حتّى إذا بلغت الحلقوم

حتّى إذا بلغت الحلقوم


12/09/2019

ثمة لحظات تأبى على الوصف، تستعصي على القلم، ويتجلط في مواجهتها المداد، لكنّ مفعولها يضرب في كلّ الجوانح حزناً، ويغرق الحلق مراراً، ويوجع القلب، ويترسّب في قاع الذاكرة، ليطفح أحياناً كلّما أراد، فتهرب منه النفس، حتى لا يذكرها بما كان.
أن تطيح الدنيا بالجسد بغتة، على حين غفلة من الروح، فلا تصبر المسكينة الهشة على الثبات في الجسد برهات؛ بل تسارع إلى الصعود متخلية وناكسة، وغادرة بذاك المنهك المهزوم، أو كأنّها لم تعد تطيقه فسنحت لها الفرصة للانعتاق والفرار.
يتشبّث الجسد بالروح، يمسك في تلابيبها، يقبض على ذيلها وهي صاعدة إلى الحلقوم، ناظراً إليها، سائلاً معاتباً: بربّكِ من أنهكني؟ من أهلكني؟

هل كانت الدنيا لعوباً خائنة تزينت حتى تستدرجني برموش عينيها الساحرة حتى إذا ضيعت أربعة عقود من عمري؟

يا لموت الفجأة، كنت أظنه لحظة سريعة يتخلص فيها المقبل على الموت من عذاباته وآلامه، لكنّني أدركت الآن أنّني لم أكن صائباً، إنّها لحظة هول أشدّ وطأة مما يفعله الشوك المستلّ من بين طبقات الصوف الملتفة.
لم يكف الجسد عن الدوران بين أركان الحجرة، كأنّ هناك مَن علّقه على مروحة تلفّ بكلّ قواها، أو ألقى به في بطن مغسلة أوتوماتيكية، لكنّ الروح كانت شاردة تهيم في غمام، لكنّها كانت ترى بضع ومضات، ظننت أنّ الزمان قد أهال عليها أكواماً من الأحداث حتى باتت في قاع بئر عتيق.

اقرأ أيضاً: ماذا يفعل بنا الموت؟
رأيت نفسي قبيل صلاة الفجر؛ طفلاً يسير وحيداً في طرقات ضيقة وملتوية، فتكالبت عليه الكلاب النابحة حتى قضم أحدهم ذيل بنطاله، فتماسك، وتذكّر بعضهم وهو يقول: إن جلست بعدت عنك الكلاب، ففعل.
لكنّه كلّما همّ بالمسير جدّدت هجومها، لكنّه كان عازماً على أداء الصلاة في مسجد يتمتع إمامه بصوت حسن، فظلّ جالساً حتى مرّ عليه رجل يركب حماراً، فأزاح الكلاب عنه، وحمله وراءه حتى باب المصلى، رجوت أن تشفع لي تلك الركعات عند الله!
اهتزّ هذا الرجاء عندما طافت روحي فوق مقابر القرية، عندما أغرقها السيل الجارف، المنحدر من بين عروق التلال المحاذية، فصدع بنيانها الحجري المهترئ.
كنت ورفاقي الصغار نقفز فوق أسطح الموتى، حتى خطر ببال أحدنا فكرة، فنزلنا إلى قاع أحد المقابر، ورحنا نخلع جمجمة من هيكلها العظمي، لنهرول بها نحو التلال ونلعب بها الكرة؛ هل سيلعب الصغار بجمجمتي، كما فعلت أنا من قبل؟ هل سيردّها أحد عليَّ؟

اقرأ أيضاً: هل فقد الموت هيبته حقاً؟
وددت لو كان الموت منحني الفرصة لأكتب وصيتي، فأتمنى على عائلتي أن يسمحوا لجثماني بأن يدفن بعيداً عن تلك المقابر؛ إنّها مظلمة موحشة، تقبع على تربة شديدة الملوحة، تغوص فيها الأقدام، ترفض أن تنبت فيها الزروع والأشجار إلا من بعض شجيرات الغرقد والصبار، إنّني أودّ أن يقبع جثماني فوق تلة مطلة على الرياح والأمواج، أو داخل بستان من النخيل والأعناب.
طاردتني الكتابات التي كتبتها طيلة ما يقرب من العشرين عاماً، وجثمت الكتب والأوراق وآلاف المقالات، رجوت الله أن يغسل كلّ ما لم يكن يرضيه مما خطّته يميني، وأن ينزل الندى عليها فيسيل الحبر على الأوراق، لتُطمس الكلمات.
تتلقى روحي حراب الأسئلة: هل ظلمت أحداً؟ هل آذيت أرواحاً أخرى؟ هل دلست وكذبت وأخفيت؟ هل ستقع تلك الكتابات في يد أجيال أخرى؟ ماذا سيكون حكمهم علي؟ هل نافقت؟ شعرت كأنّ كلّ مقال وبحث تحوّل من شعور الفرح والإنجاز إلى أثقال تئن منها الروح؛ فما الذي دفع بي إلى أن التحم بكتائب الكتّاب والصحفيين؟ كيف لم أشعر قبل ذلك بثقل الكلمة وجلالها ومسؤولياتها الجسام؟ تمنيت في تلك اللحظات لو لم أكن كاتباً، أبقى في قريتي لا أهاجر منها، أن أعمل فلاحاً أو تاجر بقالة، أو في أيّة مهنة غير متعدية الأثر والمفعول.

اقرأ أيضاً: عائدٌ يا حياة
امتصّت الروح رشفة من قدح مليء بالمرارة، وتذكّرت أنّني لم أوصِ الأقربين بأن يمنعوا النسوة المتّشحات سواداً من الصراخ فوق رأسي، لقد كنت أكرههنّ في حياتي، ولا أريد أن يزعجنني في مماتي، أريد أن أخلد في سكون عميق دون أن يؤرقني نعيق الغربان.
ظلّت الروح تهيم مع الدوار الشرس، لكنّني رأيت أمي أمام فرن طينيّ مشتَعل، برفقتها نسوة يعملن على الإحماء، ويدسسن الحطب في العين الملتهبة، فيصبغ الأحمر وجهها الأبيض، وتبدو كالبدر في جوف الليل، وقد تشبّثت بطرحتها الحريرية السوداء، وقبضت بطرف في يدي، فيطغى دفء الحنان على دفء النار، لقد أشفقت عليها من فاجعة خبري.

تمنيت لو لم أكن كاتباً وأن أبقى في قريتي لا أهاجر منها وأن أعمل فلاحاً أو تاجر بقالة

مرّ شريط الحياة أمامي في برهات، وأنا غارق في الدهشة والذهول، لم أكن مريضاً ولم أكن أشكو من وجع، فكيف أموت في فراشي دون علم عندي؟ لم أستنجد بأحد؛ بل رغبت في استقبال الموت في صمت، فهل يا ترى سيقولون إنّني متّ بسبب هبوط حاد في الدورة الدموية، وأنا الذي لم أعانِ من ضغط أو مرض في القلب؟
تتصعّد الروح إلى السماء، ويبقى الجسد مشلولاً، لكنّ الخيالات لا تتوقف؛ وجوه من غضبوا مني يوماً تتوارد، فوددت لو صرخت بكلمة العفو والصفح، ووجوه من أحبوني تحلّق فوق رأسي، فأكاد أن أسألهم الدعاء بالرحمة.
هل كانت الدنيا لعوباً خائنة، تزينت حتى تستدرجني برموش عينيها الساحرة، حتى إذا ضيعت أربعة عقود من عمري، داهمني الرحيل فجأة، أم أنا من تناسى أنّه إن طالت الحياة أم قصرت، وأنّني لا أملك بين جنباتي سرّ البقاء، وإن تخيلت أنّني مستثنى من الفناء؟
وبغتة عادت الروح إلى الغرفة، لتسكن الجسد، الذي انتفض وارتعش وتعرق، وكأنّ أحداً وضع يده على زرّ المروحة، لتبدأ في الهدوء رويداً، وكأنّ سحابة أقلتني حتى حطّت بي على الأرض مرة أخرى، ولأجد نفسي حيّاً، أرنو إلى الساعة المعلقة على جدران الحجرة، حتى تيقّنت أنّني عدت للحياة من جديد، دون أن تتلاشى المرارة من حلقي ووجداني.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية