الرأسمالية إذ تتوحش: 1% من البشر يملكون 47% من ثروة العالم

الرأسمالية

الرأسمالية إذ تتوحش: 1% من البشر يملكون 47% من ثروة العالم


26/08/2019

ترتبط الرأسمالية ومفهوم رأس المال في القرن الحادي والعشرين بنتائج عديدة يسبغها المفكرون والباحثون والأفراد على الواقع؛ الرأسمالية منتجة لـ"اللامساواة"، ومعبرة عن الكساد الاقتصادي في حالات عديدة، وعن تكديس الثروات في أيادٍ أقل فأقل، بصورةٍ متكررة، كما أنّه لم يعد مقنعاً أنّ أثرها ينحصر في مجال السوق والحياة الاقتصادية فقط.

اقرأ أيضاً: "معركة الإسلام والرأسمالية": هكذا قدم سيد قطب حلوله الاقتصادية
الرأسمالية، المؤثرة في الطبقات، كما يرى ماركس، والتي تسبّبت في العديد من التغيرات الاجتماعية، أصبحت اليوم ضمن سياق تشكلاتها التاريخية، عاملاً أساسياً في مظاهر الاستعمار والعبودية والإفقار التي شهدها التاريخ، والسيطرة على الأسواق من قبل شركات كبرى تمتص صغار المنتجين وتدفعهم إلى الانقراض مثلاً.
يؤكد كثيرون باختصار؛ أنّ الرأسمالية متوحشة، لكن لا بدّ من اقتفاء أثر هذا التوحّش المقبول، الذي ليس إلا نمط حياة موجوداً وقائماً، له مبرراته ومبرّروه، والثائرون ضدّه بطريقة أو بأخرى.

الرأسمالية واللامساواة
"إنها جذورٌ غريزية"؛ هكذا يصف مؤسس علم الاقتصاد الكلاسيكي، وصاحب الكتاب الشهير "ثروة الأمم"، آدم سميث، جذور نشوء الأسواق ورأس المال، كما أنّ سميث رأى من خلال كتابه؛ أنّ "الإنسان اقتصادي بطبيعته، وأنّ له مصلحةً شخصيةً في المقايضة، ومن ثمّ تبادل السلع من أجل استعمالها وإرضاء حاجته إليها، أو قضاء تلك الحاجات، ولكلّ البضائع أو المنتجات أو الأشياء الثمينة قيمة استعمالية (كشراء آلات معينة مثلاً) أو قيم تبادلية، كالذهب الذي لا يحمل قيمة في استعماله لكن يمكن استبداله ببضائع كثيرة باعتباره ثميناً".

لا توجد نظرية أو قاعدة ثابتة من أجل تقييم وضع الأسواق ورأس المال بالنسبة إلى الأطراف الفاعلة فيها

آمن سميث، بما كتبه في سياقه التاريخي (القرن الثامن عشر)، وأكّد على ضرورة انفتاح الأسواق وخروجها عن سيطرة الحكومات، وعلى حرية رأس المال في التبادل، وبالتالي حرية الأفراد في أسواق حرة، يحقّ لهم عرض وطلب البضائع وغيرها، وهو حقّ متساوٍ للجميع.
ولعلّ ما طرحه سميث مميز في سياقه وجميل، ويكمن جماله في كلمة الحرية، التي تعني فتح باب الحرية الفردية من أجل المساهمة بعدالة في الأسواق والأفكار وكلّ شيءٍ آخر، إلا أنّ هذا الطرح تنقصه واقعية الأسواق نفسها؛ ففي حين أنّ لكلّ شخصٍ الحق في المشاركة في الأسواق وعرض منتجاته مثلاً، فإنّه في المقابل قد لا يتمكن غالباً من منافسة كبار المنتجين (الشركات الكبرى) التي تتحكم باحتكار البضائع وبأسعارها وبأشياء عديدة أخرى، وبالتالي إما أن يلتحق هذا المنتجُ الصغير بها، أو ينقرض.

خريطة العالم التي توسعت بالاكتشافات كانت خريطة ثروات محتملة

في الواقع، لا توجد نظريةٌ أو قاعدة ثابتة من أجل تقييم وضع الأسواق ورأس المال بالنسبة للأطراف الفاعلة فيها؛ فالمنتجُ الصغير يحمل رؤيته، والعامل يحمل رؤيةً مختلفة، فيما ترى الشركة الكبرى السوق من زاوية أخرى مختلفة، وبالتالي لا يمكن موضوعياً ولا واقعياً الحديث عن وجود مساواةٍ في طيات الرأسمالية.

اقرأ أيضاً: "من هنا نبدأ": الكتاب الذي اتُّهم بازدراء الدين والرأسمالية
وفي هذا السياق؛ يطرح عالم الاقتصاد الفرنسي، توماس بيكيتي، رؤيةً مميزة في كتابه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"، تقول في جزءٍ منها: إنّ "الرأسمالية تقوم على طرح الحرية وانفتاح الأسواق حول العالم، وتخفيض القيود على الإنتاج والاستهلاك عبر العالم، لكنّ مبدأ تراكم رأس المال ليس عملياً من ناحية تراكمه بِحرية؛ فهو محدود ويذهب لأفرادٍ قلائل معينين"، وهذا من شأنه أن يؤثّر على البنيان الاجتماعي والسياسي للمجتمعات، برأي بيكيتي، الذي يوضح أنّ النموّ الديموغرافي الكبير، والنزوح من الريف إلى المدن، مع بزوغ نجم الثورة الصناعية، أحدث تطوراتٍ كبيرة على توزيع الثروات.

الفقر ليس مشكلة خارجة عن إرادة الرأسمالية بل يقع الإفقار وإبقاء الموظفين الصغار وصغار المنتجين على حالهم في لبّها

لكنّ هذه الرؤية التي تشكّلت في سياق التطورات خلال القرن الثامن عشر، ومطلع القرن التاسع عشر أيضاً، تأتي مقرونةً بمبادئ أخرى، جعلت من مسألة توزيع الثروات مضادةً للمساواة؛ إذ يأتي مبدأ الندرة مثلاً، المشترك بين اثنين من أهم اقتصاديي القرن التاسع عشر، وهما ديفيد ريكاردو وكارل ماركس؛ حيث رأى ريكاردو "أنّ ملاك الأراضي، ومن بعدهم الصناعيون الرأسماليون لدى ماركس، سوف يطالبون بنصيبٍ متزايد من الدخل" وفق كتاب بيكيتي.
بالطبع، لا تحتاج مقولات ماركس وريكاردو في هذا الشأن إلى إثباتات، فمنذ اكتشاف العالم الجديد (أمريكا) في القرن الخامس عشر، أخذ الأوروبيون مسألة مراكمة ثروات العالم الجديد كمسألة بقاء الدائنين، التجار، الباحثين عن المواد الخام، كالذهب والفضة وغيرها، وحتى الزراعيين، والباحثين عن احتكار الأراضي، انفلتوا من أجل السيطرة على مصادر الثروة تلك، لكن عملية السيطرة هذه احتاجت إلى أدوات، ليست المعرفة والتقنية آخرها؛ بل الاستعمار والاستعباد أيضاً، ففي حين كان سكان أمريكا الأصليون لا يهتمون بقيمة الذهب، كان المستعمرون الجدد مستعدين لإراقة الدماء في سبيله، ومن العديد من أنحاء أوروبا، أصبح التوسع الذي سمحت به علوم الجغرافيا وتطور صناعة السفن، والقدرة على الاستعمار والتنقل بسرعة بين القارات، مفتاحاً لمراكمة الثروات، حتى إنّهم كانوا يحضرون العبيد من إفريقيا مثلاً، والمواد الخام من أمريكا، بصورةٍ محمومة، دافعها التخوف من "تغير تركيبة السلطة والصراع المتزايد على توزيع الثروات في أوروبا؛ بسبب الزيادة الديموغرافية الكبيرة في أعداد السكان، إضافةً إلى ما "أوحت به الثورة الفرنسية من مطالباتٍ للمجتمعات بالحرية والمشاركة في الحكم والثروة" بحسب بيكيتي. وهو ما جعل الرأسمالية ترتبط إذاً، بصورةٍ مباشرة وغير مباشرة، بالاستعمار، والتوحش، واللامساواة.

عبيد جدد
العبودية أنتجت العنصرية، والعنصرية تنتج العنف، وهناك عوامل أخرى، منها الفقر الذي يغزو المجتمعات لأسباب اقتصاديةٍ غالباً، لكنّ الحديث عن كلّ المشاكل الاجتماعية التي ينتجها الفقر، لا يعني أنه مشكلةٌ خارجة عن سيطرة الرأسمالية، أو أنها تأتي بسبب عدم تطبيق بعض أفكار الرأسمالية بشكلٍ صحيحٍ مثلاً؛ بل وعلى العكس، يمكن القول: إنّ نوعاً جديداً من الفقر الحديث يتمّ التحكم فيه وتقنينه بصورةٍ عامة، وهو متعلقٍ بمسألة رأس المال مباشرةً، فالعمال والمنتجون الصغار وصغار الموظفين، الذين يعملون بشكلٍ دائم على إبقاء عجلة الإنتاج تعمل، لا يمكن لهم تطوير أوضاعهم المعيشية وتجاوز الأطر المُمَيزة لما يمكن عده طبقتهم الاجتماعية، إنّهم يحصلون على ما يبقيهم قادرين على العيش، والاستمرار في العمل بشكلٍ عام.

اقرأ أيضاً: "الرأسمالية في أمريكا" أو الجمهورية التجارية .. من سيهيمن في القرون القادمة؟
ويشكّل انقطاع الفرد عن العمل مشاكل أقلها الفقر بطبيعة الحال، لكنّ وجود مشكلةٍ تواجه الفرد حتى وهو يعمل، هي لبُّ ما تنتجه الرأسمالية من لا مساواةٍ وتوحّشٍ تجاه الفرد، كما يرى كثيرون. ففي كتابها "الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية"، ترى الاقتصادية البريطانية نورينا هيرتس؛ أنّ النيوليبرالية الجديدة التي صعدت منذ تولي مارغريت تاتشر السلطة، عام 1979، ووجود الرئيس الأمريكي رونالد ريغان في الحكم خلال تلك الفترة، ومن ثم الترويج عالمياً إلى حريةٍ لا مثيل لها للشركات والأفراد والمبتكرين في غزو أسواق العالم، لم "يحل أيّة مشكلة، فعلى الأقل زادت نسبة استثمار الدول الصناعية والرأسمالية الكبرى في العالم النامي، وبمعدلاتٍ بلغت 160 بليون دولار على الأقل، بينما أخذت نسبة المساعدات لتنمية هذه الدول (اقتصادياً بالتحديد) تقل إلى ما لا يزيد عن 40 بليون دولار سنوياً".

العبودية والعنصرية التي أسهمت فيهما الرأسمالية تستعادان بصور أخرى جديدة

وفي الفترة التالية لصعود النيوليبرالية، بدأ عصر رأسمالية تمثله وجوه عديدة على مستوى العالم، تذكر منهم هيرتس: الرئيس الأمريكي الأسبق، بيل كلينتون، الذي عمل برأيها للتركيز على "انفتاح الأسواق العالمية وحرية التجارة على حساب العدالة الاجتماعية"، وهذا ما يعزز المقولة القائمة على أنّ الرأسمالية غير مهتمةٍ بالديمقراطية خارج حدودها الاقتصادية، إن صحّ التعبير.
هذه الحدود الاقتصادية، ترسمها الدول الكبرى اقتصادياً، بحسب ما تراه هيرتس، وحتى بيكيتي فيما سبق؛ إذ إنّ الإجماع الرأسمالي النيوليبرالي الجديد، تمّ أخذه بعين الاعتبار في آسيا وأوروبا ومناطق أخرى من العالم، وهو لم يفضِ إلى أيّ تقدّم في اقتصاد العديد من تلك الدول (بعضها في العالم العربي)، لأنّ النموذج الرأسمالي الجديد لم يراعِ الفروقات "بين المؤسسات والشركات وطبيعة التنمية والخصائص الاجتماعية لدولٍ تختلف عن أمريكا مثلاً" وفق هيرتس.

اقرأ أيضاً: "الاستهلاك الحلال".. صفقة الأصولية الإسلامية مع الرأسمالية الأوروبية
في المقابل؛ ارتفعت قدرات الشركات الكبرى على السيطرة، والتحكم بالسياسة كأنها مجرد سلعةٍ أخرى للرأسمالية، وأصبحت مسائل العدالة الاجتماعية وقضايا المجتمعات المختلفة، مجرد قضايا جانبية في الحقيقة، يمكن الالتزام ببعضها انتقائياً؛ بل ويمكن تسليعها واستبدالها بالاستثمار العابر للقارات مقابل تقديم مساعداتٍ ودعم جمعياتٍ وأفراد بخصوص هذه القضايا، وبالنسبة إلى كثيرين، منهم الشباب في القرن الحادي والعشرين، يتم الحديث عن توحّش الرأسمالية، والعبودية الجديدة كون المرء عاملاً ومستهلكاً، بل يرى البعض أنّ الرغبة في رفع نسبة الكسب من العمل، وبالتالي الاستهلاك بصورةٍ أكثر رفاهية، مجرد سخرية، وليس حرية، في حين أنّ 1% فقط من البشر يملكون ما مقداره 47% من ثروة العالم.

التوسع الذي سمحت به علوم الجغرافيا وتطور صناعة السفن والقدرة على الاستعمار والتنقل بسرعة بين القارات مفتاح لمراكمة الثروات

هذه النسبة ليست خيالية، حين يسوق بيكيتي مثالاً موثقاً عليها، قائلاً: إنّ المدير التنفيذي في دار عرض أزياء أمريكية مثلاً "يجني من المال خلال أربعة أيام، المقدار نفسه الذي تجنيه عاملة النسيج (التي تجهز المادة الخام للملابس) في إحدى بلدان آسيا طوال عامٍ كاملٍ على الأقل"، في المقابل؛ تقوم هيرتس بتوثيقٍ حول تسليع مسألة حقوق الإنسان القابلة للتجاوز عنها مقابل التجارة؛ إذ تقول إنّ "استمرار الدعم الأمريكي لحركة طالبان ظلّ حتى عام 1997، رغم سجلها المخيف من القمع والعمل ضدّ حقوق الإنسان، وهذا الدعم، يرجع إلى أنّ شركة "unocal" الأمريكية وقّعت سابقاً صفقةً مع طالبان لبناء خطّ غاز كلفته بليونا دولار".

وببساطة؛ تستمر الرأسمالية بالتغول على القيم التي تدّعي أنّها تدعمها، في مجالات الديمقراطية والمساواة والحرية وسواها، ومن جهةٍ أخرى، لعبت الرأسمالية دوراً كبيراً في التحكم بسياسات العديد من الدول، بدءاً من مرحلة الاستعمار الكولونيالي، وليس انتهاء بما بعد الكولونيالية، كثيرون في العالم يفكرون في اللاعدالة، وآخرون يرون في شبح ماركس والاشتراكية، أملاً في التخلص من هذه العجلة الطاحنة التي لا تتوقف، أما فكرة النهايات؛ فهي مرهونةٌ بالنظر إلى الواقع، الذي غيرت فيه الرأسمالية الكثير، من بنى الأسواق والاستثمار في التكنولوجيا والمستقبل، وحتى التوجهات اليسارية، التي تفككت لأشكالٍ مختلفة، وأصبحت حركات مطلبية في قضايا حقوقية معينة في أفضل الأحوال، مما يوحي بأنّ الرأسمالية ليست مجرد نظام اقتصادي؛ بل حزمة من المشاكل الاجتماعية والسياسية والبيئية، لها غنائمها ومثالبها، التي لا يحصل عليها الجميع.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية