وعي السياق في جدل المعرفة.. أي مأزق يواجهنا؟

وعي السياق في جدل المعرفة.. أي مأزق يواجهنا؟

وعي السياق في جدل المعرفة.. أي مأزق يواجهنا؟


31/10/2023

مشكلة الإنسان وميزته، في الوقت نفسه، أنّ حياته جملة من أنماط العيش ضمن سياقات تؤثر في وعيه وتفكيره وسلوكه. لا يمكننا أن نتصور إنساناً خارج السياق، السياق بذاته ضرورة؛ لأن الانسان من خلاله يتعيّن ولا يتجرّد، ولأنّ طبيعته تقتضي ذلك. لكن بعض السياقات أحياناً تحكم أفعال الإنسان  بجملة من التصورات والانطباعات قد تكون خاطئة أو مشوشة، أو ملتبسة؛ فتنعكس على تفكيره ومن ثم قد تطبع سلوكه؛ لاسيما إذا كانت انطباعات من الطفولة، أو من تجربة ما تجاه جماعة أو فرد.

وإذا كان التفكير الناقد يجعل الفرد العادي مستعداً للخروج من أسر الانطباعات الخاطئة والمتحولة، ومن شروط سياقية يصعب الفكاك منها بفعل تجربة في الطفولة مثلاً، أو بفعل سردية جماعية عامة حيال جماعة أخرى: قبيلة أو طائفة أو طبقة، بحيث يكون دافعاً له لمساءلة انطباعاته الخاطئة (مهما كانت) في ضوء العقل والمعرفة والمنطق الأخلاقي؛ فإنّه سيكون من الأهمية المضاعفة للمفكر العربي أن يفكر بعمق في تحديد فكرة السياق المتصل بهويته الفكرية؛ لأنّه من خلال إنتاج السياق يمكن تحديد الفروق الضرورية بين سياق فلسفي معين في حضارة ما وبين سياق آخر في حضارة أخرى.

لا يمكننا أن نتصور إنساناً خارج السياق فالسياق بذاته ضرورة لأن الانسان من خلاله يتعيّن ولا يتجرّد

لا تكفي اليوم تلك المحاججة النسقية الساذجة التي مفادها: أنه لا حاجة لنا اليوم بفكر الغرب نظراً لما لدينا من معرفة وتراث (وهي مقولة يروجها السلفيون ودعاة الإسلام السياسي)، كما لا يكفي للظن بأننا منخرطون في الحداثة أن نعيد اجترار أفكار فلسفية وفق آخر سياقات تتصل أساساً بتجليات الفكر الغربي ومصادر نشأته. وهكذا فلا الادعاء الوهمي للعلاقة بهويتنا التراثية (تلك التي نعيد تمثليها بأقنعة لا علاقة لها بحقيقة حياة عاشها السلف الأول) يكفي لمواجهة التحديات التي تواجهنا في الحاضر، ولا تلك المعرفة النسقية بالغرب تكون كافية في اختبار قدرتنا على رؤية سياقاتنا الخاصة بما يجعلنا غير مستلبين، وبما يمنحنا بصيرة الاختلاف ورؤية السياقات، على ما أصبح عليه الحال من تمثيل غير سياقي لكثيرين من المفكرين العرب في تعاطيهم مع الفكر الغربي.

مأزقنا اليوم يكمن في غياب أي اختبار لقدرتنا على تجاوز هذه الثنائية الضارة والعقيمة؛ أي في غياب اختبار أي قدرة لنا على استيعاب الحداثة وفق منهجية تفضي بنا إلى الخروج من ذلك الوعي النسقي البسيط إلى سياقاتنا الخاصة للتفاعل مع المعرفة الغربية من موقع الند.

فحين يصبح المفكرون العرب غافلين عن حقائق السياق وحيثياته المؤطرة لأي فيلسوف في الغرب، مهما كان كبيراً من وزن "هابرماس" مثلاً، فإنّ البحث عن ذلك الفرق الذي يجبر ثغرة السياق (وهو فرق مهم لا فكاك منه) يصبح التحدي الوحيد لإعادة تأويل أي فيلسوف وفق سياق عربي/إسلامي؛ أي تلك القدرة الفكرية والفلسفية القادرة على إنتاج جبر فارق السياق، وهذا هو ما جعل علاقة العرب بالحداثة نسقية، بحيث أصبح حالهم معها كمثل من (يَقْصُدَ البحرَ وهو يَسْتَدْبِره) كما قال أبو حامد الغزالي.

فقط بوعي فارق السياق سيكون للفكر العربي إمكانية  القدرة على رؤية أشياء كثيرة حيال الحداثة والموروث والوعي والحياة بطريقة مختلفة وإيجابية. وحينها سيصبح الفكر العربي أقرب إلى السوية الإنسانية ذات الخصوصية التي تمنحه رؤية  لا تهدر السياقات المختلفة، وتمتلك، في الوقت ذاته، حيثية أصيلة لا تجعلها رهينة لأنماطها الخاطئة.

لا يكفي للظن بأننا منخرطون في الحداثة أن نعيد اجترار أفكار فلسفية وفق آخر سياقات تتصل بتجليات الفكر الغربي

عالم اليوم، بعد أن أصبح فضاءً مفتوحاً، كشف بوضوح؛ رثاثة ما نحن عليه من حال؛ من العجز والجهل والتخلف عن اللحاق  بالآخرين. لكن المحير هنا، أنّ ذلك الوضع الذي صرنا إليه لا يعود أبداً إلى جهلنا بما أصبح عليه العالم، بل إلى جهلنا بما ينبغي أن نكون عليه نحن اليوم أمام العالم من حقيقة صورتنا الفكرية وأصالتنا السياقية؛ فقدرتنا على أن نلحق بالغرب أصلاً ستكون مستحيلة  بمعناها الحرفي إذا ما ظللنا نتوهم أن حياتنا لابد أن تكون إعادة انتاج أخرى ومشوهة للحياة في الغرب. هذه، على الأقل، سفاهة خدعتنا لأكثر من مئتي عام وما تزال تخدعنا  حتى اليوم.

بطبيعة الحال؛ ما نحن اليوم عليه ليس جزءاً من الطبيعة، ولو حسبناه كذلك، فمن يضعون قوانين العالم في العالم  ويصنعون وقائعه وأحداثه، وهم الأقوياء، يريدون إيهامنا بذلك، فيما نحن الضعفاء نصدقهم باستمرار، نتيجة لعروض: قوة، وعلم، ومعرفة، عبر وسائط إبهار تكنولوجية يختلط فيها الحق بالباطل. وإذا ما أدركنا، عبر معرفتنا السياقية؛ أن القوة في حد ذاتها معيار ناقص، وأنّ نظم إدراك المعرفة التي تحكم شروط القوة في عالم اليوم تنطوي على مغالطات معرفية وأخلاقية؛ سيكون ذلك بذاته كافياً بأن لا نكون ترساً في عجلة عالمية كبيرة، لن ندرك أبداً معنى كوننا ترساً فيهاً إلا عندما نخرج من إطار سياقاتها؛ لننظر إليها من داخل سياقاتنا المعرفية.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية