هذا ما تنبئنا به قصة اختطاف جماعة الأمة القبطية البابا يوساب الثاني

الأقباط

هذا ما تنبئنا به قصة اختطاف جماعة الأمة القبطية البابا يوساب الثاني


08/08/2019

"الله مليكنا ومصر بلادنا، والإنجيل شريعتنا، والصليب علامتنا، والمصرية لغتنا، والشهادة في سبيل المسيح غاية الرجاء".
ربما كان هذا الشعار، الذي رفعه تنظيم الأمة القبطية، وقريب الشبه بشعار جماعة الإخوان المسلمين، غريباً عن طبيعة أقباط مصر، تلك الطبيعة المتوجسة دوماً من التورّط في أيّ صراع هوياتي، لكن جملة من المعطيات تداخلت فيما بينها؛ لتشكّل حالة فريدة في تاريخ المسيحية المصرية، كان تنظيم الأمة القبطية أحد أبرز تجلّياتها.

اقرأ أيضاً: شيخ العرب همّام والأقباط.. هكذا ترسخت دولة المواطنة في الصعيد المصري
اكتنفت المسألة القبطية في مصر حالة خاصة، في ظلّ وضع الأقلية المسيحية المرتهن بمجموعة من التحولات السياسية والاجتماعية، خاصة مع مطلع القرن التاسع عشر، إبان رحيل الحملة الفرنسية، العام 1801؛ حيث كان القدر رحيماً عندما جاء محمد علي إلى الحكم، فالرجل القوي بحكم تكوينه الحداثي، لم يقم بتصفية أيّة حسابات مع الأقباط، تذرعاً بتعاونهم مع الحملة الفرنسية، تلك التهمة التي ألحّ البعض في إلصاقها بهم.

اكتنفت المسألة القبطية بمصر حالة خاصة في ظلّ وضع الأقلية المسيحية المرتهن بمجموعة من التحولات السياسية والاجتماعية

وطيلة حكم محمد علي، لم تعرف مصر حوادث طائفية خطيرة، في ظلّ قوة الدولة المركزية وقدرتها على ضبط الأمور، واستمر الأمر في عهد خلفائه؛ بل وتحسّن وضع الأقباط كثيراً، خاصة في عهد الخديوي إسماعيل؛ الذي دعم المدارس القبطية، ومنح الأقباط حقّ الترشّح لمجلس شورى النواب، عام 1866، وكان نوبار باشا أول مسيحي يحصل على لقب الباشاوية، بل وترقّى الرجل حتى وصل إلى منصب رئيس الوزراء.
ورغم انتشار الأقباط في شتى الوظائف بمؤسسات الدولة، ودورهم التاريخي في ثورة 1919، إلّا أنّ الحالة الطائفية لم تكن بمثل هذه التصورات الوردية، التي يحلو للبعض ترويجها، إذا لم يعرف المجتمع المصري إدارة حقيقية للتنوع، تقوم على مبدأ المواطنة، وظلّ البعد الديني مسيطراً، خاصّة في المرجعيّات القانونية، فعلى سبيل المثال؛ أقرّ منشور منسوب لوزارة العدل، العام 1931، بعدم قبول شهادة الطبيب المسيحي في القضايا الشرعية.
خبر الاختطاف في إحدى الصحف

البابا يوساب الثاني وعصر من الفوضى
في العام 1946؛ نُصِّب البابا يوساب الثاني، بطريركاً للأقباط، في ظلّ ظرف تاريخي شديد الإرباك، فمن ناحية كان الصعود القبطي في الحقبة الليبرالية لافتاً، لكنّه كان يصطدم من ناحية أخرى بعدة عوائق اجتماعية وقانونية؛ لم تسمح بتذويب الحالة الطائفية، لكن شعوراً عامّاً بالقدرة على المشاركة ونيل الحقوق بين الأقباط، بدأ في النمو، وهو الشعور الذي اصطدم في اللحظة الأولى بحالة الفوضى التي ضربت الكنيسة القبطية في عهد البابا المُسنّ، والذي تفاجأ في بداية عهده بعدة قضايا رُفعت ضدّه، إبان صراعه على إدارة الأوقاف مع القمص إبراهيم لوقا، إضافة إلى صعود المدّ التبشيري الإنجيلي، بدعم مباشر من إنجلترا.

اقرأ أيضاً: استهداف الأقباط في مصر .. تاريخ موجز للعقاب السياسي
كان البابا يوساب الثاني قد اصطحب معه، عندما جاء من جرجا، خادمه كامل جرجس، الشهير بـ"ملك"، والذي زادت صلاحياته بشكل غير مسبوق، نظراً إلى ثقة البابا المطلقة به، ومع اتساع نفوذه، فرض ملك نوعاً من الوصاية على البابا الطاعن في السنّ، واستغلّ منصبه أسوأ استغلال، لتكوين بطانة مارست كلّ أشكال الفساد الذي يمكن تصوره، فكان يبيع المناصب الأسقفية والكهنوتية، نظير مبالغ هائلة كانت تذهب إليه، حتى تضخمت ثروته بشكل ملحوظ، وهو ما أربك البطريركية، في وقت كانت البلاد تمرّ فيه بمرحلة انتقالية، تميّزت بالفوضى، إبان قيام ثورة تموز (يوليو) 1952. 

نُصِّب البابا يوساب الثاني العام 1946 بطريركاً للأقباط في ظلّ ظرف تاريخي شديد الإرباك

وفي العام 1953؛ مع استشراء حالة الفساد المنظم، وتضخّم ثروة ملك، قامت قوات الأمن باعتقاله للتحقيق معه، لكنّ البابا يوساب قرّر أن يتحدّى الجميع، واستخدم نفوذه لإعادته من جديد، رغم محاولات المجمع المقدّس إقناعه بضرورة إبعاده، لكنّه رفض بإصرار شديد، بينما واصل ملك أنشطته المشبوهة، حتى أنّه كان يقوم بتزوير الخطابات البطريركية، ووصل الأمر إلى حدّ ممارسة البلطجة في مواجهة خصومه من الأساقفة.
مع تفشّي الفساد، على غرار النمط القروسطي الأوروبي، تكوَّن تنظيم قبطي ثوري، استهدف إصلاحات جذرية، في ظلّ الحالة المترهلة التي أصبحت عليها الكنيسة، وأعلن التنظيم الذي كوّنه إبراهيم فهمي هلال، عن نفسه، في 14 أيلول (سبتمبر) 1952، تحت اسم "جماعة الأمة القبطية"، وقد ضمّ شخصيات بارزة، تقلدت مناصب قيادية في الأوساط القبطية بعد ذلك، ويكفي أن نعرف أنّه كان من بين أعضائه: الأب متى المسكين، والبابا كيرلس السادس، والبابا شنودة الثالث.
البابا يوساب قرّر أن يتحدّى الجميع

محاولة الإصلاح تتجاهل مبدأ المواطنة
ظهرت جماعة الأمة القبطية، في سياق مفعم بأخبار التنظيمات والحركات الثورية، في ظلّ موجة التحرر الوطني التي انتابت العالم آنذاك، لكنّ تكوينها من شخصيات غلب عليها الطابع الديني المحافظ، وانخراطها المباشر في الصراع الكنسي، في ظلّ حالة الفوضى التي انتابت الكنيسة، وتراخي قبضة الدولة في مرحلة الانتقال بين عهدين، صبغها بنوع من الفاشية الدينية، فقراءة سريعة لأهدافها المعلنة تفضي إلى فهم بنيتها الأيديولوجية، التي سعت إلى تكريسها؛ حيث كانت أهداف الجماعة تدور حول ضرورة تطبيق حكم الإنجيل على أهل الإنجيل، والتمسّك  بالكتاب المقدّس، وتطبيق جميع أحكامه، مع نشر اللغة القبطية وإحلالها محلّ اللغات الأخرى بين الأقباط، والدفاع عن عادات وتقاليد الأمة القبطية، واعتماد التقويم القبطي، وتهيئة الأجواء لتشكيل رأي عام قبطي جمعي، من خلال إصدار جرائد يومية وأسبوعية وشهرية، وإنشاء محطة إذاعة، وإنشاء مقر للجماعة، على مقربة من الأحياء ذات الكثافة القبطية، بوسط القاهرة، ويبدو تأثّر جماعة الأمة القبطية بحركة الإخوان المسلمين جليّاً، كما يبدو نزوعها نحو تكريس حالة من الانفصال بين الأقباط شديد الوضوح، وقد اختارت طريقاً محافظاً لإصلاح الكنيسة، ونهجاً يمينيّاً به مسحة عنصرية لا تخطئها العين، لتوحيد الأقباط، فكان طبيعيّاً أن تكون مقولة يوحنا المعمدان: "مهّدوا الطريق لقدوم الربّ" شعاراً لها. 

طيلة حكم محمد علي لم تعرف مصر حوادث طائفية خطيرة
فرضت الجماعة على أعضائها اشتراكات مالية، وهو ما ساهم في تقوية شوكتها، ونجحت في إشهار نفسها كجمعية أهلية، وشرعت في مخاطبة رئيس الجمهورية آنذاك، اللواء محمد نجيب، بشأن ضرورة إعلان إجراءات دستورية تنصف الأقباط، وزاد نفوذ الجماعة بشكل ملحوظ في الأوساط والدوائر النخبوية القبطية، في ظلّ تردّي حالة الكنيسة، وغضّ الدولة بصرها عمّا يحدث باعتباره شأناً قبطيّاً خاصاً.

يبدو تأثّر جماعة الأمة القبطية بحركة الإخوان المسلمين جليّاً كما يبدو نزوعها نحو تكريس حالة من الانفصال بين الأقباط شديد الوضوح

في 25 تموز (يوليو) 1954، تطورت الأحداث بشكل لم يتوقّعه أحد، مع قيام خمسة مسلحين من أعضاء جماعة الأمة القبطية، باقتحام المقرّ البابوي بالقاهرة، واختطاف البابا يوساب الثاني، في حادثة هي الأولى من نوعها؛ حيث جرى اقتياده إلى دير الأنبا بيشوى بوداي النطرون، ووقّع هناك، تحت تهديد السلاح، وثيقة تنازله عن الكرسي البابوي، وأعلن التنظيم عن تعيين مطران المنيا بطريركاً مؤقتاً لإدارة شؤون الكنيسة، مع تحذير الدولة من التدخل في الشأن الداخلي للأقباط، وهو الأمر الذي قابلته الأجهزة الأمنية، بعد استيعاب الصدمة، بنوع من الإجراءات الصارمة؛ حيث تمّ تحرير البابا يوساب، وإعادته إلى مقرّه، مع تعقّب أعضاء التنظيم، وتوقيف عددٍ كبيرٍ منهم أمنياً.

اقرأ أيضاً: "الإخوان" والأقباط
واصلت الأمور تدهورها على نحو خطير؛ ففي 20 أيلول (سبتمبر) 1955، قام عبد المسيح باشا، أحد أعضاء التنظيم المتهمين في قضية الاختطاف، بمحاولة فاشلة لاغتيال الأنبا يوساب الثاني، وهو ما دفع المجمع المقدّس إلى التدخّل بشكل حازم لمنع تدهور الأمور، فقام بعد أسبوع من محاولة الاغتيال الفاشلة، بتعيين لجنة ثلاثية من الأساقفة، للقيام بأعمال البطريرك، والذي اختار الإقامة في دير المحرق، ومن هناك حاول العودة إلى المقر البابوي من جديد، مع التعهد بإبعاد البطانة الفاسدة، وعلى رأسها ملك جرجس، لكن المجمع المقدّس رفض بإصرار، وبعد وقت قليل دخل البابا في أزمة صحية، توفَّى إثرها، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1956، ليسدل الستار على صفحة حزينة من تاريخ الكنيسة القبطية.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية