ما الذي يجعل من الفرد فقيراً مهما امتلك؟

ما الذي يجعل من الفرد فقيراً مهما امتلك؟


11/08/2019

"المستقبل الذي نتمنّاه لأطفالنا هو المكانة التي نريد لهم أن يحتلّوها"، هي جملة تدور على لسان معظم الأسر، ولهذا تأخذ تربية الطموح، دور العمود الفقري في جسمنا الاجتماعي، ولكنّ نسبة النجاح في الشهادة الثانوية العامة بفرعيها؛ العلمي والأدبي، في مجتمعاتنا، قد تضعنا وجهاً لوجه أمام مأزقٍ تربويٍّ خطير، هذا إذا ابتعدنا عن قراءتها حسابياً، واقتربنا من واقع هذه النسبة.

اقرأ أيضاً: المناخ يتسبب بفصل عنصري بين الفقراء والأغنياء.. كيف ذلك؟

إذا تفحّصنا نسبة النجاح لهذا العام في سوريا، على سبيل المثال، والتي زادت على الـ50% قليلاً، سنجد أنّ 10% فقط ممّن نجحوا، سيحظون بفرصة تحقيق الطموح الذي رُسِم لهم أو اختاروه، أما الـ40% من الناجحين، فستُحدِّد الدرجة مصيرهم، وحصيلة ذلك أنّ هناك 90% (40% من الناجحين، و50% من الراسبين) لم يسعفهم الطموح لينالوا المكانة المبتغاة، ألا تشير هذه النسبة الجديدة إلى خللٍ، يضع المكانة التي نرسمها لأطفالنا، والطموح الذي نشحنهم به موضع شبهة وتساؤل؟ وبالتالي إعادة النظر قي شكل تعاطينا مع هذين المفهومين؟

القلق على المكانة خبيث إلى حدّ يجعله قادراً على إفساد مساحات شاسعة من حياتنا خشية فشلنا بمجاراة قيم النجاح

في كتاب "قلق السعي إلى المكانة" يُعرّف "آلان دو بوتون" المكانة على أنّها "موقع المرء في المجتمع، وتشير إلى قيمة المرء وأهميته في أعين الناس"، وبالطبع هذا ما سيولد القلق على المكانة والذي يعرّفه أنه "قلقٌ خبيث إلى حدٍّ يجعله قادراً على إفساد مساحات شاسعة من حياتنا، خشية فشلنا في مجاراة قيم النجاح التي وضعها مجتمعنا، وخشية أن يتم تجريدنا نتيجةً لهذا الفشل من شرف المنزلة والاعتبار"، وبناءً على ذلك أصبح النجاح قيمةً بحد ذاته، يلغي المعطى الإنساني أو يجعله بأحسن الأحوال مشروطاً، طالما أنّ الاعتراف بالإنسان لا يتم من دونه.
منذ هذه اللحظة، يبدأ مشروع التلقين الطويل، والتحضير الشفهي لإعداد طبيب ومهندس الأسرة، والإمكانات التي كان يمكن لها أن تتفتح، تذبل أمام عدم الجدوى من دراسة ما يحقق مردوداً اقتصادياً أقل، أو مالا يدرّ دخلاً يُعترف بوزنه الاجتماعي، فلا نجد من يتمنى أن يصبح طفله معلماً كما في السابق، وذلك لتدني مكانة المعلم في مجتمعاتنا حالياً، خاصةً أنّ المكانة أصبحت مشروطة بالثروة، الثروة التي تُحقَن في وعي الطفل بمحلول الطموح، ولكن هذا الطموح سيجفف الاختلاف بما يحمله من تنوع، وسيجعل من عالم الصور القائم على التفاضل والمقارنة والمنافسة، العالم الوحيد المتوفر، الطموح الذي سيجعل من الإنسان فقيراً مهما امتلك.

اقرأ أيضاً: هل يؤثر الفقر على قدرة الطلبة على التعلم؟

إنّ ما يتم تكريسه اجتماعياً هو تقديس المكانة (العالم مقامات)، ولكن ما الذي يجعل للمكانة كل هذه الأهمية؟ المكانة والمنزلة تؤسسهما سلطة لم تنفصل حتى اليوم عن مفهومي الغلبة والقهر، وهما من يضمنا بقاءها واستمرارها، ويؤسسان لعقد النقص والدونية، ولهذا ننفق حيواتنا في التنافس على أمكنة لا تناسبنا، إنّ أيّة مكانة اليوم أو منزلة تعكس بوضوح النزوع المادي والسطحي للمجتمعات، النزوع الذي تثوي في قاعه مصادر العنف والتطّرف؛ فالمكانة التي تنحي القيمة الإنسانية، ستربي قيماً مضادة تهلل للأقوى والأفضل.

نشير لطفل واحد ونقول للآخر انظر كم هو ذكي كن مثله هكذا نزرع بأطفالنا بذور الحرب والقتال مع الجميع

يقول شوبنهاور:"نحن نتخلّى عن ثلاثة أرباع أنفسنا، لنصبح مثل الآخرين". ورغم أنه لم يحدد مركز التماثل الذي يجمع الآخرين، لكنه أشار إشارةً ذكيةً إلى  تنازلٍ طوعي عن الذات، كما أنّه ترك بفطنةٍ مصير الربع الأخير من أنفسنا غامضاً، لنكتشف حماقة أنّ هذا الربع أنفقناه في سباقنا مع الآخرين، دون أن نسأل أنفسنا: "هل ما نرغب فيه هو حقاً ما نحتاج إليه؟ وهل ما نخشاه هو ما يدعو حقاً للخوف"، بتعبير آلان دو بوتون، فليس المهم في رأيه هو "ما نبدو عليه في أعين جماعة عشوائية من الناس، بل ما نعرف نحن أننا عليه في داخلنا".

إنّ حقيقة ما نرغب به يشكّل عقبةً أمام أن نكون، لأن "الإصرار السيكولوجي، بحسب باشلار، أقوى في الوهم  منه في الواقع"؛ أن نصبح مثل الآخرين أو أفضل منهم، كلاهما يقود بنفس الشدة والاتجاه نحو (الغيرة والحسد) اللذين ينبعان من شعور النقص والدونية، وطالما أنّ شعوري النقص والدونية هما مركزا رغباتنا، فليس بالإمكان أن تتفتح زهرة أن نكون معاً، فنحن دائماً سنتعلم ونُعلّم أن نقف ضد بعضنا البعض، وليس علينا بالتالي أن نستهجن من كون هذا العالم الذي صنعناه، حلبة سباق أو صراع.

اقرأ أيضاً: تقرير صادم يكشف عدد الفقراء في تركيا في ظل حكم "العدالة والتنمية"

أعتقد أنّ كثيرين منّا قد شاهدوا لوحة "الطفل الراسب والكلب" للفنان الروسي "ريشيتنيكوف"، ويبدو أنّ هذا الفنان استطاع أن يعكس النسق السيكولوجي العميق للأسرة، فالكائن الوحيد الذي تعاطف مع الطفل الراسب، كلب العائلة الذي لا تعنيه الأحكام التي تصوغ العلاقات، بينما وجوه أفراد الأسرة أبدت امتعاضاً وازدراءً من فشل طفلها، إنه مشهد  يتكرر كثيراً في مجتمعاتنا؛ حيث يفتقد فيه أطفالنا إلى حبّنا وتعاطفنا وتفهمّنا، سيقف من فشل منهم  مكسوراً في الزوايا الضيقة، يشعر بالمهانة التي عرّفها "بودوتون": "أنّها وعي حارق بعجزنا عن إقناع العالم  بقيمتنا، ومن ثم يحكم علينا بالنظر إلى الناجحين بمرارة وإلى أنفسنا في خزي".

المقارنة وما ينتج عنها من طمس أي اختلاف ينمّي طموحاً مشحوناً بكل أنواع الغيرة والحسد وعقد النقص والدونية

فعل المقارنة وما ينتج عنه من طمس أي اختلاف، ينمّي طموحاً مشحوناً بكل أنواع المنافسة والغيرة والحسد وعقد النقص والدونية، ففوز السلحفاة على الأرنب في القصة التي نعرفها جميعاً، هو انتصارٌ للوهم على الواقع؛ فالمنافسة بينهما ليست سوى صنيعة عقلٍ يرى الفرق ولا يرى الاختلاف، عقل ينصبّ على التفاضل لا على التواصل، لم تطمح أية سلحفاة على الإطلاق أن تسبق أرنباً إلا في القصة. القصة التي أسست في لاوعينا أنّ الاختلاف مصدراً للصراع وليس للتكامل، نقلناها إلى عالم الواقع، وقذفنا بأطفالنا كالسهام، بعد أنّ زودناهم بالنشاط المحموم والمشوش تجاه ما نطمح نحن إليه.

اقرأ أيضاً: فيلم "أولاد الفقراء".. عندما بشّر يوسف وهبي بثورة البسطاء

طموحنا هذا لم يخلق، كما رأى "أوشو"، سوى عالم مليء بالمعارك والصراعات. ففي كتابه "ثورة في التربية" يخبرنا أنّ "جميع دول العالم تتقاتل؛ لأن الأطفال لم يتعلموا شيئاً سوى القتال، لم نعلمهم الحب، غذينا فيهم الحسد والغيرة، نحن نشير إلى طفلٍ واحد ونقول للآخر: انظر كم هو ذكي كن مثله، هكذا نزرع في أطفالنا بذور الحرب، بذور القتال مع الجميع". وبذلك بدل أن يكون التعليم مرافقاً للنمو والحب والتفرد، كان مرافقاً للطموح والمنافسة والصراع مع الآخرين، ربما هذا ما جعلنا نبتعد كثيراً عن جملته "كل شيء يمكن أن نتعلمه حين نحبه"، ونزج بأطفالنا في معركة خاسرة هم ليسوا طرفاً فيها.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية