"عقلة الإصبع".. كيف لملكة النقد أن تجد لها مكاناً في مجتمعاتنا العربية؟

"عقلة الإصبع".. كيف لملكة النقد أن تجد لها مكاناً في مجتمعاتنا العربية؟


01/02/2018

يحيلُ مفهوم النّقد إحالة مباشرة إلى تفحّص الشيء، والحكم عليه وتمييز الجيّد من الرّديء، والإضاءة على السلبيات والإيجابيات، وكشف مكامن القوة ومكامن الضعف، وذلك لتوليد أفكار ورؤىً جديدة، تؤدّي إلى التّطور والتّقدم الاجتماعي والإنساني. ولا يمكن لعملية النّقد أن تأخذ مسارها السليم من دون امتلاك الذات للوعي والحريّة، اللّذين يؤدّيان إلى قبول الآخر المختلف، وإلّا تحوّل الاختلاف إلى خلاف وانحراف عن الأحكام العقليّة، تتحكّم فيه العاطفة، ويحكم على التفكير الاجتماعي بالثّبات والجمود، وينقسم العالم إلى نحن وهم، فيصبح النّفي ملاذاً متبادلاً يحكمه الخوف ويتحكّم به.   

"تبدأ تربية ملكة النّقد عند الطفل منذ عمر الثلاث سنوات"،هذه الجملة دفعتني لإجراء استطلاع رأي لمئتي طفل وطفلة، تتراوح أعمارهم ما بين (5 ــ 14) عاماً، حول القصة الشّهيرة "عقلة الإصبع" للكاتب "شارل بيرو" التي نُشرت عام 1697م. كان السّؤال: ما رأيك بقصّة عقلة الإصبع؟ طفلة واحدة من أصل مئتي طفل وطفلة قدّمت رأياً نقديّاً، فمن جانبٍ أبدت متعتها في القصّة، ومن جانبٍ آخر وجّهت نقداً لعقلة الإصبع على أنّه كاذب وسارق، أمّا بقيّة الأطفال كان جلّ انتباههم متمحوراً حول البطل وانتصاره؛ حيث لم توقفهم القيم السلوكية الخاطئة التي تبنّاها عقلة الأصبع للوصول إلى مبتغاه.

دراسات كثيرة أكّدت أن تخويف الأطفال بنيران جهنم تخلق أجيالاً متطرّفة، والتّطرف أينما كان هو نتيجة لإقصاء الوعي

إنّ نتيجة هذا الاستبيان تشير إلى شكل التربية التي يتعرّض لها هؤلاء الأطفال، لتؤكّد على الغياب الفاقع لملكة النّقد عندنا نحن الكبار قبل أطفالنا. قصة "عقلة الإصبع" تماثل الكثير من قصص الأطفال التي ترتكز حلولها على الكذب والخداع والمكر. هذه الحلول تلقى مقبوليّة واضحة لدينا، طالما أنّها تُخلّص البطل من المأزق. والطريق الأقصر إلى الحل، ليتم تبرير العنف في مواجهة الخوف من منطلق الغاية تبرر الوسيلة، والذي يؤدي للنفي، نفي الآخر، هذا ما نربّي أطفالنا عليه. هناك من سيقول إذا كانت هذه القصص تنطوي على قيم خاطئة لماذا نقرؤها لأطفالنا؟ حسناً ولماذا لا نقرؤها؟ لماذا لا تكون مساحةً لتنمية مَلَكَة النقد لديهم ولدينا من خلال محاورتهم حول القيم التي تحملها هذه القصص، الملكة التي من شأنها أن تحرّر الفرد من تناقضاته في علاقته مع ذاته ومع الواقع، بدل الانغلاق وحرمان أطفالنا من الانفتاح على الثقافات الأخرى وتغذية مخيلتهم؟ طريقة تربيتنا لأطفالنا هي من تجيب على ذلك.     

في كنف تربية قائمة على الطاعة العمياء والخضوع والانقياد وطرح الأفكار من دون التأمّل في مدلولاتها. كيف لملكة النقد أن تجد لها مكاناً؟ ففي واقع مجتمعاتنا نرى أنّه كلّما ازداد إدراك الطفل ازداد خوفه، وهذا يتناقض مع ما وصل إليه علماء النفس، على أنّه في التربية السليمة كلما ازداد إدراك الطفل فإنّ ظاهرة الخوف تنكمش، لامتلاكه القدرة على ربط النتائج بالأسباب. هذا التناقض مردّه أنّ تربيتنا تقوم على الخوف والتخويف اللّذين يساهمان في تشويه سلوك الطفل الطبيعي، وإعاقة تقدّمه الفكري، فبدل أن يكون الخوف وسيلة لحمايته يتحول إلى آليّة إلغاء لشخصيته وكيانه. في دراسة حديثة لجامعة "غيبر كوليدج" في لندن كشفت عن الآثار السلبية لتعرّض الطفل للترويع والتخويف، حيث إنّها تبقى واضحة حتى بلوغ الشخص الأربعين من العمر.

ما يجعل الفكر النّقدي غائباً في المجتمعات العربية  التابوهات التي لا تسمح للعقل بمراجعة الأفكار ومواكبة الحداثة

ثقافة الخوف تشكّل خطراً على مراحل نموّ الطفل؛ حيث تُفقده القدرة على اتخاذ القرار السليم، لتميل شخصيته إلى التذبذب والتردّد، ويكون من السهولة تعرّضه للإصابات النفسية، ناهيك عن ممارسته في الكبر دور الجلاّد لردّ الاعتبار للضحيّة التي كانها يوماً. دراسات كثيرة أكّدت أن تخويف الأطفال بنيران جهنم تخلق أجيالاً متطرّفة، والتّطرف أينما كان هو نتيجة لإقصاء الوعي، والغياب السّافر لملكة النقد.  

ما يجعل الفكر النّقدي غائباً في المجتمعات العربية  "التابوهات" التي لا تسمح للعقل بمراجعة الأفكار، ومواكبة الحداثة التي بدورها لا تتعيّن من دون الانفتاح على العالم. هذا الانغلاق يقيّد ذهنيّة الإنسان ويعطّل تفكيره. الفكر التسلّطي هو أوّل المشرّعين لغياب ملكة النقد، ابتداءً من القاعدة (الأسرة)، انتهاءً برأس الهرم (السلطة السياسية والدينية). وما الّذي يُغيّب النقد سوى المسلّمات  التي تلغي دور العقل، وتحصره بسلطة تستمد قوتها من انغلاقها على نفسها ونفيها للآخر.وهذا بالضرورة ما يؤدّي إلى توقّف الإبداع والتطور في المجتمع، يقول "هيربارت" إنّ "التربية لتغدو ظلماً وطغياناً إذا لم تودِ إلى الحرية" هذه الحرية التي تفتقر لها الأسر ونظم التربية والتعليم والسلطات العربية والتي حلّ محلّها مفهوما الطّاعة والخضوع، لنجد أنفسنا أمام مجتمع خائف منتقِد وليس مجتمعاً حرّاً وناقداً.

الانتقاد يهدف فقط إلى الحطّ من الشّأن وإظهار العيوب، إنّه لا يقع إلّا عليها

في مجتمعاتنا نتعامل مع مفهوم الانتقاد على أنّه النّقد؛ إذ تُستخدم كلمة (انْتقدَ) على وزن افتعل بمعنى (نَقَدَ)، وبالنّظر إلى الصّيغة النّحوية للوزن افتعل نجد أنّها تدل على المبالغة في الفعل، وهذه المبالغة تُحيل إلى تجاوز الفعل لدلالته الطبيعيّة، وهو تعميم يَنظُر إلى العالم بمنظارٍ كمّيٍ، بالتالي إنّ الانتقاد هو قذف ملكة النّقد خارج العقل، لتتحكّم بالعقل نوازع ما قبل عقليّة، من شأنها أن تؤسّس لواقع تغترب فيه القيم الإنسانية، وتزدهر القيم المضادة، التي لا تَنظُر إلى الآخر إلّا باعتباره خطراً وتهديداً. الانتقاد يهدف فقط إلى الحطّ من الشّأن وإظهار العيوب، إنّه لا يقع إلّا عليها؛ لأنّ الثقافة التي تغذّيه هي ثقافة الخوف.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية