زلازل وثوابت في المشهد الإقليمي

زلازل وثوابت في المشهد الإقليمي


04/09/2019

لم تغب المتغيرات، وحتى الزلازل الجيوسياسية المتعاقبة طويلاً عن الشرق الأوسط، منذ عدة عقود، هذه المنطقة مسكونة بالمفاجآت دائماً، وفي كلّ مرحلة يتعين على صناع القرار التكيّف مع مشهد إقليمي مختلف تماماً، وقابل للتغيير أيضاً؛ أزمات وصراعات متداخلة يُغذي كلّ منها الآخر، وهو ما يتطلّب من الدول التفاعل المستمرّ، مع إعادة تحديث مَرِنة لمدركات صُنّاع القرار تجاه الموقف، وتحوّلاته، وتجاه باقي اللاعبين، وتحولات أوزانهم، وخياراتهم، وقبل هذا وذاك، إعادة تقييم مدركاتهم عن الأزمات وتعريفها، وعن باقي الفاعلين المؤثرين في المشهد.

اقرأ أيضاً: إيران وجعبة الحاوي الأمريكي
ورغم هذه الفوضى الظاهرة؛ هناك مُحدّدات، وثوابت رئيسة لعلاقات الصراع، و"التنافس/التعاون" بين القوى الإقليمية، ما تزال صامدة منذ مطلع الألفية الثالثة، وما يزال من غير الممكن تجاوزها في المنطقة، أولها؛ أنّ أهميّة الشرق الأوسط الإستراتيجية بالنسبة إلى القوى الدولية الكبرى، تركّزت، منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، في أمرَيْن؛ الطاقة، والممرّات البحرية؛ لذلك لن تسمح هذه القوى الدولية لإيران ولا لتركيا، ولا لأيّة قوة إقليمية، خاصّة "مسلمة"، بأن تصبح طرفاً مُقرّراً في هاتين المسألتين، وستجد القوى الكبرى، دائماً، وسيلةً لتقاسم المصالح والنفوذ فيما بينها، بما لا يسمح بهيمنة طرف إقليمي على هاتين المسألتين.

أهميّة الشرق الأوسط الإستراتيجية بالنسبة للقوى الدولية الكبرى تركّزت منذ الحرب العالمية الثانية في أمرَيْن الطاقة والممرّات البحرية

وثانيهما؛ أنّ المشروعين؛ الإيراني والتركي، في المنطقة، بلا أفق، وهما أساساً انعكاس لأزمة داخلية لكلّ منهما (أزمة هوية، وأزمة نموذج)، ولا توجد قوة دولية تقبل أن تراهن على هكذا مشاريع، سواء روسيا أو أمريكا أو الصين، إنما تستفيد هذه القوى، مرحليّاً وتكتيكيّاً، من الاندفاعة الإيرانية والتركية العمياء، ثم ما تلبث أن تنقلب عليها.
وثالثاً: هنالك إرادة أمريكية صلبة، وموافقة ضمنية من القوى الدولية الكبرى (روسيا وأوروبا والصين)، على حفظ التفوُّق الإسرائيلي في الإقليم، وأيُّ طرفٍ إقليمي يسعى إلى تغيير هذا الوضع، سيحتاجُ إلى كسر هذا الإجماع ابتداءً، وهو ما لم يتحقّق إلى الآن، ولا توجد مؤشرات على إمكانية تحقُّقه في المدى القريب.

اقرأ أيضاً: دروس حافة الهاوية.. كيف الوصول إلى أمن إقليمي دائم؟
وهناك حقيقة ماثلة مفادها أنّ الرّغبة الإيرانية والتركية في التوسّع والنفوذ على مستوى الإقليم، ليست ناتجة عن فائض قوة اقتصادية وعسكرية، لم يعد الداخل الإيراني أو التركي يتّسع لها؛ بل هي رغبة ناتجة عن مُدرَكات صُنّاع القرار في الدولتين، تجاه وجود هشاشة في المحيط الإقليمي، خاصة العربي، تسمح لهما بالتوسع، وتحقيق مكاسبهما دون كُلفة مرتفعة، أو تتطلّب منهما التدخُّل لحماية مصالحهما من تدخلات قوى أخرى في المنطقة الهشّة، وذلك رغم استمرار أو تفاقُم نقاط الضعف الداخلية في كلّ منهما، ولعلّه من الضروري الإشارة هنا إلى أنّ علاقات التعاون الإيرانية-التركية المتنامية حالياً، جاءت مدفوعةً بالحاجة المشتركة إلى احتواء مخاطر الانفصال الكردي، وإخفاقات تركيا في الملف السوري، وأزمة تركيا الداخلية، وتراجع العلاقات التركية-الأمريكية، وليس مستبعداً أن يعمل انتفاء أو تغيُّر هذه المُحدّدات بشكل عكسي، وبما يؤدي إلى تصادم أو تعارض المشروعين؛ لأنّ العوامل الموضوعية التي تُحفِّز الصراع بين الطرفين ما تزال كامنة.

المشروعان الإيراني والتركي في المنطقة بلا أفق وهما أساساً انعكاس لأزمة داخلية لكلّ منهما أزمة هوية، وأزمة نموذج

ووفق المحددات السابقة، يمكن القول؛ إنّ مستقبل علاقات "التعاون/التنافس" أو الصراع بين الأطراف الإقليمية تحكمه نتائج "طموحات غير واقعية" لبعض القوى الإقليمية، وبالتالي؛ فإنّ الطرف الذي يمتلك واقعية وبراغماتية أكثر، وغروراً وأيديولوجيا أقلّ، هو الذي سوف يستمرّ في المنطقة، دون إغفال أهمية عناصر القوة والضعف الذاتية.
ووفق هذا المنظور، يمكن القول: إنّ التفوق الإسرائيلي سيبقى متواصلًا في المنطقة إلى أمد غير مُحددٍ في المدى المنظور، سواء سرّنا ذلك أم أغضبنا؛ فإسرائيل في وضع جيد على كلّ الصعد؛ المجتمع الإسرائيلي منفتح، والجيش قوي، والاقتصاد كذلك، كما أنّ التكنولوجيا الإسرائيلية باتت مُعترَفاً بها في العالم، ومطلوبة، وحتى العرب في إسرائيل يتمتعون بحياة أفضل من أقرانهم العرب الآخرين، سواء في الضفة وغزة، أو حتى معظم الدول العربية، وهذا لا ينفي، بالطبع؛ أنّ لدى تل أبيب مشكلاتها؛ وقد يحدث أن تتعرض إلى تهديد، أو هجوم جديد، لكنّها قوية بما يكفي؛ فإذا ضُربت، يمكنها أن تعود وتقف.

اقرأ أيضاً: ما هي ملامح النظام الدولي الأمريكي الجديد؟
أما مصر، فتسطر هذه الأيام قصة عودة بطيئة ومحزنة؛ ففي بلد يعيش فيه مئة مليون إنسان، جُلُّهم من الفقراء، يصعب جدّاً أن نلحظ أيّ تأثير لمساعدة تأتي من الخارج، أما مسألة قدرة أرض الكنانة على مساعدة نفسها، فالأمر يحتاج إلى ثورة ثقافية، وهذه الثورة ليست آتية في المدى المنظور.
أنقذ الرئيس السيسي مصر من مشروع "الإخوان المسلمين"، وهذا يُحسب له، وهو يحاول جاهداً إبقاء كلّ التركيز منصبّاً على الداخل، ويتجنب إدخال مصر في أيّة أزمة إقليمية، وهذا أيضاً يحسب له، لكنّ طريق مصر إلى النهوض ما يزال طويلاً وشاقّاً.

اقرأ أيضاً: إيران إلى أين في ظل كل هذه الضغوط الأمريكية؟
ولو بقي "الإخوان المسلمون" في السلطة في مصر، لكانوا اليوم ضمن السلطة في دول أخرى، لكنّ فشل مشروعهم في مصر جعل من السهل إبقاءهم تحت السيطرة في بعض الدول، منها الأردن الذي تجاوز بشكل لا يصدَّق صعوبات اللاجئين من سوريا، والمأمول حالياً أن يدرك الأمريكيون والأوروبيون ضرورة مساعدة الأردن؛ لأنّه كان دائماً نظاماً مسؤولاً، وموضع ثقة من الجميع، لكنّ الحصار المطبق الذي تفرضه إدارة الرئيس ترامب على السلطة الفلسطينية، تجاوزت حدود تأثيره رام الله، وبات يلقي بظلال ثقيلة على الوضع الصعب في عمّان، ولا تخفي الإدارة الأمريكية، المنزعجة من موقف السلطة الفلسطينية، رغبتها أيضاً في تحسين مستوى تعاون الأردن مع الطرح الأمريكي المزمع للسلام، رغم أنّه لم يُعلن بعد.

فشل مشروع الإخوان المسلمين في مصر جعل من السهل إبقاءهم تحت السيطرة في بعض الدول

ولعلّ المشهد في لبنان يختزل بشكل مكثف الحالة الإقليمية بشكل عام، ويبدو أنّ البلد الصغير سيبقى يتأرجح في الحدّ الفاصل بين الاستقرار، والحرب الأهلية طويلاً، لكنّ الصورة مختلفة قليلاً في دول الخليج العربية، التي تتمتع بحياة رغدة وبحبوحة حتى الآن، ومع ذلك؛ تواجه هذه الدول مشكلات سكانية عميقة، وتحدياتها القادمة كبيرة، ولا شكّ في أنّ الحال في الإمارات والمملكة العربية السعودية والكويت يبدو أفضل منه في قطر وعُمان والبحرين، لكنّ الجميع يدرك أنّه بات يتعين على المجتمعات الخليجية أن تفكر بالمدى الأبعد بالكثير من الحزم والجدية والعقلانية.
من الواضح أيضاً أنّ أمام كلّ من؛ المملكة العربية السعودية "الجديدة"، والإمارات العربية المتحدة، فرصةً تاريخيةً حقيقيةً للتوسُّع في بناء القوة واستدامتها على أسس اقتصادية بالدرجة الأولى، وبما يُفضي إلى مشهد إقليمي يقوم على ثنائية التفوق الإسرائيلي، عسكرياً وتكنولوجياً، والريادة السعودية-الإماراتية اقتصادياً.
ولعلّ ممّا يدعم هذه الفرضية، ويعزز من فرص حدوث هذا السيناريو، حقيقة أنّ الولايات المتحدة الأمريكية، لم تعد "غبيّة" فيما يخصّ إيران، بعد ذهاب باراك أوباما، وعلى حدّ تعبير الرئيس دونالد ترامب، الصريح؛ فاليوم تبدو أمريكا أكثر دهاء، وفاعلية، وجرأة في المنطقة.
وإيران؛ التي تفاخرت في عهد أوباما بالوصول إلى المتوسط، واحتلال العواصم العربية الأربع، باتت تائهةً ضعيفةً، كما هو حال سفينتها المُحمَّلة بمليوني برميل من النفط، والتي تهيم في البحار بلا وجهة معروفة، بعد أن سدّت واشنطن في وجهها كلّ الطرق.
لقد أصبحت إيران في حالة ضعف بيّنة، مقارنةً بما كانت تشعر به من قوة على المسرح العالمي، بغضّ النظر عن تشنجات زعمائها وتصريحاتهم النارية.
يدرك "القادة التاريخيون" في طهران أنّ لدى واشنطن خيارات عديدة لضربهم في أماكن مؤذية من جسدهم المريض؛ لذلك باتت خيارات استدعاء الحماية الأجنبية واردة في أذهانهم، رغم نصوص الدستور الإيراني الواضحة التي تمنع أيّ تواجد دائم لقوات أجنبية في البلاد، ورغم احتمالات تصدُّع قيم الثورة والاستقلال والطريق الثالثة المزعومة، وربما انهيارها، في حال القبول بقواعد عسكرية روسية أو صينية على التراب الإيراني، وهذا السيناريو يظلّ مستبعدَاً ما لم تتحرك واشنطن للإطاحة بالنظام الإيراني.

أمام كلّ من السعودية والإمارات فرصةً تاريخيةً حقيقيةً للتوسُّع في بناء القوة واستدامتها على أسس اقتصادية بالدرجة الأولى

ما عدا ذلك؛ تظلّ خيارات إيران الدولية جدّ محدودة؛ فالصينيون يمكنهم مساعدة إيران اقتصادياً، ولكن في حدود ضيقة للغاية، فهم لن يرغبوا بمواجهة اقتصادية أخرى مع أمريكا، بينما يحاول الروس الحصول على كلّ شيء من طهران بثمن زهيد، غير آبهين بموقف حلفائهم الداخلي الصعب، وتنامي الاعتراضات على الاستغلال الروسي.
وضع العراق حرج جداً، ولا أحد يعرف كيف ستتطور الأمور، في ظلّ الانقسام الشديد حول كيفية التصرف في مواجهة الضغوط الإيرانية والأمريكية، وكذلك الحال في سوريا؛ التي بات من الواضح بأنّها ستبقى تحت سيطرة الأسد، باستثناء المناطق الكردية، ويبقى هناك احتمال كبير لبقاء الأمريكيين في المنطقة الشرقية لدعم الأكراد، وإبقائهم أقوياء ومهمّين في وجه الأسد وتركيا، وسيفعل الأسد ما يطلبه الروس منه، لكن من المستبعد أن يطلب من الإيرانيين المغادرة.
وحتى الآن، نجحت موسكو في منع انفلات المواجهة بين إيران وإسرائيل، بما يجذب لاعبين آخرين إلى سوريا.
وأخيراً؛ لن يكون الكلام عن التأثير الجيوسياسي للصين في المنطقة مجدياً كثيراً، خلال العقد القادم كلّه على الأقل؛ فأمام بيجين طريق طويل جداً للاقتراب الإستراتيجي من أحد أهم مراكز النفوذ الأمريكي في الخريطة الكونية، لكنّ موسكو تُظهر قدراً أكبر من الاهتمام والاستعداد للمغامرة والاقتراب، ولا يبدو أنّ ذلك يزعج واشنطن إلى حدّ كبير، فروسيا لم تعد مُكافئاً موضوعياً للولايات المتحدة منذ زمن طويل، وطالما أنّ الهدف الرئيس، المتمثل في إبقاء الصين بعيدة عن المنطقة، مايزال متحققاً، فلا بأس في توزيع بعض الأعباء والأدوار.

الصفحة الرئيسية