المسيحيون في المشرق.. ما أبرز التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟

المسيحيون

المسيحيون في المشرق.. ما أبرز التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟


27/08/2019

عرفت الطوائف المسيحية في المشرق، في العصر الحديث، تحوّلات متسارعة على مختلف الأصعدة، في مقدمتها الصعيد الاقتصادي وما تبع ذلك من تغيّرات اجتماعيّة، أما على صعيد الاندماج والثقافة فكان التحوّل الأبرز عبر الانتقال خلال عقود قليلة من موقع الريادة إلى حالة من العزلة والانكفاء.

القرن التاسع عشر.. كيف بدأت الريادة المسيحية في الاقتصاد؟
لأزمنة طويلة، تواجد المسيحيون بين المدن والأرياف؛ في الريف كان النشاط الأساسي هو الزراعة، وكما سائر الفلاحين، كانوا في معظمهم من غير ذوي المُلكيّات والثروات المهمّة، أما في المدن؛ فيشير المؤرخ اللبناني، وجيه كوثراني، في كتابه "بلاد الشام في مطلع القرن العشرين؛ السُّكان والاقتصاد"، إلى أنّ المسيحيين برزوا في الحرف اليدوية والصناعات التقليدية، وفي أعمال التجارة والمصارف.

اقرأ أيضاً: المسيحيون في السودان.. هل انتهت حقبة القمع؟
ومنذ القرن التاسع عشر، ومع تصاعد مستويات التجارة مع أوروبا، برز دور المسيحيين في المشرق عبر أداء دور الوسطاء التجاريين بين الشرق والغرب؛ فافتتحوا أولى مكاتب الاستيراد والتصدير، وفي هذا السياق ظهرت في مدينة ساحلية، مثل بيروت، عائلات مسيحيّة أثرت بسبب أداء هذا الدور، نذكر منها: آل سرسق، وآل طرّاد، وآل داغر.

برز دور المسيحيين في القرن التاسع عشر عبر أداء دور الوسطاء التجاريين بين الشرق والغرب

وفي الفترة ذاتها أيضاً، ازداد نفوذ الدول الأجنبيّة داخل الدولة العثمانيّة وازداد معه حضور وتأثير الإرساليات التبشيرية، والتي كانت، إضافة إلى الأهداف الدينية، تؤدّي أدواراً ومهمّات تتعلق بالصحة والتعليم، فأنشأت أولى المصحّات والمدارس والمطابع الحديثة في البلاد، ونظراً لتوجهها بشكلٍ أساسيّ إلى خدمة أبناء الطوائف المسيحيّة، فقد استفاد المسيحيون من هذه الخدمات والفرص أكثر من غيرهم، وخصوصاً فيما يتعلق بالتعليم؛ حيث أُتيحت لهم فرصة الانخراط في مؤسسات التعليم الحديثة، من المدارس والكليّات التي أسستها هذه الإرساليّات، كما "الكلية السورية البروتستانتية" التي تأسست في بيروت عام 1866، وأصبحت فيما بعد "الجامعة الأمريكيّة في بيروت"، أو "جامعة القديس يوسف" التي أسّسها الرهبان اليسوعيون عام 1875 في بيروت كذلك. وكان لذلك أثر كبير في إحداث نقلة اجتماعيّة - اقتصاديّة مهمّة لدى المسيحيين، فكانوا هم الروّاد في حمل الشهادات، ما ضمن لهم تحقيق الارتقاء الاقتصادي؛ فباتوا يشغلون مهن "الياقات البيضاء"، بما تشمله من مهن وأعمال ذهنية وإدارية غير يدوية، في المؤسسات العامة والشركات الخاصة الناشئة، في المقابل كانت نسب الأميّة ما تزال مكتسحة عند سائر سكان البلاد.

كان للإرساليات أثر كبير في إحداث نقلة اجتماعيّة - اقتصاديّة لدى المسيحيين

أما في مصر؛ فقد صعد الأقباط طبقياً على نحو بارز منذ عهد محمد علي باشا، مع توجهه لإحداث ثورة على صعيد المؤسسات والإدارة، استفاد منها الأقباط تحديداً، فكان منهم مسّاحو الأرض والصيارفة وكتبة الحسابات وجباة الضرائب، وارتفعت نسبة المخاتير وعُمَدْات القرى بينهم.

اقرأ أيضاً: روجيه غارودي: الإسلام والمسيحية والماركسية في قلب واحد
وفي عهد الاحتلال الإنجليزي؛ برز الأقباط ضمن النخب البرجوازية وطبقة كبار التجّار، كما استفادوا كذلك من الالتحاق بمدارس الإرساليات الأجنبية، وهو ما ساهم في تكوين طبقة وسطى قبطية، رغم بقاء نسبة مهمّة ضمن جموع الفقراء الفلاحين، ويورد الباحث المختصّ في التاريخ المصري الحديث، بول سيدرا، في بحث له عن الصراع الطائفي في مصر؛ أنّ إحصاءات العقد الأول من القرن العشرين كانت تشير إلى أنّ الأقباط كانوا يسيطرون على 20% من الثروة.
القومية والاشتراكية.. فقدان الامتياز
بعد حرب عام 1948 في فلسطين، وما نتج عنها وتلاها من صعود لأنظمة الحكم القوميّة والاشتراكيّة، وتحديداً مع ثورة تموز (يوليو) 1952 في مصر، اتجهت الأنظمة الثوريّة الصاعدة؛ في مصر وسوريا والعراق، نحو تطبيق سياسات التأميم والإصلاح الزراعي، ما أدّى إلى إفقاد المسيحيين في المشرق كثيراً من الامتيازات التي حازوها منذ أواخر العصر العثماني وخلال العهد الاستعماري، وأدّى إلى إلحاق الضرر بمكانتهم الاقتصاديّة.

صنفت مجلة "فوربس" عام 2007 ثلاثة أقباط ضمن أثرى عشرة مليارديرات في العالم العربي

ففي سوريا؛ وبعد أن كان العديد من المسيحيين من بين كبار ملّاك الأراضي والمستثمرين، حتى وصلت نسبة حيازتهم من الوكالات التجارية الأجنبية إلى 75% في منتصف القرن العشرين، بحسب ما يورده سمير عبده في كتابه "الطوائف المسيحية في سوريا"، لكنّ الدولة اتجهت، بعد ثورة الثامن من آذار (مارس) 1963، نحو السياسة الاشتراكية، ما أدّى إلى الإضرار بمصالح المستثمرين مقابل سيطرة الدولة.
وكان لذلك تأثيرات على مستوى الديموغرافيا؛ ففي مصر برزت بين الأقباط موجة للهجرة منذ الخمسينيات، وذلك رغم علمانيّة النظام الحاكم، وبعده التامّ عن ممارسة أيّة سياسات طائفيّة مباشرة، وتشير الإحصاءات إلى أنّه قد هاجر من الأقباط خلال الفترة (1960-2010) نحو (700) ألف، توجهوا بالأساس نحو الولايات المتحدة وكندا وأستراليا.
الانفتاح... عودة من جديد
مع التخلّي عن السياسات الاشتراكيّة، والاتجاه نحو الانفتاح الاقتصادي في مصر، بداية عهد السادات، استعاد المسيحيون جزءاً من سابق وزنهم من جديد، واستمرّ الصعود الاقتصادي للأقباط في عهد مبارك، الذي تميّز بصعود طبقة رجال الأعمال، وتضاعف حجم استثماراتها ونفوذها، وكان من بينهم العديد من الأقباط.

تشير التقديرات إلى أنّ المسيحيين في الأردن اليوم يمتلكون ويديرون نحو ثلث الاقتصاد

وتشير إحصائية رسميّة صادرة عن الحكومة المصريّة، عام 2007، في معرض الردّ على تصريحات لمدير منظمة العمل الدولية عن وجود تمييز ضدّ الأقباط، إلى أنّ الأقباط يمتلكون ما يزيد على ثلث إجمالي الثروة في البلاد، وذلك رغم أنّ تقديرات نسبتهم من السكان لا تتجاوز الـ 10% في أقصاها، وكانت مجلة "فوربس" الاقتصادية، عام 2007، قد صنفت ثلاثة أقباط ضمن أثرى عشرة مليارديرات في العالم العربي.
ويبرز اسم نجيب ساويرس كأحد أكبر رجال الأعمال المصريين الأقباط، وهو رئيس مجموعة أوراسكوم للاتصالات، ومجموعة أوراسكوم للتكنولوجيا، وكذلك شقيقه سميح ساويرس، رئيس مجموعة أوراسكوم للفنادق والتنمية، وتبرز من بين أشهر العائلات القبطية الثرية أسماء عائلات مثل: جبرة، وغبور، وساويرس، وسياج، وبشاي، وغالي، وأيوب؛ حيث تمتلك استثمارات كبرى في قطاعات المقاولات والسياحة والاتصالات والأسمدة والإعلام، وتجارة وكالات السيارات وقطعها، وغيرها، ولكنّ ذلك لا يعني أنّ الأقباط في مصر بعيدين عن الطبقات الفقيرة، فهناك نسبة كبيرة من الأقباط المقيمين في الريف، ممن يعملون في الزراعة، وما يرتبط بها من أنشطة تدرّ دخولاً متواضعة؛ إضافة إلى نسبة من المقيمين في المدن من العاملين في الوظائف الإدارية والتجارية الصغيرة، والحرف اليدوية البسيطة.

نجيب ساويرس أحد أكبر رجال الأعمال المصريين الأقباط

وفي سوريا؛ استفادت البرجوازيّة المسيحيّة كذلك تدريجياً، منذ عام 1970، مع اتجاه حافظ الأسد للتصالح مع البرجوازية عموماً، والاتجاه نحو التخلي والتراجع التدريجي عن نهج صلاح جديد الصارم في سياسات التأميم والإصلاح الاشتراكي.

اقرأ أيضاً: على نهج داعش.. الميليشيات الإيرانية تهدّد المكوّن المسيحي في العراق
في حين حافظ المسيحيون في الأردن على وضعية ومكانة اقتصادية مميزة، وذلك مع انتهاج الدولة نظاماً اقتصادياً حافظ على قدر من الانفتاح الاقتصادي، وتشير التقديرات إلى أنّ المسيحيين في الأردن اليوم يمتلكون ويديرون نحو ثلث الاقتصاد؛ بحسب تقرير نشرته صحيفة "الفاينانشال تايمز"، عام 2011.
وكان للوضعية الاقتصادية التي نالها المسيحيون في المشرق، ولارتقائهم إلى الطبقات الوسطى والعليا منذ القرن التاسع عشر، تأثيرات على النواحي الاجتماعية والديموغرافية، ومن ذلك الاتجاه والميل نحو تكوين أسر أصغر حجماً، مع الحرص على مستوى وجودة الحياة ونوعيّة التربية والتعليم التي يتلقاها الأبناء، وانعكس ذلك على تراجع نسب المسيحيين في المنطقة، وذلك بالنظر إلى تدنّي نسبة الزيادة الطبيعية لديهم بالعموم، ربما باستثناء الأقباط في الأرياف، عن نظيرتها لدى المسلمين.
الثقافة... من الريادة إلى الاندماج
على صعيد الثقافة؛ كان للمسيحيين في المشرق العربي دور كبير ومساهمة بارزة في حركة النهضة العربية، منذ بداياتها في القرن التاسع عشر، فكانوا في طليعة رواد الحراك القومي العربي، وبرز منهم عديد الأسماء في حركة النهضة الثقافية والأدبية، ومنهم: أحمد فارس الشدياق، وبطرس البستاني، وجرجي زيدان، وفرح أنطون، ونقولا حداد، وفيليب حتي، وقسطنطين زريق.

جمعت الحالة القومية التحررية المسيحيين مع المسلمين في سياق مشترك يغيب فيه التمييز

وفي مصر كذلك توفر مناخ من الحريات مطلع القرن العشرين، بعيداً عن سلطة الدولة العثمانية، وكان المثقفون المسيحيون، سواء المصريين أو القادمين من بلاد الشام، مساهمين في حركة النهضة الثقافية، واندمجوا مع المسلمين في أطر حركة وطنية جامعة، وخصوصاً مع تبلورها في مرحلة ثورة 1919 وما بعدها.
وبعد ثورة تموز (يوليو) 1952 في مصر اتجهت الدولة لتبنّي ثقافة متصالحة مع الإرث الديني بكافة تنويعاته، بما في ذلك الديانة المسيحية، وسجلت المرحلة (1952-1970) غياباً شبه تام لأي صدامات وفتن بين المسلمين والأقباط.
ولكن الدولة اتجهت إلى تقييد دور الإرساليات، وكذلك كان الحال في دول عربية أخرى، في مرحلة ما بعد الاستقلال، وذلك باعتبار النظر لها كامتداد للمرحلة الاستعماريّة، وكان تقييد دور الإرساليات ذا تأثيرات وتبعات اجتماعية، وذلك من حيث تبديد الامتياز الذي كان يحظى به المسيحيون من ناحية فرص التعليم والصحة، وتزامن ذلك التقييد مع توسّع في خدمات الصحة والتعليم التي تقدمها دولة ما بعد الاستقلال، وبالتالي اتجه المسيحيون إلى التساوي، أكثر فأكثر، مع سائر السّكان.

اقرأ أيضاً: كيف أصبح المسيحي كمال ترزي عكازة صديقه الضرير المسلم حاتم خريس؟
عموماً، اتسّمت مرحلة المدّ القومي وما صاحبها من صعود حركة التحرر من الاستعمار، بالاندماج المسيحي على مستوى النخب الثقافية والسياسية، ضمن الحركات التحررية، وكان من بينهم مؤسسون لأحزاب بارزة، مثل؛ جورج حبش، مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ونايف حواتمة، مؤسس الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وميشيل عفلق، أحد مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي، وأنطون سعادة، مؤسس الحزب القومي السوري.

قسطنطين زريق.. من أهم منظري الحركة القوميّة العربية

عهد الصحوة.. العُزلة والخوف من المحيط
لكنّ التحوّلات تسارعت في مرحلة ما بعد هزيمة، عام 1967، ومع تولّي الرئيس أنور السادات سلطات الرئاسة في مصر، بدأت سياسة دعم التيارات الإسلامية، وذلك في إطار مواجهته مع التيارات اليسارية والقومية، وتزامن ذلك مع حقبة "الطفرة النفطيّة" وتزايد التأثير الثقافي الإسلامي لدول الخليج العربي، وما تلا ذلك من اندلاع الحرب في أفغانستان وتبلور الحالية الإسلامية الجهادية معها.

اقرأ أيضاً: مسيحيو فلسطين يرفعون صليب الآلام ويقاومون سياسات التهجير الإسرائيلية
أدى كُلّ ذلك إلى صعود وتعزيز حالة الأصوليّة الإسلاميّة، مقابل تراجع الحالة القومية التحررية التي كانت تجمع المسيحيين، وتضعهم مع المسلمين في سياق مشترك، يغيب فيه أي خطاب يميز بين أفراد الشعب على أساس الطائفة.
وتعزّز المناخ التمييزي مع اتخاذ خطوات على مستوى الدساتير، كما في التعديل الدستوري الذي أجراه السادات الذي قضى بالنصّ على اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع، أو كنصّ الدستور السوري لعام 1973، على أنّ رئيس الدولة لا بُدّ أن يكون مسلماً، مما عزز من اتجاه المسيحيين للوعي بأنفسهم كأقليّة داخل دول تعلن تبنّيها وانحيازها للديانة الإسلامية، وتتراجع عن تبنّيها للحياد العلماني، وبذلك تزايدت وتيرة صعود الهويات الدينية والطائفيّة.

أدّى صعود الحالة الأصوليّة الإسلاميّة إلى تزايد شعور المسيحيين بالعزلة

وساهمت أحداث كالحرب الأهلية اللبنانية في تعزيز حالة التباعد بين المسلمين والمسيحيين في المنطقة، وأدّت هذه التحوّلات إلى تزايد وتيرة انكفاء فئات المجتمع على ذاتها والاتجاه بشكل أكبر للتأكيد على خصوصياتها، وترافق ذلك مع تضاؤل وانحسار التأثير الثقافي المسيحي، وغياب الرموز الثقافية والسياسية، كما كان في المراحل السابقة، في ظلّ صعود خطاب أصولي استعاد خطابات تراثيّة تنظر لهم باعتبارهم أهل ذمّة وكفّاراً، وتتحدث عن وجوب فرض الجزية عليهم، مع ترويج فتاوى متشددة؛ كالنهي عن معايدة المسيحيين في أعيادهم، وغيرها.
وكان لهذه العوامل الاجتماعيّة - الثقافية الأثر في تحفيز حركة من الهجرة الطوعيّة بين المسيحيين، بشكل متزايد بداية من السبعينيات، كنتيجة مباشرة لتزايد الشعور بالعزلة والغربة عن المحيط.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية