قراءة في أخطر الرسائل المتبادلة بين علي ومعاوية

التاريخ الإسلامي

قراءة في أخطر الرسائل المتبادلة بين علي ومعاوية


07/08/2019

أعيدت في الأوساط الفكرية والصحفية المصرية، في الآونة الأخيرة، قصّة الصراع الذي دار بين علي ومعاوية، رضي الله عنهما، في القرن الأول الهجري، عبر العديد من المقالات، التي دافعت عن موقف معاوية، وابنه يزيد من بعده، في مواجهة علي، وابنه الحسين، وما أعقب ذلك من الردود، التي هاجمت المدافعين عن الأوّلين.

اقرأ أيضاً: كيف نفهم الأيديولوجيات السياسية بعيداً عن حمولتها التاريخية والاجتماعية؟

ويبدو أنّ إعادة فتح هذا الملف "القديم الجديد" لم تكن سوى لرغبة البعض في استدعاء أيام التاريخ ومواقفه، للقيام بجملة من الإسقاطات، التي تبرّر مواقف بعينها قامت بها الكتل السياسية، أو محاولة تشبيه تيارات حديثة بقديمه، وهو تشبيهات وتمثلات تصطدم، بلا شكّ، بالفروقات الواسعة بين السياقات التاريخية والمعاصرة.

معاوية لم يصرح بمطالبته بالخلافة بل بدم عثمان فحسب إلا أنّ علياً كان يشتمّ رائحة ذلك منه

ونحن إذ نقوم بقراءة لأبرز الرسائل المتبادلة بمخين علي ومعاوية، رضي الله عنهما، فإننا لا نحاول السير مع هذا الركب؛ بل نسعى إلى أن نقوم بعملية قراءة مجردة، ليس الغرض منها إثبات إدانة طرف، بقدر ما هي محاولة لرؤية الحقيقة والواقع بأشكال مجردة، ومن زوايا متعددة، بعد الاستناد إلى أحد أهم المصادر التاريخية في هذا الشأن، وهو كتاب "وقعة صفين"، لنصر بن مزاحم المنقري، وهو ثاني كتاب أرّخ لواقعة صفّين، ويعدّ نصر من طبقة شيوخ الطبري؛ إذ يروي الطبري عن أبي مخنف، الذي يعدّ نصر بن مزاحم في طبقته.
علي يرى أنّ من يخرج على إجماع الأمة يستحق إعلان الحرب عليه

صراع البيعة
أرسل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، كتاباً حمله جرير إلى معاوية، جاء فيه: "أما بعد؛ فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، وفي رواية "بيعتي لزمتك بالمدينة وأنت بالشام"؛ لأنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، على ما بُويعوا عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يُردّ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل فسمّوه إماماً، كان ذلك لله رضا، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيراً".

يبدو أنّ معاوية انتقل من مطالبة علي بالقصاص إلى اعتباره مسؤولاً شخصياً عن قتل عثمان

يتجلى في النص السابق، تأكيد، وربما اعتراف، علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، بشرعية بيعة من قبله من الخلفاء، واعتبار المجموعة المبايعة لهم من أهل الحل والعقد، الممثلين لإرادة الأمة، والذين يفترض أنهم لا يجتمعون على ضلالة، ما يضع علامة استفهام على المقولات التي ادّعت أنّ "علياً" كان يرى أنّ الإمامة نزعت منه انتزاعاً بفعل صحابة سلبوه حقّه؛ إذ إنّ الثلة التي بايعت من قبله كانت من المهاجرين والأنصار، والذين رضي الله عنهم.
لأنّه حين يقول: "فإن اجتمعوا على رجل فسمّوه إماماً، كان ذلك لله رضا"، وهو اعتقاد يمثل الحديث النبوي: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"؛ إذ إنّ المعنى هنا هم تتوافر فيهم صفات الإجماع وشروطه، فإذا اجتمعت نخبة المهاجرين والأنصار على أمر فإنّ ذلك يمثل إرادة الله تعالى ورضائه.

اقرأ أيضاً: إشكالية العلاقة بين السلطة والمعرفة في التاريخ الإسلامي
لكنّ علياً يرى أنّ من يخرج على ذلك الإجماع، يستحق إعلان الحرب عليه؛ إذ يعدّ تفتيتاً للّحمة الجماعة، وتقطعياً لسبيكتها، وتشرذماً لوحدتها، وهو إذ يفعل ذلك، فليس بدوافع سياسية واجتماعية فقط؛ بل بدافع ديني بالأساس: "فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولّى، ويصليه جهنم وساءت مصيراً"، لكن القتال هنا يجيء بعد الضغط بعدد من محاولات العودة والرجوع للصفّ المبايع.
ذهب علي إلى إخراج معاوية وربما أهل الشام جميعاً من نطاق دائرة الشورى في الخلافة

قتال الخارجين
وهو ما فعله علي، رضي الله عنه، قبل إرسال تلك الرسالة إلى معاوية في واقعة الجمل؛ إذ شنّ حرباً على الصحابيَّيْن "طلحة والزبير" رضي الله عنهما، اللذين نقضا بيعته، فرأى أنّ ذلك باطل لا يرضي الله، مع أنّهما خرجا عليه مستندَيْن إلى أسس شرعية تخوّل لهما ذلك وفق ما اعتقدا.

لم تكن إشكالية أهل الحل والعقد مسألة تاريخية مضت بل ماتزال تضرب بآثارها إلى يومنا هذا

يكمل علي في رسالته لمعاوية: "وإن طلحة والزبير بايعاني، ثم نقضا بيعتي، وكان نقضهما كردّهما، فجاهدتهما على ذلك، حتى جاء الحقّ وظهر أمر الله، وهما كارهان".
لكنّ علياً لا يرى من تلك الحرب، في الأصل نزاعاً بين طرفين متخاصمين، يعتقد كلّ منهما أنّه على حقّ، بعد اجتهاده، بل ينظر إليها باعتبارها حرباً بين فريقين أحدهما على الحق، الذي يمثله هو، والآخر على باطل.
كما رأى أنّ النصر في المعركة الحربية دليل على إظهار أمر الله في صفه، بدليل انهزام طلحة والزبير، وانكسار جيشهما، وانقلاب كفّة المعركة لصالحه ومن معه، لكن لو أمضينا هذا المنطق على استقامته، فهل يمكن اعتبار علي على باطل، بعد أن آل الأمر لمعاوية بن أبي سفيان في النهاية؟ لكنّ النصر والهزيمة في المعركة لم يكن ليرتبط يوماً بثنائية الحقّ والباطل، بقدر ما يرتبط بواقع المعركة، وأدواتها، والظروف المحيطة بها، والأقدار والحكم الإلهية، التي لا تجعل من المنهزم على الباطل بالضرورة.

اقرأ أيضاً: العنف متخفياً في التاريخ
وبناء على ما سبق؛ فإنّ علياً يطالب معاوية بقوله: "فادخل فيما دخل فيه المسلمون، فإنّ أحبّ الأمور إليّ فيك العافية، إلّا أن تتعرض للبلاء، فإن تعرضت له قاتلتك، واستعنت الله عليك".
الخضوع إذاً، أو القتال، حتى وإن بادر علي، رضي الله عنه، بإرسال الرسل، لتجنب وقوع الحرب، لكن القرار النهائي كان محسوماً لديه: "إذعان أو قتال"، ولا توجد خيارات أخرى.
التاريخ الإسلامي حاضر بقوة في الرسائل المتبادلة بين الظواهري والبغدادي

حقيقة أم خدعة؟
يتعرض علي، رضي الله عنه، لعصب الخلاف القائم، وهي قضية مقتل عثمان بن عفان، رضي الله عنه، فيقول: "وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخلْ فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكم القوم إليّ، أحملك وإياهم على كتاب الله، فأما تلك التي تريدها فخدعة الصبيّ عن اللبن، ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان".
فلا يجوز لمعاوية أن يطالب بتطبيق النظام العام والقانون "شرع الله" على من قتلوا عثمان، من نظام حكم هو لم يعترف به بعد؛ لذا فإنّ علياً يطالبه بالدخول تحت مظلة النظام، عبر المبايعة، ثم يطالب أمير المؤمنين، بتطبيق القانون، على من يتهمهم بالقتل، فيصبح هناك مدعٍ "معاوية" باعتباره ولياً للدم، في مواجهة المدَّعى عليهم "القتلة".

معاوية كان يدرك أنّ شخصية علي لا تسمح له بتسليم قتلة عثمان وأن الأمور تسير إلى حرب

أما الذي يريد أن يفعله معاوية، من المطالبة بتطبيق العقاب على القتلة، قبل المبايعة، فإنها الخدعة الكبرى؛ إذ إنّ إدخال "علي" القتلة الثائرين على "عثمان" في قفص الاتهام، بناء على طلب "معاوية" وجماعته، سيبدو في تلك الحالة كصفقة بينه وبين الإمام الجديد، مقابل بيعته له، وعندها ستكون الصراعات الطاحنة قد ضربت معسكر علي، وقطّعته إرباً.
يعتقد علي بذكائه؛ أنّ هناك خدعة من ابن أبي سفيان، وحلفائه؛ "فأما تلك التي تريدها فخدعة الصبيّ عن اللبن".
ومع أنّ معاوية لم يكن مطالباً بالخلافة في ذلك الوقت؛ بل بدم عثمان فحسب، إلا أنّ علياً كان يشتمّ رائحة الطمع في عرش الخلافة، ولذا فإنه يقطع على معاوية ذلك الباب، باعتباره ليس من أوّلي السبق في الإسلام؛ بل كان من الطلقاء: "واعلم أنّك من الطلقاء، الذين لا تحلّ لهم الخلافة، ولا تعرض فيهم الشورى، وقد أرسلت إليك ومن قبلك إلى، جرير بن عبد الله، وهو من أهل الإيمان والهجرة، فبايعْ ولا قوة إلا بالله".
صراعات داعش والقاعدة

طليق خارج دائرة الشورى
كان معاوية أميراً للشام، وكذا تولى كثير من الطلقاء (من قال لهم النبيّ، صلى الله عليه وسلم، يوم فتح مكة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء") العديد من المناصب الحربية والإدارية، وكذا الولايات الكبرى، في عصور الخلفاء الثلاثة الأوائل، ومن ثم فإنّ استخدام "علي" لفظة "لا تحلّ له" تبدو غريبة ومدهشة؛ إذ إنّهم تولوا بالفعل إمارات ذات مكانة كبرى في الدولة الإسلامية، أما عن الولاية العامة "الخلافة"؛ فإنّ الاعتقاد السائد أنّها للقرشيين فقط، ومعاوية من قريش.

اقرأ أيضاً: فقه الاستبداد: العلاقة الجدلية بين السياسة والأخلاق في التاريخ الإسلامي
بل ذهب علي إلى إخراج معاوية، وربما أهل الشام جميعاً، من نطاق دائرة الشورى في الخلافة، وهو ما لا شكّ في أنّه يثير غضب وتوجس معاوية الذي كان يدرك أنّ علياً لو استطاع الهيمنة على الشام ومصر، فلا شكّ في أنّه سيعزله وأقرباءه.
تجلّت فلسفة علي ورؤيته للصراع الدائر في رسالة أخرى، بعث بها لمعاوية: "زعمت أنّه أفسد عليك بيعتي، خطيئتي في عثمان، ولعمري ما كنت إلا رجلاً من المهاجرين أوردت كما أوردوا، وأصدرتُ كما أصدروا، وما كان الله ليجعلهم على ضلالة، ولا ليضربهم بالعمى، وما أُمرت فتلزمني خطيئة الآمر، ولا قتلت فيجب علي القصاص".
كان يدرك أنّ علياً لو استطاع الهيمنة على الشام ومصر، فلا شكّ في أنّه سيعزله وأقرباءه

وليّ الدم
يبدو أنّ معاوية انتقل من مطالبة علي، رضي الله عنه، بالقصاص، إلى اعتباره مسؤولاً شخصياً عن قتل عثمان، رضي الله عنه، على اعتبار أنه لم يحرك ساكناً عندما أحاط بداره الثوار، ولهذا فإنّ معاوية تخلّف عن بيعة علي بهذه الحُجة، ولذلك فإنّ علياً يردّ عليه بأنه كان رجلاً من المهاجرين فعل ما فعلوا، وإنّ هؤلاء عندما يجتمعون فإن اجتماعهم هذا تتمثل فيه إرادة الله الحقة.
ثم يعود علي في تلك الرسالة الثانية، ليؤكّد على ما ورد في الأولى، من أنّ أهل الحجاز هم الحكّام، "أما قولك: "إنّ أهل الشام هم الحكّام على أهل الحجاز، فهاتِ رجلاً من قريش الشام يقبل في الشورى أو تحلّ له الخلافة، فإن زعمت ذلك كذّبك المهاجرون والأنصار، وإلا أتيتك به من قريش الحجاز".

يسرد علي منطقاً عقلانياً في إثبات أحقيته للخلافة وعلى الأسس نفسها التي أثبتها المهاجرون لأنفسهم

من هنا تظهر إشكالية أهل الحلّ والعقد، الذين وإن وضع الفقهاء صفاتهم وشروطهم، إلا أنّ انتخابهم لم يكن ذا آلية محكمة؛ إذ إنّ كثيراً من الناس يمكنهم التنازع في تلك الهيئة النيايية عن جمهور المسلمين.
لم تكن الإشكالية تاريخية حوتها كتب التراث الإسلامي فحسب؛ بل ما تزال تضرب بآثارها إلى يومنا هذا، سواء كانت في النظم الملكية والسلطانية، أو بين التنظيمات الإسلامية؛ إذ إنّ المجموعة التي بإمكانها تنصيب ملك أو حتى أمير تنظيم، لا يتم انتخابها انتخاباً مباشراً عبر الاقتراع، أو التصويت السرّي، أو العلنيّ الحرّ؛ بل قد يتعارف أو يجمع عليها من ضمن طبقة من طبقات المجتمع الدينية أو الاجتماعية، أو من خلال قادة يحتلون رتباً تنظيمية في حالة الجماعات الدينية.

اقرأ أيضاً: الموروث والتاريخ الآخر
فالمتابع للصراعات التي جرت بين داعش والقاعدة، بعد إعلان أبي بكر البغدادي خلافته، سيجد أنّ التاريخ الإسلامي حاضر بقوة في الرسائل المتبادلة بين أيمن الظواهري والبغدادي، بعد أن ادّعى الأخير أنّه حصل على بيعة شرعية من المهاجرين والأنصار في تنظيمه، ومن أولي السبق والجهاد فيه، بينما رأى الظواهري؛ أنّ تلك المجموعات في العراق، لا تسبغ عليها صفة الشرعية، لأنّها لم تأتِ من شيوخ القاعدة الذين يمثلون أهل الحلّ والعقد، بحسب اعتقاده.
وهكذا كان يزعم معاوية؛ لأنّ علياً تجاهل في بيعته، أنّ أهل الشام، وهو كان يقيم بين أظهرهم، ثلة من المهاجرين والأنصار، إلا أنّ علياً نفى أن يكون هؤلاء ضمن مجموعة أهل الحلّ والعقد، مكتفياً بالمهاجرين والأنصار في الحجاز، والذين تكفي بيعتهم لانعقاد الإمامة له.
يقطع علي على معاوية محاولة التمييز بين "الشام" و"البصرة" ويرى أنّهما واحد

الاعتراف أولاً
يكمل علي، رضي الله عنه: "وأما قولك: "ادفع إلينا قتلة عثمان"، فما أنت وعثمان؟ إنما أنت رجل من بني أمية، وبنو عثمان أولى بذلك منك، فإن زعمت أنك أقوى على دم أبيهم منهم فادخل في طاعتي، ثم حاكم القوم إليّ، أحملك وإياهم على المحجة"؛ وهنا تأكيد على الطرح السابق: ادخل في الطاعة، ثم يكون لك بعد ذلك حق المطالبة بالدم، ولا يكون لك قبل ذلك الحقّ؛ إذ إنّك لست داخلاً تحت لواء المنظومة، فلا تحتكم إليها.

اقرأ أيضاً: كيف يتحرر التاريخ من الشرّ؟
يستأنف قائلاً: "وأما تمييزك بين الشام والبصرة، وبين طلحة والزبير، فلعمري ما الأمر فيما هناك إلا واحد، لأنّها بيعة عامة لا يثني فيها النظر، ولا يستأنف فيها الخيار، وأما ولوهك بي في أمر عثمان، فما قلت ذلك عن حقّ العيان، ولا يقين الخبر، وأما فضلي في الإسلام، وقرابتي من النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وشرفي في قريش، فلعمري لو استطعت دفع ذلك لدفعته".
فيقطع علي على معاوية محاولة التمييز بين "الشام" و"البصرة" ويرى أنّهما واحد؛ إذ إنّ البيعة في البصرة أو الحجاز، تلزم من في الشام؛ لأنّ تلك البيعة تأتي من أولئك الذين بايعوا الخلفاء الأوائل، فحصلوا على الشرعية من خلالهم.
ويؤكد علي؛ أنّ له فضلاً في الإسلام، ربما لا يدانيه فضل، وهو الأقرب لرسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، ومن ثمّ؛ فإنّه لا أحد يعلوه في أحقية الخلافة.
دخول في النوايا
ننتقل إلى ردّ معاوية، في رسالته التي قدّمها تقديماً يشير إلى عدم اعترافه ببيعة علي: "من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب: سلام عليك؛ فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد؛ فإنّ الله اصطفى محمداً بعلمه، وجعله الأمين على وحيه، والرسول على خلقه، واجتبى له من المسلمين أعواناً أيده الله بهم، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام، فكان أفضلهم في إسلامه، وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة من بعده، وخليفة خليفته، والثالث الخليفة المظلوم عثمان، فكلّهم حسدت، وعلى كلّهم بغيت، عرفنا ذلك في نظرك الشزر، وفي الهُجْر، وفي تنفسك الصعداء، وفي إبطائك عن الخلفاء، تقاد إلى كل منهم كما يقاد الفحل المخشوش"؛ الذي جعل في عظم أنفه الخشاش، وهو بالكسر عويد يُجعل في أنف البعير يُشدّ به الزمام ليكون أسرع في انقياده، حتى تبايع وأنت كاره..".

اقرأ أيضاً: "السلطة في الإسلام": عبدالجواد ياسين يفك اشتباك النص والتاريخ
يتجلى في مقدمة تلك الرسالة ذكاء معاوية ودهاؤه؛ إذ إنّه يدشّن على أفضلية الخلفاء الذين سبقوا علياً، ووصفهم بالمجتبين من قبل الله، لتأييد نبيه، فالأفضل كان أبو بكر، ثم يليه عمر، ثم يليه عثمان، رضي الله عنهم، ليصل إلى أنّ علياً كان يضمر الحقد عليهم، وبالأخصّ عثمان، وهو بذلك يمهّد لاتهام أشنع.
فيقول معاوية: "ثمّ لم تكن لأحد منهم بأعظم حسداً منك لابن عمّك عثمان، وكان أحقهم ألّا تفعل ذلك به في قرابته وصهره، فقطعت رحمه، وقبّحت محاسنه، وألّبت عليه الناس، وبطنت وظهرت، حتى ضربت إليه آباط الإبل، وقيدت إليه الخيل العراب، وحمل عليه السلاح في حرم رسول الله، فقتل معك في المحلة، وأنت تسمع في داره الهائعة، لا تردع الظنّ والتهمة عن نفسك فيه بقول ولا فعل، فأقسم صادقاً أن لو قمت فيما كان من أحد، ولما ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من المجانبه لعثمان والبغي عليه...".

اقرأ أيضاً: التاريخ الإسلامي: قراءة واعية أم انتقائية منحازة؟
يتقصّد معاوية خلق رواية تبدأ من بعد وفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، ومبايعة أبي بكر، ومن بعده عمر، ثم عثمان، ليتدخل في نوايا علي ويتهمه بالكراهية، والحنق، والحسد، حتى يؤسس في عقل المستمع، لتصديق الاتهام الأشنع، وهو تحريض علي على قتل عثمان، ثم التخلي عنه حال الحصار، حتى يتخلص منه، وليس ذلك فحسب، بل وإيواء قتلة عثمان، فماذا يعني ذلك إذاً سوى إثبات الرواية منذ بدايتها؟
يكمل معاوية في ذات الرسالة: "وأخرى أنت بها عند أنصار عثمان ظنين (متهم)، إيواؤك قتلة عثمان، فهم عضدك وأنصارك ويدك وبطانتك، وقد ذكر لي أنك تنصّلت من دمه؛ فإن كنت صادقاً فأمكنا من قتلته نقتلهم به، ونحن أسرع الناس إليك، وإلا فإنه فليس لك ولا لأصحابك إلا السيف، والذي لا إله إلا هو لنطلبن قتلة عثمان في الجبال والرمال، والبرّ والبحر، حتى يقتلهم الله، أو تلحقن أرواحنا بالله، والسلام".
خطّة معاوية
بدا أنّ معاوية كان يدرك أنّ شخصية علي لا تسمح له بتسليم قتلة عثمان، وأن الأمور ستذهب إلى الحرب، لكنّه كان يعتقد أنّه منصور فيها، ليس بسبب قوة معسكره؛ بل لانشقاقات وتراجعات في معسكر خصمه.
ردّ علي على مزاعم معاوية في رسالة أخرى طويلة، وجّهها إليه، جاء مطلعها كالآتي: "بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله علي، أمير المؤمنين، إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد؛ فإنّ أخا خولان قدم عليَّ بكتاب منك، تذكر فيه محمداً، صلى الله عليه وآله وسلم، وما أنعم الله عليه به من الهدى والوحي، والحمد لله الذي صدقه الوعد، وتمّم له النصر، ومكن له في البلاد، وأظهره على أهل العداء والشنآن، من قومه الذين وثبوا به، وشنفوا له، وأظهروا له التكذيب، وبارزوه العداء، وظاهروا على إخراجه، وعلى إخراج أصحابه، وأهله، وألبوا عليه العرب، وجامعوهم على حربه، وجهدوا في أمره كل الجهد، وقلبوا له الأمور حتى ظهر أمر الله وهم كارهون، وكان أشد الناس عليه ألبة أسرته، والأدنى فالأدنى من قومه إلا من عصمه الله، يا ابن هند؛ فلقد خبأ لنا الدهر منك عجباً".

اقرأ أيضاً: ألقاب وأوصاف التبجيل أو الذمّ في التاريخ الإسلامي
هنا، يبدي علياً اندهاشه من ذكر معاوية، لما تعرّض له الرسول، صلى الله عليه وسلّم، وجماعته، من الاضطهاد والتنكيل، الذي تزعّمه والد معاوية، أبو سفيان بن حرب، ومع أنّ عليّاً لم يشكّك في حسن إسلام معاوية وأبيه، إلا أنّه يلمّح له من خلال مناداته بـ"يا ابن هند"، بما كان من والدته، التي قتلت عمّه حمزة، في وقعة أحد، حتى أنّها مثّلت بجثته، وأكلت من كبده.

الأفضلية لمن؟
ومع ذلك، فمعاوية كان يستند في فضله ومكانته، ليس على الأسبقية في الإسلام، فهو وأبوه لم ينالا شرفها، لكنّه استند إلى ما قام به الأمويون من جهاد في بناء الدولة الإسلامية، وتمدّدها، خاصّة في الشام ومصر، وبلاد المغرب، وإن لم يذكر ذلك صراحة.

لم ينجح معاوية في جرّ عليّ إلى الإساءة لأصحابه من الخلفاء السابقين وإن لم يؤكد فضلهم عليه

يكمل علي قائلاً: "ولقد قدمت فأفحشت؛ إذ طفقت تخبرنا عن بلاء الله تعالى في نبيه، محمد صلى الله عليه وسلم، فينا، فكنت في ذلك كجالب التمر إلى هجر، أو كداعي مسدّده إلى النضال (كمن يدعو من علّمه النضال إلى النضال)".
"وذكرت أنّ الله اجتبى له من المسلمين أعواناً أيّده الله بهم، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام، فكان أفضلهم زعامة في الإسلام، وأنصحهم لله ورسوله الخليفة، وخليفة الخلافة، ولعمري إنّ مكانهما من الإسلام لعظيم، وإنّ المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد، رحمهما الله وجزاهما بأحسن الجزاء، وذكرت أنّ عثمان كان في الفضل ثالثاً، فإن كان عثمان محسناً فيجزيه الله بإحسانه، وإن يك مسيئاً فسيلقى ربه غفوراً، لا يتعاظمه ذنب أن يغفره".
لم ينجح معاوية، إذاً، في جرّ عليّ إلى الإساءة لأصحابه من الخلفاء السابقين؛ بل أكّد على فضلهما في الإسلام، لكنّه لم يؤكد على فضلهم عليه نفسه، مع تفويض أمر عثمان إلى ربّه، إن كان محسناً أو كان مسيئاً.
يشي علي بأدب جمّ بأفضليته في الفقرة التالية من الرسالة، وإن كان لم يتجاوز حكم الله: "ولعمر الله إني لأرجو إذا أعطى الله الناس على قدر فضائلهم في الإسلام ونصيحتهم لله ورسوله أن يكون نصيبنا في ذلك الأوفر".
يعود علي إلى التاريخ القريب؛ حيث يؤكد على أفضلية آل البيت، بما لقوه من عنت ومشقة في بدايات الطريق: "إنّ محمداً، صلى الله عليه وسلم، لما دعا إلى الإيمان بالله والتوحيد، كنا أهل البيت أول من آمن به، وصدق بما جاء به، فلبثنا أحوالاً مجرّمة، وما يعبد الله في ربع ساكن من العرب غيرنا، فأراد قومنا قتل نبينا، واجتياح أصلنا، وهمّوا بنا الهموم، وفعلوا بنا الأفاعيل، فمنعونا الميرة، وأمسكوا عنا العذب، وأحلسونا الخوف، وجلعوا علينا الأرصاد والعيون، وكتبوا علينا بينهم كتاباً لا يواكلونا ولا يشاربونا ولا يناكحونا ولا يبايعونا ولا نأمن فيهم إلا موسم إلى موسم، فعزم الله لنا على منعه، والذبّ عن حوزته، والرمي من وراء حرمته، والقيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف بالليل والنهار..".

 

جهاد أهل البيت
يسرد علي ما لاقاه أهل البيت من مشقة، والتضحية في سبيل الدين، ملمحاً بأنّ منهم من كان من ذوي الفضل والرفعة، إلا أنّهم اختاروا الشهادة، وماتوا قبل أن تمتد الدولة، لكنهم إن كانوا ما يزالون على قيد الحياة، لكانوا أفضل ممن بقوا بعد ذلك.
يقول: "ثم أمر الله رسوله بالهجرة، وأذن له بعد ذلك في قتال المشركين، فكان إذا احمر البأس ودعيت نزال أقام أهل بيته فاستقدموا، فوقى بهم أصحابه حرّ الأسنّة والسيوف، فقتل عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب يوم بدر، وحمزة يوم أحد، وجعفر وزيد يوم مؤتة، وأراد لله من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة مع النبي، صلى الله عليه وسلم، غير مرة، إلّا أنّ آجالهم عجلت، ومنيته أخّرت، والله مولى الإحسان إليهم، والمنان عليهم، بما قد أسلفوا من الصالحات، فما سمعت بأحد ولا رأيت فيهم من هو أنصح لله في طاعة رسوله، ولا أطوع لرسوله في طاعة ربه، ولا أصبر على اللأواء والضراء وحين البأس ومواطن المكروه مع النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، من هؤلاء النفر الذين سمّيت لك، وفي المهاجرين خير كثير نعرفه، جزاهم الله بأحسن أعمالهم..".

اقرأ أيضاً: التاريخ إذ يتعالى على الزمكان فيغدو مقدساً!
ينفي علي تهمة الحدث والبغي على الخلفاء، لكنه لا ينفي كراهيته لتوليهم الأمر فقال: "وذكرت حسدي الخلفاء، وإبطائي عنهم، وبغيي عليهم، فأما البغي فمعاذ الله أن يكون، وأما الإبطاء عنهم والكراهة لأمرهم فلست أعتذر منه إلى الناس، لأنّ الله، جلّ ذكره، لما قبض نبيه، صلى الله عليه وسلم، قالت قريش: "منّا أمير"، وقالت الأنصار" "منّا أمير"، فنحن أحق بذلك الأمر".
هنا يبرز إيمان ابن أبي طالب، بأحقيته في الإمامة، بجلاء ووضوح، فمع أنّه قبل ببيعة الخلفاء، فذلك حتى لا تقع فتنة بين المسلمين، ولذا فقد كتم في نفسه، ورأى أنّ الأمة مقدمة عليه.
كان معاوية يعتقد أنّه سينتصر ليس لقوة معسكره بل لانشقاقات وتراجعات في معسكر خصمه

منطق وعقلانية
يسرد علي منطقاً عقلانياً في إثبات أحقيته للخلافة، وعلى الأسس نفسها التي أثبتها المهاجرون لأنفسهم، حينما وقع الخلاف بينهم وبين الأنصار في سقيفة بني ساعدة.
فالمهاجرون رأوا أنّهم أحقّ بالخلافة؛ لأنّ النبي، صلى الله عليه وسلم، منهم، وبذاك سلّم الأنصار الإمارة لقريش، فإذا كان ذلك هو الأساس الشرعي الذي استند إليه الأنصار، فإنّ علياً يستند إلى الأساس نفسه، إذا طُرح سؤال آخر: من الأقرب لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، في قريش؟ لا شكّ في أنّه علي.
يكمل علي: "..فعرفت ذلك الأنصار فسلمت لهم الولاية والسلطان، فإذا استحقوها، بمحمد، صلى الله عليه وسلم، دون الأنصار، فإنّ أولى الناس بمحمد، صلى الله عليه وآله وسلم، أحقّ بها منهم، وإلّا فإنّ الأنصار أعظم العرب فيها نصيباً، فلا أدري أصحابي سلموا من أن يكونوا حقّي أخذوا، أو الأنصار ظلموا؛ بل عرفت أنّ حقّي هو المأخوذ، وقد تركته لهم، تجاوز الله عنهم..".

اقرأ أيضاً: المساجد عبر التاريخ.. بين الوعظ والسياسة
يؤكّد علي، في جميع رسائله، أنّه بريء من دم عثمان: "وأما ما ذكرت من أمر عثمان وقطيعتي رحمه، وتأليبي عليه، فإنّ عثمان عمل ما قد بلغك، فصنع الناس به ما قد رأيت وقد علمت، إني كنت في عزلة عنه، إلّا أن تتجنّى، فتجني ما بدا لك، وأما ما ذكرت من أمر قتله عثمان فإني نظرت في هذا الأمر وضربت أنفه وعينيه، فلم أرد دفعهم إليك، ولا إلى غيرك".
في نهاية تلك الرسالة؛ ساق علي، رضي الله عنه، في مواجهة معاوية، رضي الله عنه، واقعة كان بطلها سفيان بن حرب، نفسه، والذي أكّد له علي أنّه كان يرى أنّه الأحقّ بالخلافة، من أبي بكر.
يقول: "وقد كان أبوك أتاني حين ولّى الناس أبا بكر، فقال: أنت أحق بعد محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، بهذا الأمر، وأنا زعيم لك بذلك على مَن خالفك، ابسط يدك أبايعك، فلم أفعل، وأنت تعلم أنّ أباك كان قد قال ذلك وأراده حتى كنت أنا الذي أبيت، لقرب عهد الناس بالكفر، مخافة الفرقة بين أهل الإسلام، فأبوك كان أعرف بحقّي منك، فإن تعرف من حقي ما كان يعرف أبوك تصب رشدك، وإن لم تفعل فسيغني الله عنك، والسلام".

الصفحة الرئيسية