنعون شحنات القمح من الدخول إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام (غرب الفرات)، في محاولة لتعزيز الاحتياطيات لديهم، متوقعاً أن يصل إنتاج القمح في تلك المنطقة لعام 2019 إلى 900 ألف طن، على الرغم من الضرر الناتج عن الأمطار الغزيرة والحرائق الكبيرة التي اجتاحت حقول المحصول، بينما بلغ الإنتاج في العام السابق نحو 350 ألف طن فقط.
وأشار بدران جيا كُرد، وهو مسؤول بارز في الإدارة الذاتية، إلى أنّ التحرك لإبقاء القمح في المنطقة يأتي في إطار خطة لجمع مخزون إستراتيجي يكفي لعامين قادمين. وأضاف جيا: "ليس قراراً سياسياً لفرض الحصار على دمشق، على الإطلاق، إنه قرار لإبقاء محصول المنطقة للاستهلاك المحلي".

أحد الصوامع المخصصة لحفظ الحبوب شمال سوريا

أزلام النظام
إجراءات يبدو أنّها أزعجت النظام السوري الذي لا يزال يتمتع ببعض قوته في شرق الفرات، ليحاول بالتالي الرد على منع "الإدارة الذاتية" من نقل القمح الذي يشتريه من المزارعين إلى مناطق سيطرته غرب الفرات، وبالتالي لم يكن الانتقام صعباً في حقول واسعة تشتعل فيها النيران كأعواد الكبريت، لتعلن "الإدارة الذاتية" مطلع الشهر الماضي، أنّها اعتقلت مراسل قناة "الإخبارية" السورية التابعة للنظام ويدعى محمود الصغير برفقة أربعة آخرين، بتهمة الضلوع في إشعال الحرائق التي التهمت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في محافظة الحسكة، ليتم مقاضاته لاحقاً بالسجن لمدة عامين.
إشعال الفتنة
إلى ذلك، حاولت وسائل إعلام مناوئة لقوات سوريا الديمقراطية إبراز الحرائق وكأنّها تستهدف الأراضي التي يملكها أصحابها من المكون العربي في مناطق "الإدارة الذاتية"، في محاولة لشرخ العلاقة بين قسد والعشائر، لكن الحرائق سرعان ما انتقلت بشكلٍ كبير لمحاصيل يملكها الكُرد تحديداً، ليبدأوا بالتذمر من افتعالها ضمن حقولهم فقط.

النظام السوري يعلم بالقرار الأمريكي الذي يمنع وصول محاصيل أو نفط إليه لذا لن يتردد في إشعال الحرائق

لطالما أكدت قيادات قسد العسكرية والسياسية على التصدي لمحاولات إشعال الفتنة، خاصة مع انتقال الدعم الغربي والعربي لها من خانة العسكرة فقط إلى خانة السياسة والدبلوماسية وبحث سبل إعادة إعمار المناطق التي طرد منها تنظيم داعش، وهو ما بات ملاحظاً سواء من خلال زيارات لوفود أجنبية أو من خلال حراك دبلوماسي خليجي بقيادة المملكة العربية السعودية.
حراكٌ يُرجح كفة قسد كقوة بديلة عن النظام السوري والمسلحين المدعومين من تركيا، لتخبو معها تلك الفتنة المُفتعلة رويداً رويداً كسابقاتها، لكن دون إغفال دعوات للتحالف الدولي ضد الإرهاب بتعويض المتضررين، كون الحرائق المفتعلة كانت جزءاً من ضريبة القضاء على داعش وفق ما رآه مسؤولون وسكان محليون.

مزارع في أرضه بمناطق شمال سوريا

انتقام
تفسيرات أخرى جاءت لتزيد عدد المفتعلين المتوقعين لحرائق القمح السوري، فقد نشر موقع "سينابس نيوز" في الثاني عشر من الشهر الماضي، تقريراً قال فيه إنّ بعض السكان المحليين شاهدوا الحرائق المتعمدة لأراضي مقاتلي داعش أو موظفي التنظيم السابقين، في منطقة تطاردها ضغائن الحرب، التي لم تُحل بعد. وقال أحد الفلاحين في ريف الرقة إنّ "بعض العائلات في قريتنا قُتل أفرادها على أيدي داعش، وفي الوقت نفسه ترى هذه العائلات أشخاصاً كانوا منتمين لداعش ينتظرون حصاداً وفيراً، وإنّ إحراق أراضي هؤلاء وسيلة للانتقام، وتهدئة الغضب".
صفقات
أما موقع "المدن"، فقال في تقرير له منتصف الشهر الماضي، أنّه وبالاستناد إلى شهادات من مزارعين سوريين في المناطق التي طالتها الحرائق، فإنّ أحد أهم الأسباب التي تكمن خلف اشتعال النيران كانت بهدف تأمين مصالح "بعض" التجار، الذين عقدوا صفقات بملايين الدولارات من أجل استيراد القمح من الخارج، فمع انتشار النيران وضياع نسبة هائلة من القمح السوري، أعلن مدير "المؤسسة السورية للحبوب"، عن تفريغ 4 بواخر محمّلة بـ 110 آلاف طن قمح مستورد كانت وصلت إلى مرفأ طرطوس خلال أيام عيد الفطر، وأوضح أنّ استيراد هذه الكمية من القمح يأتي في إطار الجهود الحكومية لـ "تعزيز المخزون الإستراتيجي من المادة"، في حين لم تتجاوز كميات القمح التي اشترتها المؤسسة من الفلاحين، لغاية ذلك أكثر من 92 ألف طن.

اقرأ أيضاً: تركيا والنظام و"قسد".. مَن الأقرب إلى كسب العشائر السورية؟
ونوّه الموقع إلى أنّ حكومة النظام كانت قد عادت وأعلنت استمرار استيراد القمح للموسم الحالي، "على الرغم من توقعات بمحصول قمح جيد، مقارنة بالمواسم السابقة"، إذ أبرمت "السورية للحبوب" ثلاثة عقود لاستيراد 600 ألف طن، بقرض من مصرف سوريا المركزي، عن طريق المصرف التجاري، وتبلغ قيمة العقد الواحد 24 مليار ليرة، بإجمالي 72 مليار ليرة للعقود الثلاثة، والعقد الأول عبر شركة "سوليد 1" الروسية، لاستيراد 200 ألف طن بسعر الطن الواحد 310 دولارات، والعقد الثاني لاستيراد 200 ألف طن من شركة "سيستوس" بسعر 259.95 دولاراً للطن الواحد، والعقد الثالث استيراد الكمية نفسها عبر شركة "الشرق الأوسط" بسعر 252 دولاراً للطن.

اقرأ أيضاً: بين الالتقاء والافتراق.. النظام والكُرد السوريون إلى أين؟
وأشار الموقع إلى أنّ الظروف المناخية المساعدة على انتشار الحرائق هي ذاتها في تركيا والأردن والعراق وفلسطين، ومع ذلك لم تندلع الحرائق على هذا النطاق الواسع، ولم تتحول إلى مادة للتجاذب وقذف الاتهامات.. ورأى الموقع أنّ المسؤول الفعلي عن الحرائق التي تطال لقمة عيش السوريين هو ذاته من له المصلحة في عقد صفقات تجارية لاستيراد القمح، والتي تضخ المليارات في جيوب تجار وجهات لا تكترث سوى بالربح.

وكالة سانا الرسمية تعلن تفريغ أربع بواخر محملة بـ 110 آلاف طن قمح بتاريخ 9 حزيران الماضي

اتهام المعارضة السورية
حاولت المعارضة السورية اغتنام فرصة الفوضى المختلقة تلك، فاعتبر رئيس الائتلاف الوطني السابق عبد الرحمن مصطفى، أنّ ما حصل من حرق للمحاصيل الزراعية يندرج ضمن "جرائم الحرب"، داعياً المجتمع الدولي إلى التدخل الفوري لوقف تلك الحرائق وضمان عدم تكرارها، ومطالباً بنزع سيطرة "الإدارة الذاتية" عن مناطق شرق الفرات.

اقرأ أيضاً: جدار حول عفرين .. ماذا تفعل تركيا في الشمال السوري؟
حديثٌ يجد فيه جانو شاكر، الصحفي المُقيم في القامشلي شمال سوريا، وهو يتابع الأوضاع في منطقته وكيف التهمت الحرائق كل تلك المساحات، أن "المعارضة السورية هي أحد المستفيدين من إفشال الإدارة الذاتية من تحقيق ما وعدت به من تأمين قوت المنطقة وبذار الفلاحين"، متابعاً لـ "حفريات": "وإن كنا لا نمتلك أدلة تدينها، ولكنها تعتبر من أحد الأطراف المستفيدة من تأليب الناس على الإدارة الذاتية خاصة وأنّها تتحرك بإيعاز من الجانب التركي".
ويضيف شاكر خلال حديثه لـ"حفريات": "تركيا عملت على إفشال الإدارة الذاتية، وكسب ولاء الأهالي بمناطق شرق الفرات، ولديها نفوذ من خلال المعارضة ومن يتصل بها في هذه المناطق، وهي تستغل كل المواقف وليس غريباً عليها أن تستغل هذه المناسبة لتسجل نقاطاً على الإدارة الذاتية".
وحول تقييمه لتورط النظام السوري في عمليات الحرق، من عدمها، يقول شاكر: "أعتقد أنّ النظام السوري هو من أكثر الأطراف استفادة من إفشال الإدارة الذاتية في تحقيق ما وعدت به من تحقيق اكتفاء بمادة الطحين والبذار للمنطقة، وهي تعلم أنّ هناك قراراً أمريكياً بمنع وصول أي محاصيل أو نفط إلى النظام السوري، لذا لن يتردد النظام السوري في دفع أنصاره وعملائه إلى ارتكاب مثل هذه الجرائم التي لا تبدو غريبة على نهجه المتبع ضد مواطنيه".

اقرأ أيضاً: هل تسلخ تركيا "لواء إسكندرون" آخر من سوريا؟
وأعرب شاكر عن اعتقاده بأنّ "النظام السوري له مصلحة كما تركيا، لكن لا أعتقد أنّ من قام بالحرائق قد حقق مراده، ذلك أنّ المساحات المحترقة على كبرها لم تؤثر على المنتوج العام من المحصول، وفق أرقام مؤسسات تابعة للنظام، كما أنّ المساحات المزروعة في هذا العام كانت قياسية".
عداء فظ
وحول اتهام المعارضة السورية وتركيا الصريحين للإدارة الذاتية بالعجز والمسؤولية عن حرائق في حقول القمح، يقول سلمان بارودو رئيس هيئة الاقتصاد والزراعة في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا لـ "حفريات": "اتهام المعارضة السورية التي تأتمر بأوامر أسيادهم من أردوغان وحزبه حزب العدالة والتنمية ليس إلا ذر للرماد في العيون، وهذا الشيء مردود عليهم لأنهم معروفون بعدائهم الفظ للإدارة الذاتية وقواتها العسكرية (قسد)، ولا يريدون الخير لهذه الإدارة أن تنعم بالأمن والأمان والاستقرار لمناطقها في شمال وشرق سوريا".

معظم الحرائق بفعل فاعل حيث تبناها تنظيم داعش وتورط فيها بعض بقايا البعثيين الشوفينيين التابعين للنظام والاستخبارات التركية

ويشير بارودو في صدد المنافسة مع النظام على شراء القمح، بالقول: "نحن من قبلنا منحنا كامل الحرية للفلاحين والمزارعين في أن يسوقوا محاصيلهم إن كان للإدارة أو للنظام، هم أحرار ولا عوائق من قبلنا بهذا الخصوص"، متابعاً حول الانتقام من أسر داعش: "الجميع يعلم أنه أثناء فترة سيطرة داعش، أصبحت الأراضي ساحات حرب، ولم يكن بإمكانهم تأمين مستلزمات الزراعة من بذار وأسمدة وأدوية مكافحة من أجل زراعتها، ليس هذا فحسب بل حتى صعب الوصول إلى أراضيهم، ولكن بعد الانتصارات التي حققتها قوات سوريا الديمقراطية على داعش وإخراجهم ودحرهم من تلك المناطق، ونتيجة ما عانته عشائر المنطقة من ويلات وانتهاكات على يد هؤلاء الإرهابيين، بدأ الجميع يحارب هذا التنظيم الإرهابي المجرم".

اقرأ أيضاً: الكُرد السوريون.. مُعارضون أم موالون للنظام؟
وقدر رئيس هيئة الاقتصاد والزراعة حجم الأضرار التي ألحقت بحقول القمح "بأكثر من ٤٥٥ ألف دونم على مستوى شمال وشرق سوريا، وكانت معظم الحرائق بفعل فاعل حيث تبناها تنظيم داعش الإرهابي جهاراً نهاراً، عبر صحيفته "النبأ" التي توعدت بحرق الأخضر واليابس، كون هذه الأرزاق تعود للكفار والمرتدين، وأيضاً من قبل بعض بقايا البعثيين الشوفينيين التابعين للنظام ومرتزقة وأزلام الاستخبارات التركية وتشكيلاتها من الفصائل المسلحة التي تأتمر بأوامر اردوغان وحزبه"، مشيراً إلى أنّ "الخسارة تقدر بأكثر من ٢٠ مليار ليرة سورية".

سلمان بارودو رئيس هيئة الاقتصاد والزراعة في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا

تحقيق المراد
وهيمن سؤال رئيس على عقول الفلاحين المتضررين متعلق بإمكانية تعويضهم من قبل الإدارة الذاتية، خاصة أنّ مفتعل الحرائق كان يهدف لإحداث الشرخ بين المجتمع والسلطات المحلية، عبر إثبات عجزها عن تدارك احتياجاته وتلبية متطلباته الحياتية.
غاية تدركها الإدارة الذاتية جيداً، وتدرك بالتالي أهمية تعويض المتضررين، حيث يقول بارودو لـ "حفريات": "شكلنا لجاناً لإحصاء المساحات المحترقة، ستتم بموجب ضبوطات نظامية موقعة من المتضرر نفسه، ومن لجان الزراعة وقوى الأمن الداخلي "الاسايش"، وبعد الانتهاء من هذه الإحصاءات سنتمكن من معرفة الحجم الحقيقي لهذه الأضرار، وذلك من أجل إيجاد آلية لتعويضهم وفق الإمكانيات المتاحة لدينا".

اقرأ أيضاً: تركيا تضرب العرب بالكرد في سوريا لخدمة أحلامها العثمانية
واعتبر بارودو أنّ محاولات الجهات المفتعلة للحرائق من أجل زرع الفتنة بين الإدارة الذاتية ومكوناتها في شمال وشرق سوريا "ليست إلا تعبيراً عن مدى حقدها وعدائها لكل ما هو إنساني وللعيش المشترك وللسلم الأهلي، وانتقام لهزيمتهم العسكرية، وعليه بدأوا بمحاربتنا اقتصادياً والعبث بلقمة عيش المواطنين، ولكن سوف لن يفلحوا في إيصال هذه الرسالة الخبيثة كخبث أعمالهم الإجرامية، وستكون جميع مكوناتنا لهم بالمرصاد ولن تنصاع إلى أفعال إجرامية كهذه".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية