كيف أصبحت الدورة الشهرية في متناول النقاش المفتوح وملهمة لصنّاع السينما؟

الدورة الشهرية

كيف أصبحت الدورة الشهرية في متناول النقاش المفتوح وملهمة لصنّاع السينما؟


24/07/2019

في التاسع من تموز (يوليو) 2019، نشرت شبكة التلفزيون البريطاني "BBC"، تقريراً حول عمليات استئصال الرحم في الهند، لنساء في ربيع أعمارهنّ، بعدما تحوّل الأمر إلى ظاهرة تختارها النساء دونما داعٍ، إلّا أنّ ما قدّمته الصحفية الهندية "غيتا باندي"، من مشكلات أدّت لتلك الظاهرة، يدور حول ثلاثية "الاستغلال، الفقر، الجهل"، ولطالما كانت الهند، إلى جانب الكثير من دول العالم الثالث، تحرم النساء، خاصّة الفقيرات، من الرعاية الصحية والحقوق الاجتماعية والقانونية، لاسيما في فترة حرجة تزور النساء كلّ شهر، لأكثر من نصف حياتهنّ.

اقرأ أيضاً: النساء والسلطة.. خُرافة الرجل المتوحش والمرأة المُسالمة
وفي إطار الاستنفار العالمي للنساء، في بقع مختلفة من العالم، يدور الحديث حول تساؤلات تخصّ حياة النساء وطبيعتهن البيولوجية، التي لطالما تمّ استغلالها دينياً واجتماعياً وقانونياً من أجل المزيد من القهر والكبت، تدفع ثمنه جميع النساء، ويبقى الثمن أضعافاً على الفقيرات منهنّ.

 المزيد من القهر والكبت تدفع ثمنه جميع النساء ويبقى الثمن أضعافاً على الفقيرات منهنّ

ضريبة أن تكوني أنثى

عكف أبو الطبّ اليوناني القديم، أبقراط، على دراسة حيض النساء بشكل تشريحي، واستنتج أنّ هذا الحيض، هو دم يجب أن يخرج من جسد الأنثى، فقد شبّه لحم النساء بالإسفنجة؛ لذلك فهو يمتصّ السوائل بشكل أكبر، ويتراكم هذا السائل بأجسادهنّ طوال الشهر، ويخرج على هيئة نزيف دوري، وإذا لم يخرج فستصاب النساء بالمرض، ربما يتعفّن الدم، أو يذهب إلى مكان ما في الجسم، ويضغط على الأعضاء الحيوية، وهو صحيح بشكل ما؛ حيث إنّ أول أعراض احتباس الحيض، زيادة هرمون الإستروجين في جسد المرأة، الذي يظهر على شكل تورم في القدمين ومنطقة الصدر، وانتفاخ في الوجه، فيما شبّه الفيلسوف اليوناني، أرسطو الحيض بتدفق الدّم من حيوان مذبوح، إضافة إلى أنّه تتبع الأعراض النفسية التي تصيب النساء في تلك الفترة، وأكّد أنّ غالبية النساء تراودها أفكار انتحارية خلال فترة حيضها؛ بل وخلال عملية الإباضة، وربما بعدها، يتطابق هذا مع ما شخّصته منظمة الصحة العالمية حديثاً كمرض معروف بمتلازمة الدورة الشهرية "PMS".

اقرأ أيضاً: أيهما أفضل لرحلات الفضاء: النساء أم الرجال؟ ولماذا؟

تمر غالبية النساء بظروف نفسية صعبة خلال فترة الحيض

ومع حديث أبقراط عن تلك الأعراض في القرن الرابع قبل الميلاد، إلّا أنّ منظمة الصحة العالمية لم تدرجها في قائمة الاضطرابات النفسية التي تستلزم تدخّلاً طبياً، إلّا بحلول عام 2013، وهو ما يبرّر العلاقة الحرجة بين المجتمع الهندي كنموذج، وبين الدورة الشهرية لدى النساء؛ حيث كشف التقرير الأخير لشبكة "بي بي سي"، باعتراف من وزير الصحة الهندي، إكناث شيندا، عن ولاية "ماهاراشترا"؛ أنّ الأعوام الثلاثة الأخيرة شهدت قرابة 4560 عملية جراحية لاستئصال الرحم، لشابات في مرحلة العشرينيات، وهي كارثة أخرى تترتب عليها عواقب صحية وخيمة، فيما جاءت أسباب لهؤلاء النسوة كي يتمكنّ من العمل دون انقطاع، فمعظمهنّ من العاملات في مزارع قصب السكر، الأمر الذي يفرض عليهن ظروفاً غاية في القسوة؛ حيث يتطلب انقطاعهنّ عن العمل ليومين غرامة تدفعها كل واحدة منهنّ على الإجازة، وربما تُطرد من المزرعة، وحتى إن استمرت في العمل، فهي تحيض في ظروف قاسية، فلا توجد مراحيض في مقرّ عملها، ولا أدوات صحية تحميها من الإصابة بعدوى في تلك الفترة الحرجة، إضافة إلى العديد من الأطباء الذين يستغلون تلك الثغرة لإجراء عمليات استئصال رحمي، للحصول على مزيد من الربح.
"باد مان" يثأر للنساء
لاحتقار الدورة الشهرية، والحائضات من النساء في الهند، تاريخ طويل، ومنه قرّر الهندي، مورجانانثام، أواخر التسعينيات من القرن الماضي، تغيير هذا الواقع المجحف، بعدما رأى ما تتعرض له زوجته من إقصاء خلال أيامها الخمسة، هذا غير استخدامها لخرق بالية وقذرة، علم من أطباء الوحدة الصحية في قريته أنّها تعرّض النساء لأمراض ربما تموت بسببها، وهو ما دفعه لابتكار فوط صحية منخفضة التكلفة، لعجزه عن توفيرها من المتجر لزوجته وأمه وأخواته، وهو ما كان مرفوضاً في البداية من كافة أفراد العائلة، غير أنّ مورجانانثام أصرّ على هدفه، حتى أصبح "باد مان" أو رجل الحفاضة، الذي أرّخت له السينما الهندية في أحد أكثر أفلامها نجاحاً وجدلاً حول العالم، والمعروف بالاسم نفسه، وقدّمه المخرج الهندي، بالاكريشنان، للجمهور، عام 2018، وقام ببطولة الفيلم النجم الهندي أكشاي كومار، وأحدث الفيلم ضجّة في المجتمع الهندي، الذي ما يزال متعنتاً في قبول هذا الأمر الطبيعي، ليتمكنّ المجتمع، وأصحاب رؤوس الأموال من استغلال النساء في العمل، وامتهانهنّ في منظومة الأسرة الأبوية، حتى في العديد من بلدان العالم النامي وغيره، فالهند ليست وحدها.

اقرأ أيضاً: "النساء شقائق الرجال".. إقرار بالمساواة أم غلق لباب الاجتهاد؟

مورجانانثام الذي جسّد شخصيته النجم الهندي أكشاي كومار في فيلم باد مان

وفي السياق السينمائي، وخلال الحفل الـ 91 لجائزة الأوسكار، حاز فيلم "Period. End of Sentence"، على جائزة أحسن فيلم وثائقي قصير، ولاقى احتفاءً كبيراً من الحضور؛ حيث أقدمت المخرجة الهندية، رايكة زهتابشي، على صناعة فيلم يحاكي آلام نساء بلدها، فهو لا يتجاوز ربع الساعة، ويتناول قصة مجموعة من الهنديات، يجدن رفضاً وتهميشاً اجتماعياً لمعاناتهنّ أثناء فترة الحيض، ويشرعن بالعمل على صناعة حفاضات منخفضة الثمن، لتحميهنّ من الأمراض، فيما اعتلت مخرجة العمل منصة التكريم قائلة: "مَن كان ليصدق أن يفوز فيلم عن الدورة الشهرية بالأوسكار"، وبحسب تقرير قدمته إذاعة "بي بي سي" البريطانية؛ فإنّ عملية بيولوجية طبيعية مثل الطمث يتم التعامل معها بتحفظ شديد من قبل معظم الدول العربية، ففي اليمن، حتى يومنا، تمنع المرأة الحائض من الحصاد كي لا تجفّ الأشجار، ومن إطعام الحيوانات، أو مداعبة الأطفال، حتى لا يمرضوا، وفي الريف المصري تنتشر فكرة منع الحائض من زيارة امرأة حديثة الولادة، كي لا يموت المولود أو والدته بحمّى النفاس، أو الدخول إلى منزل عروس، اعتقاداً منهم بأنّ هذا نذير شؤم قد يسبب الطلاق.

 

 

الحيض..قضية طبقية
في ولاية " تاميل نادو"، جنوب الهند، قامت مؤسسة "طومسون رويترز" الأمريكية، بعمل دراسة حول تأثير الدورة الشهرية على إنتاجية العمل، وما وجدته المؤسسة كان مفزعاً؛ ففي أحد مصانع الملابس التي تتجاوز أرباحها سنوياً مليارات الدولارات، وجميع العمالة نسائية، من توزيع الإدارة لأدوية مجهولة المصدر، حين يشتكين من الآم الدورة الشهرية، وذلك بدلاً من الحصول على يوم إجازة، ومن واقع الأرقام فإنّ هذا النوع من القهر الذي تتعرض له النساء يقع بشكل أساسي نتيجة موقعهن الطبقي، فجميعهنّ عاملات باليوم، لا تستطعن تحمل الانقطاع عن العمل، ربما تلك الإجراءات القاسية بحقهن، تبرر الأرقام الواردة بشأن عمالة المرأة في الهند، كما أورد تقرير منظمة العمل الدولية، أنّه بين عامي 2005/ 2006، كانت نسبة العاملات في الهند 36%، بينما بلغت عامي 2015/ 2016، 25%، فمثل هذه الممارسات بحقّ النساء الفقيرات، خلال أوقات العمل، تعدّ استغلالاً لظروف بيولوجية، لجني مزيد من الأرباح، حتى لو كان على حساب العامل البشري، وهو لبّ منظومة عمل الرأسمالية، المستندة إلى فائض القيمة الذي تبيعه هؤلاء النسوة، مقابل فتات الأموال كي يتمكنّ من إطعام أسرهنّ.

اقرأ أيضاً: السعيدات هن النساء العازبات.. وما رأيك أنت؟

 حالات اكتئاب سريري يصيب النساء في هذه الأيام تتراوح شدته طبقاً لما يتلقينه من الرعاية الصحية

وعلى صعيد ما يجب عمله؛ فإنّ عدة دراسات تقدمها منظمة الصحة العالمية، والجمعية الأمريكية للطبّ النفسي في هذا الصدد، تؤكد ما قاله أبقراط قبل آلاف السنين، من حالات اكتئاب سريري يصيب النساء في هذه الأيام، تتراوح شدته، طبقاً لما يتلقينه من الرعاية الصحية، والنظام الغذائي. ووفق مقال نشرته مجلة "المرأة اليوم" الأمريكية؛ فإنّ بعض الممارسات مثل الحدّ من الكافيين وتناول الخضار والفواكه الطازجة، والعلاج بالتدليك والإبر الصينية، واليوجا وممارسات التأمل تكون أكثر فاعلية من المسكنات التي لها ما لها من أعراض جانبية على المدى الطويل، وهنا يقع التمييز ضدّ النساء الفقيرات؛ حيث لن تتمكن الملايين من النساء حول العالم من تلك الوسائل البديلة لتخفيف الآم، حتى لو تمكن من أخذ إجازة مدفوعة الأجر، نظراً لعدم إتاحة تلك الوسائل إلّا لطبقات معينة في مجتمعات معينة، وعليه فإنّ الحقّ في الصحة مفقود لدى معظم نساء العالم، الذي يعيش أكثر من نصف سكانه تحت سطوة الحرب والعنف والفقر المدقع.
الدماء بين القداسة والدناسة
في النصف الأول من القرن العشرين؛ شهد العالم حروباً دامية، أودت بحياة ما يزيد عن 100 مليون شخص، سالت دماؤهم بلا ثمن، وما تزال النزاعات الدامية تغزو أرجاء المعمورة، وتسيل الدماء، خاصّة في قلب العالم النامي، من الشرق الأوسط وإفريقيا وبعض أجزاء من آسيا، كل تلك الدماء التي تسيل هباءً، لم تجد من ينتفض لأجلها، بل تنتفض لأجل دورة الحياة التي تمنحها المرأة من جسدها، فهل يكره البشر الدماء في المطلق، أم أنّ دماء الحيض منبوذة كونها تأتي من جسد امرأة؟ يحيط بهذا الجسد الكثير من الأساطير والأحكام الاجتماعية التي تقرر مسار حياة هذا الجسد، وكلّ تفاصيله، حسبما تقتضي مصلحة الذكورية الحاكمة، وللحق؛ فإنّ الأمر لا يقتصر على العالم الثالث، ففي حملته الانتخابية، عام 2015، قدّم المرشح الرئاسي وقتها، دونالد ترامب، إهانة جديدة تضاف لسجل إهانته للنساء بشكل خاص، للإعلامية الأمريكية ميغان كيللي، عندما تساءلَت عن تاريخ إهانة ترامب للنساء ليرد قائلاً: "بإمكاني مشاهدة الدماء تخرج من عينيها، ودماء أخرى تخرج.. من كلّ مكان"، لينفي فيما بعد أن يكون قاصداً الدورة الشهرية كإهانة للنساء، لكن سجلّ ترامب الحافل بإهانته للنساء يكفي لتكذيب مراوغته في تلك النقطة.

اقرأ أيضاً: "جهاد النساء" .. لماذا اخترن داعش؟

الإعلامية الأمريكية ميغان كيللي والرئيس الأمريكي دونالد ترامب

ومن الهند مرة أخرى؛ جاء عام 2018 بمزيد من الحراك، بعدما انتشر هاشتاغ بعنوان "تحدي الفوط الصحية"، وبدعم كبير من نجوم بوليود الذين شاركوا في التدوين، ناشرين صورهم مع الحفاضات النسائية، في محاولة منهم لكسر الحظر الموجود على إتاحة الفوط الصحية للكثير من النساء في الهند وغيرها، وبالرغم من إقرار عدة دول إجازة مدفوعة الأجر أيام الحيض، في مقدمتها اليابان، وكوريا الجنوبية وأندونيسيا، وبعض المقاطعات الصينية، استجمع البرلمان الإيطالي قواه، عام 2017، لمناقشة قانون يمنح الحائضات عطلة مدفوعة الأجر، الأمر الذي وصل صداه إلى القاهرة، لتعلن إحدى شركات التسويق الإلكتروني في مصر، مطلع 2019، منحها إجازة مدفوعة خلال أيام الحيض للموظفّات اللواتي يمثلن أغلبية العمالة داخل الشركة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية