من الطابو العثماني إلى الإصلاح الزراعي.. تحوّلات ملكيّة الأرض في العراق الحديث

من الطابو العثماني إلى الإصلاح الزراعي.. تحوّلات ملكيّة الأرض في العراق الحديث

من الطابو العثماني إلى الإصلاح الزراعي.. تحوّلات ملكيّة الأرض في العراق الحديث


19/09/2023

عرف العراق سلسلة من التحوّلات على المستوى الاقتصادي، خلال  المئة وخمسين عاماً الماضية، كان لها آثار وانعكاسات على مجمل البنى الاجتماعية والسياسية في البلاد، وكان الإصلاح الزراعي أحد أهم هذه التحوّلات.

الطابو.. إعادة إنتاج الإقطاع

كما في سائر البلاد الخاضعة للحكم العثماني، عرف العراق قانون تنظيم الأراضي وإقرار الملكيّة الشخصيّة للمرة الأولى عام 1858 مع إقرار سندات التملّك وتسجيل الأراضي المعروفة بـ "الطابو"، ورغم الطابع الإصلاحي الذي حمله القانون، والأمل الذي صاحبه لإنهاء عصر الإقطاع، والانتقال إلى عصر الملكيّة الشخصيّة، إلّا أنّ المتنفذين والآغاوات استغلوا علاقتهم بالحكومة وجهل الفلاحين، فسجلوا جميع الأراضي، أو أغلبها، بأسمائهم، وأخذوا يتصرفون بها تصرّف المالكين، بغضّ النظر عن حقوق الفلاحين المقيمين، بالتالي؛ فإنّ قانون الطابو لم يفلح في تغيير الوضع عمّا كان عليه في العراق، وأعيد إنتاج الإقطاع في شكل ومسمّى جديدَين، مع ظهور طبقة من كبار الملّاك.

ثورة العشرين.. كيف انتهت إلى تعزيز التفاوت في الملكيّة؟

مع وقوع الحرب العالمية الأولى، ونهاية الحكم العثماني، انتقلت مساحات شاسعة من أراضي "الجفتلك" والأراضي الأميريّة التي كانت ملكاً شخصياً للسلطان العثماني وللدولة العثمانية، إلى ملك الدولة الجديدة الناشئة تحت رعاية الانتداب البريطاني، وبعد إقرار حكم الانتداب والتنكّر لوعود الاستقلال، بادر العراقيون للانتفاض والثورة على الحكم البريطاني، فكانت أحداث "ثورة العشرين".

اقرأ أيضاً: الإصلاح الزراعي في مصر.. لماذا انحاز الضابط إلى الفلاح؟
بعد إخماد البريطانيين للثورة، وبسبب ما أحدثته من زعزعة واضطراب، بادروا باتخاذ سلسلة إجراءات لتمكين حكمهم، كان من ضمنها إصدار بيان تحديد وتسجيل الأراضي، والذي جرى بموجبه منح أراضٍ واسعة من أملاك الدولة للشيوخ ورؤساء العشائر الذين أظهروا ولاءهم، ووقفوا إلى جانب سُلطة الاحتلال، في مواجهة الثورة العراقية، عام 1920، وبذلك كانت النتيجة تعزيز تركيز الأراضي في أيدي فئات قليلة.

الفلاحون عماد ثورة 1920 كما لقيت دعماً من المرجعيّة الدينية

العهد الملكي... قوانين الأراضي وصناعة الولاء
بعد استقلال المملكة العراقية مباشرة، عام 1932، بادر الحكم الجديد لإصدار قانون عُرف بـ "قانون تسوية الأراضي"، واستُحدثت لجان خاصة لتطبيقه، والذي جرى بموجبه انتزاع الحيازات القبليّة والعشائريّة، والتي كانت عبارة عن ملكية جماعية للأراضي، كانت تملكها عشائر بأكملها، ووزِّعت وحُصرت ملكيّتها بأيدي شيوخ ورؤساء العشائر، وبالتالي ساهم القانون في قيام ملكيات واسعة لأشخاص من أصحاب النفوذ والثراء، وساهم بذلك في زيادة تركيز المُلكيّة.

اقرأ أيضاً: ما أبرز تحوّلات مُلكيّة الأرض في مصر قبل ثورة يوليو؟
وكان الهدف من "تسوية الأراضي"؛ تعزيز نفوذ شيوخ العشائر واكتساب ولائهم للأسرة الحاكمة، وكان النظام الملكي قد اعتمد على العشائريّة وشجّعها، باعتبارها وسيلة لإرساء وتعزيز الولاء له، استمرت لجان التسويّة بالعمل حتى عام 1955، وانتهت التسويّة إلى أن تحوّل أفراد العشائر إلى مستأجرين، أو عمال زراعيين، دون وجود أيّة حقوق لهم في ملكية الأرض.

عشيّة الثورة.. التفاوت يبلغ ذروته

بلغ التفاوت في توزيع الملكيّة ذروته مع نهاية الخمسينيات، ويشير الدكتور محمد سلمان حسن، في كتابه "التطور الاقتصادي في العراق" إلى أنّه "في عام 1957 كان حوالي (3418) من الملّاك الزراعيين، أو ما نسبته 2% من مجموع الملّاك الزراعيين، يملكون حوالي (15.8) مليون دونم، أو ما نسبته 68% من مجموع مساحات الأراضي الزراعية في البلاد، وكانت المُلكيّات الصغيرة التي تقلّ مساحتها عن مئة دونم، تؤلّف حوالي 86% من المُلكيّات الزراعيّة، ولكن مجموع مساحتها لا يزيد عن 10.5% من مجموع مساحة الأراضي الزراعيّة في العراق، وتؤلف الملكيّات التي مساحتها ما بين مئة وألف دونم حوالي 12% من المُلكيات، وتشغل مساحتها 12.5% من مجموع الأراضي الزراعية، أما المُلكيّات الكبيرة، التي تبدأ من ألف دونم فما فوق؛ فإنّ نسبتها من الملكيات الزراعية لا تتجاوز 2%، ولكنها تشغل مساحة كبيرة تبلغ حوالي 68% من مجموع الأراضي الزراعيّة.

اقرأ أيضاً: من التجارة إلى الإقطاع... كيف حصلت الانعطافة الكبرى في التاريخ الاقتصادي للمشرق؟
وكانت هذه الحالة من التفاوت الكبير تؤثر على مجمل الاقتصاد بالبلاد، وذلك باعتبار أنّ عدد سكان المناطق الريفية عام 1957 بلغ حوالي أربعة ملايين نسمة، بنسبة 60% من مجموع السكان، وكانت تقدَّر نسبة السكان العاملين بالزراعة والذين يعيشون عليها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بنحو 70% من مجموع السكان.

بلغ التفاوت في ملكية الأراضي ذروته مع نهاية العهد الملكيّ

الثورة.. في الاجتماع والاقتصاد كما في الحكم
يؤكّد المؤرخ العراقي، فاضل حسين، في كتابه "سقوط النظام الملكي في العراق"؛ أنّ أعضاء اللجنة العليا لتنظيم الضباط الأحرار، قائد الثورة على حكم الأسرة الحاكمة في 14 تموز (يوليو) 1958، كانوا عازمين على القضاء على الإقطاع قبل الثورة بزمن؛ وذلك باعتباره عماداً ومرتكزاً أساسياً للنظام الملكي.

هدف قانون تسوية الأراضي عام 1932 لتعزيز نفوذ شيوخ العشائر واكتساب ولائهم للأسرة الحاكمة

وهكذا عمد الضباط الثوّار إلى إحداث تبديل في مجمل النظام الاجتماعي والاقتصادي للبلاد؛ عبر هدم النظام الإقطاعي، وذلك باعتباره يعرقل النهوض الاقتصادي والاجتماعي وتقدّم البلاد إلى الأمام، وكان الثوّار متأثرين في ذلك بالإصلاح الزراعي الذي قامت به عام 1952 "ثورة يوليو" في مصر.
ومباشرة، بعد قيام الثورة، أُعلن نصّ الدستور المؤقت، ونصّت المادة الرابعة عشرة فيه على أنّ "الملكية الزراعية تحدد وتنظم بقانون"، وفي أيلول (سبتمبر) 1958، جاء الإعلان عن بدء تطبيق قانون الإصلاح الزراعي الأول، وذلك عبر بيان للرئيس عبد الكريم قاسم.
نصّ القانون على تحديد المُلكيّات بالحد الأعلى، على أن تستولي الحكومة على ما يزيد عن الحدّ، مقابل تقديم تعويض عادل، وليتمّ بعدها توزيع الأراضي المستولى عليها والأرض الأميريّة على الفلاحين.
ووفق القانون؛ فقد تم تحديد الملكية للفرد بألف دونم من الأراضي المروية، وألفي دونم من الأراضي البعليّة.

جاء الإعلان عن تطبيق قانون الإصلاح الزراعي عبر بيان للرئيس قاسم

وعام 1970، بعد عامين تقريباً من وصول حزب البعث، بقيادة أحمد حسن البكر، إلى الحكم، صدر قانون الإصلاح الزراعي الثاني في العراق، وفي هذا القانون جرى إدخال جملة من الاعتبارات؛ كخصوبة التربة، وطرق الريّ، ومعدّل سقوط الأمطار، ونوعية الزراعة، وتقرّر فيه تقليص الحدّ الأعلى للأراضي البعليّة مع وضع تحديد أكثر دقة بناءً على معدّل السقوط المطري؛ فالأراضي التي يسقط فيها فوق الـ 400 ملم، يكون الحدّ الأعلى فيها ألف دونم، وما دون ذلك يبقى الحدّ ألفي دونم، أما الأراضي المرويّة فجرى تخفيض الحدّ الأعلى فيها أيضاً، وكانت أكبر مساحة مسموحة هي في الأراضي غير وافرة الخصب، وذلك بحدّ ستّمئة دونم، في حين تدنّى الحدّ في الأراضي التي تسقى سيحاً وتزرع بالأرز إلى مئة دونم.

أقرّ قانون الإصلاح الزراعي الثاني في عهد البكر وحمل تعديلات راعت جملة من الاعتبارات

إضافة إلى استهداف إحداث تغييرات اجتماعية جذريّة تتمثل في القضاء على النظم العشائرية والقبلية، هدف تطبيق الإصلاح الزراعي اقتصادياً إلى إضعاف تعلق فئة كبار المالكين بالأرض الزراعية والملكية العقارية وتوجيه الجزء الأكبر من مدخّراتهم إلى القطاعات الإنتاجيّة، أما سياسياً؛ فهدف إلى تجريد الإقطاع من نفوذه الواسع والحدّ من سلطته السياسية، إضافة إلى تعبئة الفلاحين جماهيرياً، وتنظيم قواهم سياسياً ضمن جمعيات ونقابات.

الصفحة الرئيسية