كيف اختلفت رؤية الفقيه والفيلسوف للموسيقى؟

كيف اختلفت رؤية الفقيه والفيلسوف للموسيقى؟

كيف اختلفت رؤية الفقيه والفيلسوف للموسيقى؟


18/06/2023

يستقرّ في وجدان كثيرين أنّ الدين حرّم الموسيقى والغناء، وتزخر المدوَّنات الحديثية والفقهية، عموماً، بما يؤيد ذلك التحريم، سواء من خلال الأحاديث النبوية المختلفة، أو من خلال آراء جمهرة كبيرة من الفقهاء، ولا سيما الفقهاء الأربعة؛ أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، فكلهم اتفقوا على تحريم الغناء والموسيقى تحريماً قاطعاً، واشتدّوا في ذمّهما، وذمّ من يباشرهما أو يسمعهما، رغم أنّ بعض تلاميذهم تردّدوا في تلك المسألة؛ فمنهم مَن وافق على التحريم، ومنهم مَن تخفّف فقال بالكراهة، ومنهم من تساهَل فأباحه دون اصطحاب آلات ومعازف، وفي الحالات كلّها؛ كان التحريم أو الكراهة أو الإباحة، فقط، وَفق أحاديث منسوبة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، أو أقوالٍ منسوبة إلى بعض الصحابة، رضي الله عنهم، ذلك أنّ القرآن الكريم لا توجَد بين آياته آيةٌ واحدةٌ، محمولة على الحقيقة أو المجاز، تشير إلى الموسيقى أو الغناء، رغم أنّ كليْهما كانا مع العرب من "الترنيمة في المهد إلى المرثاة في اللحد" (العقد الفريد: 3/ 176، الأغاني: 19/ 87)، فللموسيقى دورٌ في تذوّق معاني الشعر، وقد كان الشعرُ ديوانَ العرب، وذاكِرَتهم، وتاريخهم، ومصدرَ تميّزهم.

يأتي الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" كأحد أشهر الفقهاء الذين دافعوا عن الغناء والموسيقى بشروط

كانت الموسيقى، إذاً، جزءاً أصيلاً من حياة العرب الاجتماعية قبل الإسلام، لكن مع ظهور الإسلام وانتشار دعوته ظهر ما يعكس النزعة التحريمية الشديدة تجاهها، وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أنّ مَردّ ذلك هو تأثُّر العرب، بعد الإسلام، بالعبريين والفينيقيين الذين تشدّدوا في قبول الموسيقى والغناء، فانتشرت هذه الروح في بلاد العرب، فيما ذهب البعض الآخر إلى أنّ "لاهوتيي العصر العباسي" كان لهم دورٌ مؤثر في نشر روح التحريم؛ لأنّهم حسدوا أهل الموسيقى والغناء لما لقوه من تشجيع عظيم من قِبَل الخلفاء! (هنري فارمر، تاريخ الموسيقى العربية، ص 33).
الموسيقى لدى الفقيه
نظرة الفقهاء إلى الموسيقى والغناء لم تلتفت إلّا إلى النّص المغلَق، دون أدنى اعتبار لكونهما فطرة بشرية، ونزعة إنسانية وجمالية، ولمّا لم يجدوا في القرآن الكريم آية تشير إلى التحريم، أو حتى الكراهة، التفتوا إلى الأحاديث، لإقصاء الموسيقى والغناء من حقل الثقافة الإسلامية كلّها، واستئصال أيّة رُوح فانية يحاول المسلم التعلق بها، وتغصّ المدونات الفقهية بعشرات الأحاديث التي تحرّم الموسيقى، وتتوعد من يباشر الغناء أو العزف بالعذاب والويل، حتى أنّ ثمة أحاديث تؤكّد أنّ انتشار الغناء والموسيقى من علامات الساعة (نهاية العالم).

الموسيقى لدى الفلاسفة صناعة وعلم احتلت الترتيب الخامس في سلّم العلوم الرياضية

ومن الغريب أنّ ثمّة أحاديث تبيح الغناء والموسيقى، وهي إن لم تكن كثيرة كأحاديث التحريم، وإن لم تكن تحمل من شروط الصحة والقبول كما تحمل أحاديث التحريم، بيْد أنّها تُعدُّ مؤشراً فارقاً يؤكّد أنّ قضية التحريم ليست نهائية أو قطعية، خصوصاً أنّ فهم النص المؤسس، وهو القرآن الكريم، فهماً مفتوحاً، ينفي التحريم تماماً؛ فالزهري وابن جريج يُنقَل عنهما أنّهما يفسران قول الله تعالى: {يزيد في الخلق ما يشاء} (فاطر: 1)؛ بأنّه "الصوت الحسن"، كما أنّ ذمّ الله لصوت الحمير في الآية: {إنّ أنكرَ الأصواتِ لصوتُ الحمير} (لقمان: 19) يُعدُّ، بمفهوم المخالفة، دليلاً على مدح الصوت الحسن. 

اقرأ أيضاً: مشايخ في سماء الطرب والموسيقى
ويأتي الفقيه الشافعي والمتكلم الأشعري، أبو حامد الغزالي (ت 505هـ)، في كتابه الأشهر "إحياء علوم الدين" (الجزء الثالث)، كأحد أشهر الفقهاء الذين دافعوا عن السماع (الغناء) والموسيقى، لكن بشروط معيّنة، كأن لا تكون آلة العزف من شعار أهل الشرب والمخنثين، وهي المزامير والأوتار، أو أن تغلب على المستمع الشهوة، أو أن يكون المغنّي امرأة لا يحلُّ النظر إليها، وتُخشَى الفتنة من سماعها، أو أن يكون المغنِّي أمردَ، ثم تتبع أدلة تحريم الغناء وأبطلها لضعف نسبتها إلى الرسول، صلى الله عليه وسلّم، وإلى صحابته، رضي الله عنهم، أو لضَعْفِ الاستدلال.

اقرأ أيضاً: هل كان زرياب المبدع الأول لموسيقى الروك آند رول؟
قصارى القول؛ لم يكن تحريم الموسيقى والغناء مسألة قطعية لدى جميع الفقهاء؛ لأنّه لا يوجد نصّ صريح في ذلك، ولم يرد التحريم في القرآن الكريم، تصريحاً أو تلميحاً؛ لذلك قال الشيخ حسن العطار (ت 1835م)، شيخ الأزهر الأسبق: "من لم يتأثر برقيق الأشعار، تُتْلَى بلسان الأوتار، على شطوط الأنهار، في ظلال الأشجار، فذلك جِلْف الطبع.."!
الموسيقى والعلاقة الخاصة مع الفلاسفة
الموسيقى لدى الفلاسفة صناعة/ علم، فاحتلت الترتيب الخامس في سلّم العلوم الرياضية، لذلك كانت ضرورة معرفية، إلى جانب علوم الفلك والهندسة والحساب، لكلّ مَن يحب الحكمة ويروم التفكر والنظر في الكون، فهي مرتبطة بالكون وحركة القمر والأجرام السماوية، ومن أهم آثار فيثاغورس (572- 497 ق.م)؛ أنّه برهن على أنّ قوة الأصوات تابعة لطول الموجات الصوتية؛ فالأنغام تقوم خصائصها بنسَب عددية، ويُترجم عنها بالأرقام، فوَضَع الموسيقى علماً بمعنى الكلمة بإدخال الحساب عليها، ولا شك أنّ دراسته الأعداد والأشكال والحركات والأصوات وما بينها من تقابُل عجيب، وقوانين ثابتة، كان عاملاً رئيساً للانتباه إلى ما في هذا العالم من نظام وتناسب، لذلك اعتقد فيثاغورس أنّ الموسيقيَّ يتلقى فنه وإبداعه من ربات الفنون أو الجنّ، وهو تلقّ يشبه "الوحي"، فليس للإنسان دخلٌ في اكتساب هذا الفن، وهو ما يختلف عن نظرة أبي نصر الفارابي (ت 339هـ) الذي يرى أنّ الموسيقى صناعة مكتسَبة، وتجريبية، وقد كان اهتمامه بالموسيقى سمة امتازت بها فلسفته، ويُعدّ كتابه (الموسيقى الكبير)، الذي وصلنا كاملاً، إبداعاً خاصاً في مجال الموسيقى، ومن قبله أبو إسحاق الكندي (ت 295هـ)؛ الذي ظهر على يديه أول تدوين موسيقي عربي، في رسالته: "رسالة في خبر تأليف الألحان"؛ إذ استعمل، للمرة الأولى، الحروف الأبجديّة والرموز، وابتكر سلّماً موسيقياً من اثنتي عشرة نغمة، كما اقترح إضافة وتر خامس للعود، وتوصّل إلى ما تُحدِثه الموسيقى من أثر في نفس الإنسان والحيوان.

اقرأ أيضاً: مواجهة عبر الموسيقى بين التشدد والاعتدال
لقد كان للموسيقى ارتباطٌ قوي بالفلسفة والفلاسفة، وطوال تاريخ الفلسفة الإسلامية، منذ الكندي إلى ابن رشد (ت 595هـ) كانت الموسيقى حاضرة كأحد أبرز فروع العلوم الرياضية، وزاولها معظم الفلاسفة المسلمين، بل كانوا يتفاخرون بذلك، ويكفي أنّ ابن سينا (ت 427 هـ) صنّف فيها رسالةً يعالج فيها "تنوع النغمات في السلم الموسيقي، بأبحاث رياضية بحتة"، ملتفتاً إلى كونها أحد علاجات النفس البشرية من بعض الأمراض.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية