التغيّر المناخي يعيد تشكيل خريطة العالم والطبيعة البشرية

التغير المناخي

التغيّر المناخي يعيد تشكيل خريطة العالم والطبيعة البشرية


25/08/2019

في آب (أغسطس) من كلّ عام، تحلّ ذكرى حادثتي "هيروشيما" و"ناغازاكي"، باعتبارهما أول الكوارث النووية، التي قررّ الإنسان ارتكابها بمحض إرادته.

اقرأ أيضاً: كارثة عالمية محتملة.. تغير المناخ قد يشكل "تهديداً للوجود" بحلول عام 2050
وما يميز الذكرى الـ 74 لهذا العام أنها تأتي بالتزامن مع حدوث تسرّب إشعاعي في روسيا، أعاد إلى الوجدان شبح "تشيرنوبيل"، الذي لم تُشفَ منه الأرض بعد، وكذلك حرائق الأمازون التي تلتهم الغابات في البرازيل وبوليفيا وبيرو وإكوادور وكولومبيا وفنزويلا وغويانا الفرنسية.
تتصادف أيضاً كلّ الوقائع مع صيحات علماء البيئة بخطر التغيّر المناخي، الذي يهدّد العالم، ولكن لا استجابة؛ فهل بات بقاء الجنس البشري مرهوناً بالقرارات السياسية الجادة؟

غلاف كتاب "الانقراض السادس: تاريخ غير طبيعي" للأمريكية إليزابيث كولبرت

العدّ التنازلي

عام 2015؛ أطلقت المؤلفة العلمية الأمريكية المشهورة، إليزابيث كولبرت، كتابها الأكثر رواجاً "الانقراض السادس: تاريخ غير طبيعي"، والذي تصدر قائمة صحيفة "الغارديان"، ضمن أفضل 100 كتاب غير قصصي، لعام 2016، أوضحت إليزابيث من خلال مؤلَّفها؛ أنّ الأرض فعلياً بدأت انقراضها السادس، والذي بحسب علماء الإيكولوجي الأول المتسبّب به الإنسان، فقد تعرضت الأرض سابقاً لخمسة انقراضات جماعية، أدت لفناء أجناس كاملة عاشت على الكوكب، وتعرّف إليها العلماء حديثاً بواسطة حفرياتها المتبقية، وقد لاقى كتابها في هذا الصدد انتشاراً، لما تطرحه الكاتبة من قضايا الصراع بين الإنسان والطبيعة، فقديماً؛ لم يتقبل العلماء فكرة أنّ هناك أجناساً بأكملها انتهت من الأرض بفعل التغير المناخي، ولكن بات أمر الانقراض، اليوم، يهدّد الوجود الإنساني برمّته، وحالياً؛ فإنّ العالم بصدد إعادة تشكيل لخريطة الكوكب تحت تأثير التغير المناخي، انطلقت تلك الفكرة من كتاب "مدار الفوضى: تغير المناخ والجغرافيا الجديدة للعنف"، والذي حاول الأمريكي، كريستيان بارينتي، من خلاله أن يقدم دلالات واقعية على الدور الذي يلعبه التغير المناخي في تكوين بؤر العنف والصراعات في العالم الحديث؛ من إفريقيا وحتى أواسط آسيا، وعلى سواحل أمريكا اللاتينية.

ما نراه يومياً في الأخبار والصحف من مجاعات وموجات الجفاف والتصحر والأعاصير ليس إلّا تأثير احترار الكوكب

عام 2008؛ ألقى نائب مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية، البروفيسور توماس فينغار، محاضرة في الكونغرس، حول التأثيرات العسكرية لتغير المناخ، موضحاً أنّ تحديات الأمن الغذائي، وأسباب متعلقة بالندرة والقدرة الشرائية المنخفضة، ستثير قلاقل في إفريقيا وأنحاء أخرى من العالم  الثالث، مرجّحاً أنّه مع ضعف المساعدات الخارجية، ستتزايد الصراعات العرقية على ملكية الأرض، وستمنحها الولايات المتحدة الأمريكية لباساً دينياً وطائفياً، كي تبدو أكثر عنفاً، من هذا المنظور انطلق مفهوم جديد، أسماه كريستيان بارينتي "اقتصاد القمع الجديد"؛ حيث نشأت فكرة كراهية الأجانب، ورفضهم في المجتمع، ومع تطور سياسات التغير المناخي بدأت شبكة كبيرة من المصالح الطفيلية، مركزها الولايات المتحدة، في تشكيل إدارة عسكرية بفكر مغاير، تعمل على التفكك الحضاري العنيف، ومع تعدّد التقارير التي تقدمها استخبارات دول العالم الأول حول السيناريوهات المحتملة وعواقبها على تأثير التغير المناخي، يكون الملحوظ الأول هو انهيار الدول الهشّة، التي لا تملك آليات للدفاع عن وجودها الحضاري، بسبب ما سيقع عليها من أمراض وأوبئة ومجاعات، وفشلها في التعامل بجدية مع العواقب الناجمة عن احترار الأرض.

غلاف كتاب "مدار الفوضى: تغير المناخ والجغرافيا الجديدة للعنف"، للأمريكي كريستيان بارينتي

في قلب الكارثة

على مرافئ جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، منذ أكثر من أسبوعين، تُحتجز سفينة إنقاذ إسبانية، تقلّ أكثر من 150 مهاجراً غير شرعي من العرب والأفارقة، تمنعهم السلطات الإيطالية من دخول الأراضي الإيطالية، رغم قرار المحكمة الذي أمر بنزولهم، إلّا أنّ وزير الداخلية اليميني الشعبوي، ماتيو سالفيني، يعارض هذا القرار، لكسب مزيد من أصوات الناخبين في الانتخابات المقبلة لصالح حزبه اليميني، بعدما أصبح خطاب عداء وكراهية المهاجرين برنامجاً انتخابياً في حدّ ذاته، تعتلي أحزاب اليمين المتطرف الأوروبي لأجله سدة الحكم، فيما أعلنت الصين حالة الطوارئ القصوى، جراء إعصار مدمّر ضرب سواحلها، في العاشر من آب (أغسطس) 2019، أسفر عن مقتل العشرات، وجرى إجلاء أكثر من مليون مواطن من منازلهم، بمساعدة فرق متخصصة من الجيش الصيني، وهو الإعصار التاسع الذي يضرب الصين هذا العام، مدمراً أكثر من 1600 فدان من الأراضي الزراعية، ومئات المنازل، جراء سيول شديدة ضربت المدينة، كلّ تلك الشواهد تخبرنا أنّنا نعيش في قلب الحدث، ولسنا بعيدين عنه، فالمعركة بدأت منذ عقود، وتشتدّ عاماً تلو الآخر.

اقرأ أيضاً: المناخ يتسبب بفصل عنصري بين الفقراء والأغنياء.. كيف ذلك؟

طبقاً لورقة علمية نشرتها شبكة الإذاعة البريطانية "BBC"، عن هيئة الأرصاد الجوية الإنجليزية؛ فإنّ شهر تموز (يوليو) 2019، سيدخل التاريخ، باعتباره أكثر الشهور التي شهدتها بريطانيا حرارة؛ حيث جاءت في المرتبة الأولى، يليها العديد من دول أوروبا وإفريقيا وشبه القارة الهندية، فيما ذكر التقرير أنّ زيادة أعداد الأعاصير في العقود الأخيرة، وحدّتها، التي تصل حدّ الكوارث المدمّرة، هو نتاج لضغط الغازات الدفينة في أعماق المحيطات التي ارتفعت درجة حرارتها، خاصة في المحيط الأطلنطي، وقد أقرّت هذا الكلام أستاذة الهندسة الهيدروليكا البيئية، ورئيسة قسم الهندسة البيئية بمعهد بحوث ودراسات البيئة بجامعة عين شمس الدكتورة نهى سمير لـ "حفريات"، بقولها: إنّ "الحديث عن التغير المناخي بات محسوساً للجميع؛ فالأرض تحترّ بما لا يدع مجالاً للشكّ، وما نراه يومياً في الأخبار والصحف من مجاعات وموجات الجفاف والتصحر والأعاصير، ليس إلّا تأثير احترار الكوكب، الذي يشهد تضاعفاً في زيادة ثاني أكسيد الكربون، منذ عام 1900، أي بعد موجة الثورة الصناعية التي هي أحد أهم أسباب ما وصلنا إليه، وسط قرارات سياسية لا تراعي الطبيعة، ولا تستعين بخبراء البيئة لإشراكهم في تلك القرارات التي تؤثر على كلّ الكائنات الحية، لا البشر وحدهم".

الكوكب يشهد تضاعفاً في زيادة ثاني أكسيد الكربون منذ عام 1900

مكافحة التمرد لمناخ أفضل
"عندما تنخرط أمة في أزمة كبيرة، من المحتم أن تصبح تشاركية"، كان هذا تعليق وزير العمل البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية، إرنست بيفين"، بعد أن اتّحدت قوى الشعب البريطاني تحت غطاء القصف النازي،  وأصبحت تشاركية لدرجة أخفت الفوارق الطبقية بين الناس، وقد أدركت الولايات المتحدة هذا الدرس جيداً؛ لذلك ليس من الغريب أن يصبح جدول أعمال الملف الأمني الأمريكي متضمناً مكافحة التغير المناخي، ولكن في المرتبة الأولى تأتي مكافحة التمرد "COIN"؛ حيث إنّ تركّز بؤر الفقر والجوع التي تنتشر حول العالم النامي، تثير قلق الولايات المتحدة التي تملك ترسانة أسلحة متطورة أكثر من اللازم، ولكنّها تفضّل كفاح التمرد على إبادة عدوها التقليدي، وهو ما يقدمه كتاب "مدار الفوضى"؛ إذ تتركز جهود الأمن الأمريكي على إعادة تشكيل المجتمع وإزالة الروابط الاجتماعية الطوعية بين أفراده، يكمن ذلك في نشر الأصولية والإرهاب، وإقامة إصلاحات اقتصادية قد تبدو في ظاهرها تقدمية، لكنّها في الغالب لتبديد الأحلام الثورية التي يقدمها المتمردون، فمكافحة التمرد وإجهاض الثورات مهمة أسهل وأكثر تأثيراً من حرب نظامية يتّحد الناس إثْرها.

اقرأ أيضاً: فنان بريطاني يحارب التغير المناخي بالموسيقى

برزت تلك التقنية في غواتيمالا خلال الثمانينيات؛ حين دمّرت القوات الأمريكية 400 قرية هندية بأكملها، بمنتهى البساطة قُتلوا ودمِّرت منازلهم، واغتُصبت نساؤهم على مرأى ومسمع من العالم، وفي هذا الحلّ يكمن السرّ الأمريكي لمكافحة التمرد الذي سيعمل على إعادة تشكيل موازين القوى، والتي ستضرّ بمصالحها، فمكافحة التمرد تتمركز حول السكان، وهي أكثر جدوى من حرب نظامية تهدم المنشآت والمصانع ومؤسسات دولة فاشلة بدورها، ويأتي وصف عالم النفس الأمريكي والمتخصص في تأثير الحروب على الصحة العقلية، ديريك سامرفيلد، في كتابه "التأثيرات النفسية للصراع"، ومن خلال ملاحظاته حول أعداد الضحايا، وتوزيعهم الديموغرافي؛ حيث نسب القتلى من المدنيين في الحرب العالمية الأولى لم تتجاوز 5%، بينما بلغت في حرب فيتنام 80%، وفي الصراعات الصغيرة بمنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا بلغت أكثر من 90%، يتركزون في القرى الفقيرة، ومن خلال الترويع والإعدامات الجماعية أمام الناس، تضرب العلاقات الجماعية في مقتل، ويصبح الإنسان الضعيف تحت طائلة حالة من اليأس والإحباط وشلل المقاومة، ومن هنا استنتج سامرفيلد؛ أنّ السكان هم الهدف، لا الأرض، كما كان سابقاً.

كامل: في دولة بحجم مصر تعاني من الفقر المائي جاء التغير المناخي ليسبّب نقصاً أكبر في المياه

اقتصاديات العنف والمناخ الجديد
وفق آخر دراسة قدمها المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية في الولايات المتحدة، ونشرتها شبكة "CNBC"؛ فإنّه وإن كانت الأرض تحترّ، فإنّ احترارها يزيد بنسبة أكبر في أمريكا، الأمر الذي ستترتب عليه نتائج اقتصادية، تقلل من نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي بنسبة 10.5% بحلول عام 2100، والصين والاتحاد الأوروبي بنسبة 4.3%، ونوّه الباحثون في الدراسة إلى أنّ المدى القريب، بحدٍّ أقصى عام 2050، سيشهد انخفاضاً كبيراً في الإنتاج العالمي، بمقدار 0.04% سنوياً، معلقين أنّ نتائج وأرقام الدراسة ستطال الدول الغنية والفقيرة، الحارة والباردة على حدّ سواء، واتفقت مع هذا التحليل أستاذة الاقتصاد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، الدكتورة أمينة كامل، في حديثها مع "حفريات": "بالحديث عن التغير المناخي، أول ما يخطر ببال الاقتصاديين هي معدلات الإنتاج، رغم عدم صدور أيّة ورقة جادة من الدول العربية، إلّا أنّ الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة قدّما دراسات جادة، وتقرّ بانخفاض الإنتاجية".

اقرأ أيضاً: تغير المناخ: "العالم على مفترق الطرق"
وأردفت: "في دولة بحجم مصر، تعاني من الفقر المائي منذ عقود، جاء التغير المناخي ليسبّب نقصاً أكبر في المياه، فأبسط مقاربة يمكن تخيلها، حتى من غير المتخصّصين؛ أنّ المنتجات الزراعية ستستمر في النقصان، وستزيد الأسعار بالتوازي مع انخفاض القوى الشرائية، ما ينذر بكارثة غذائية على الأبواب، ومع انحسار الرقعة الزراعية نفسها، سترتفع درجات الحرارة، فالأمر دائرة مغلقة، يتطلب تكاتف الإرادة السياسية مع جهود علماء البيئة والاقتصاد لتحجيم العواقب الوخيمة، والتي تزداد حدّتها".

الصفحة الرئيسية