مؤتمر الإخوان: استعراض التماسك لا يبدد الانشقاقات

مؤتمر الإخوان: استعراض التماسك لا يبدد الانشقاقات


16/09/2019

عبدالجليل الشرنوبي

ظهرت ملامح استعراض القوة والتماسك في مؤتمر عقده التنظيم الدولي للإخوان في تركيا، يومي السبت والأحد 14 و15 سبتمبر الجاري، بعنوان “جماعة الإخوان المسلمين.. أصالة الفكرة واستمرارية الرسالة”.

المثير في الأمر هو توقيت انعقاد المؤتمر الذي تزامن مع تنامي حالات الخروج على التنظيم، خاصة في دولة المنشأ مصر، وهو العصيان الذي يتنامى داخل السجون بين صفوف قواعد قيادات وسيطة.

خلال النصف الأول من الشهر الجاري وجهت قيادات التنظيم بالسجون للتحرك بين القواعد في محاولة لاستيعابهم أو توجيه غضبهم نحو النظام المصري باعتباره السبب في سجنهم وليس قيادة التنظيم التي ورطتهم مع الدولة بكل مكوناتها ثم تخلت عنهم.

هذه الأصوات القاعدية كما عبّر عنها (ع. م) أحد المسوقين لدعوات التبرؤ من التنظيم فكرة وانتماء بقوله “دافع حركتنا الرئيس هو محاولة البحث عن مخرج من سجن ساقتنا إليه قيادات كاذبة ثم اكتفت بمطالبتنا بالصبر على البلاء والثقة في القيادة واليقين في نصر الله”.

مغزى الانشقاقات

بينما انطلقت فعاليات المؤتمر التنظيمي كانت هناك أصوات تخرج من جبهة القيادة المتشكلة بعد 2013 التي ترأسها القيادي الراحل محمد كمال، وتطلق على نفسها المكتب الإداري. هذه الأصوات من رموزها: مجدي شلش وأمير بسام وأحمدي قاسم وعلي بطيخ. وجميعها أصوات قيادية رسمية التوصيف في مجلس شورى التنظيم المصري، وتشكك في الذمة المالية والأخلاقية والإدارية لقيادات مكتب الإرشاد، وعلى رأسها نائب المرشد إبراهيم منير وأمين عام التنظيم محمود حسين.

بمجرد انتهاء فعاليات اليوم الأول للمؤتمر خرج أحد فقهاء التنظيم الشرعيين من جيل الشباب، الشيخ عصام تليمة، مؤكدا “مؤتمر الإخوان الذي انعقد في إسطنبول لم يجب عن أي أسئلة جادة  تتعلق بقضايا وأزمات الإخوان”. إن تفاعل داعية تنظيمي مشهور بمشاغباته لقيادات التنظيم، غير منفك عن ملاحظة وجهها أحد القيادات الوظيفية للتنظيم، وهو المهندس محمد البشلاوي الذي قرر رغم تقدمه في العمر أن يلعب دور ممثل الشباب داخل المؤتمر فقام متداخلا بانتقاد لإدارته لأن متحدثيه خلو من الأصوات الشبابية ومشاركاتهم الفاعلة في المؤتمر أو في أنشطة التنظيم.

تهاوى هذا النقد مع تأكيدات أمين عام التنظيم محمود حسين، على عكس ذلك حيث قال “معظم الإخوة مهاجرون بعائلات، ومعظمهم بتركيا من كبار السن، ونحن لم نمنع أحدا من الشباب من الحضور، هناك الكثير من الشباب فاعلون داخل مؤسسات الجماعة المختلفة”.

لم تمتد ملاحظة القيادي البشلاوي الخاصة بغياب شباب التنظيم، لتتساءل عن غياب كل القيادات الممَثِلَّة لجبهة محمد كمال- المكتب الإداري للإخوان، رغم أنهم يؤكدون أنهم إخوان، أو عن السر في حضور القيادي الجهادي طارق الزمر، رغم أنه ينفي تبعيته للإخوان.

في مشهد ملتبس المكونات يتحرك التنظيم دوما، ويتعمد دعم صناعة هذه الصورة في أوقات الأزمات أو التحديات الجسام التي تحدق بمسيرة نموه، إذ يعتبر أن التنويع على أصل المشروع تشددا أو انفتاحا يمثل توسيعا للحواضن الشعبية للفكرة، أو فرزا للتنظيم الإخواني باعتباره الوسطي بين تنظيمات نمت عنه وجنحت إلى العمل المسلح، فبضده يتمايز التنظيم الإخواني، إنها القاعدة التي يمكن عبرها التمييز بين الخلاف والاختلاف عند الإخوان، وفي ضوئه نستطيع فهم ما يتم استهلاكه إعلاميا كل حين تحت مسمى انشقاقات الإخوان.

حاول مؤتمرالإخوان  في تركيا الترويج لفكرة الوسطية كركيزة أساسية في منهج وفكر الجماعة والقفز على الاتهامات التي تلاحقه بأنه لا فرق بين معتدلين ومتشددين في الجماعة.

بالتالي فكل مترجم لشعار التنظيم أو أركانه الخاصة بالجهاد والشهادة خارج التكليف التنظيمي يُعد خارجا عن التنظيم وإن كان يخدم نفس المشروع، هذا التناقض تكتيك تنظيمي قديم بدأه المؤسس حسن البنا معتبرا جنده في النظام الخاص خوارج (ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين)، كان ذلك فقط عندما سقطوا في يد العدالة، بعدما اغتالوا القاضي النقراشي باشا.

وهو نفس التكتيتك الذي تطور ليصبح كتابا رسميا (دعاة لا قضاة)، يصدر حاملا توقيع مرشد التنظيم حسن الهضيبي بعدما صاغته لجنة من كبار الإخوان في سجون متبرئة من أفكار التفكير التي صاغها سيد قطب في ترجمة لأدبيات حسن البنا، لكن صياغات قطب المباشرة فضحت ما تواريه نعومة نصوص البنا الجهادية، الأمر الذي استلزم مواراته بإصدار يعيد تجميل وجه تنظيمي أصيل العنف.

يمكن قياس كل خروج عن التنظيم الأم إلى تنظيم جهادي أيا ما كان اسمه، التكفير والهجرة، الناجون من النار، الجهاد، القاعدة، داعش، على أنه سفور في إعلان أصل الفكرة بما يحقق إرعاب الخصوم فيلوذون بالإخوان باعتبارهم العاصم من تطور العناصر إلى جهاديين، ولا مانع لدى التنظيم لحبك المشهد في فترة من الفترات أن يُصعد من مواجهاته مع بني جلدته من تنظيمات جهادية صريحة وليكن ضحية هذا التصعيد بعض قتلى هنا وهناك.

بالرجوع إلى التاريخ القريب يمكن رصد حوادث المواجهات بين إخوان مصر والجماعة الإسلامية في الصعيد مطلع التسعينات، ومثلهم مواجهات إخوان (حمس) بالجزائر مع إخوان الجبهة الإسلامية للإنقاذ.

في النموذجين أسفر الانشقاق عن شقاق تمادى ليخلف ضحايا، ثم دارت الأيام حتى كان التمكين في مصر (2012) وكانت منصة “مليونية الشرعية والشريعة” يتكاتف فيها القيادي بالإخوان مع الجماعة الإسلامية والجهاد، في حين تولى الإخوان مراسم دفن وعزاء الشيخ عباس مدني زعيم جبهة الإنقاذ في الجزائر الذي وافته المنية وهو ضيف على إمارة قطر برعاية إخوانية.

تصنيف جديد للخارجين

في الفترة البينية بين فقرات مؤتمر التنظيم الدولي في تركيا، عمدت قناة “مكملين” المحسوبة على جناح محمد كمال، إلى عرض فيلم تسجيلي بعنوان “بديع المرشد الأسير”، استعرض سيرة حياة الرجل منذ انضم إلى التنظيم مع مجموعة 1965 تحت إمارة سيد قطب.

وكان المرشد الحالي واحدا ممن صدر ضدهم كتاب الهضيبي الأب “دعاة لا قضاة”، ورفض أي تجاوز أو اتهام لسيد قطب من أي رموز إخوانية، وعلى رأسها القيادي عبدالمنعم أبوالفتوح، الذي أعلن انشقاقه عن الجماعة وكون حزب “مصر القوية”، لكن تصرفاته السياسية أكدت أنه جزء من التنظيم.

ما يعنينا هنا أن الفيلم يؤرخ لما بعد ثورة 25 يناير 2011، حين قررت مجموعة من شباب التنظيم استغلال حالة الحرية بعد سقوط نظام الرئيس المصري حسني مبارك ودعت إلى تنظيم مؤتمر لشباب الإخوان دون استئذان.

كنت وقتها رئيسا لتحرير موقع “الإخوان أون لاين” وحاولت استيعاب قدرات مجموعة من شباب التنظيم تؤهلهم لاستئجار قاعة في فندق وإعداد مؤتمر ثم الإعلان عن إنشاء حزب، ويقول الفيلم “أرسل المرشد لهم باقة من الزهور وأقر قرار فصلهم من الجماعة، لكنهم بقوا شبابا من الإخوان أسسوا حزبا”.

هذا النموذج يقودنا إلى تصنيف جديد للخارجين عن التنظيم في الاتجاه الانفتاحي، ومعظمهم يختلفون مع إدارات التنظيم في أقطارهم، بينما يظل لهم في مظلة التنظيم موقع يؤهلهم للحركة والتواصل والتنسيق، وربما يتيح لهم الحضور في مشهد أقطارهم الرسمي متجاوزين منافسيهم من أهل التنظيم الأصلاء.

اتضح هذا النموذج في مصر بعد يناير 2011، لكنه ظل محافظا على مساحة الحضور في خانة معارضة الحضور الرسمي للتنظيم في مشهد الحكم، بداية من ائتلاف شباب الثورة ومرورا بأحزاب أهمها، الوسط ومصر القوية والتيار المصري والعدل، حتى أعادت ثورة 30 يونيو 2013 حالة الفرز من جديد ليصطف أصحاب المشروع الواحد تحت مظلة واحدة.

نمت هذه التجربة في غير الأراضي المصرية وأثبتت فاعلية وتأثيرا، وربما يمثل أردوغان أحد أهم النماذج في هذا الصدد، الذي تمرد على شيخه التنظيمي التاريخي نجم الدين أربكان، واستحالت خصومتهما المتصاعدة هي الستار الذي استطاع عبره أردوغان أن يطمئن المجتمع التركي ومؤسسات الدولة لإحداث تمكين متدرج. ومثله النموذج المغربي لحزب “العدالة والتنمية” الذي خرج عن التنظيم الأم ليحصل على مساحات حركة تؤهله تدريجيا ليصبح الحزب القوي في المغرب.

في دعايته التنظيمية أكد مكتب الإرشاد الدولي للتنظيم أن مؤتمر إسطنبول سيطرح ملامح مشروع الجماعة، والتحديات والأخطار التي تحيط بهذا المشروع، وهل هناك فرص لنجاحه على أرض الواقع؟ وما منهج الإخوان في الإصلاح والتغيير؟ ولماذا تتمسك الجماعة بالوسائل السلمية للتغيير وتؤكد بصورة مستمرة على نبذ العنف؟ الواقع أن أيا من الأوراق التي قدمها المؤتمر لا تجيب صراحة عن هذه التفاصيل، وتؤدي إلى استشهادات متكررة لحسن البنا، وهو ما يقودنا إلى موقف أصيل من المنهج وواضعه.

وهذه هي النقطة الفاصلة بين الخلاف والاختلاف مع الإخوان. ففي الخلاف تتباين آراء الأعضاء أو القيادات حول الوسائل بينما يتفقون على الأسس التي وضعها (البنا). ما يعني ثراء في التنوع التنظيمي وتعددا في مساحات الحضور، ويستوي في ذلك الخلاف التشدد الواصل إلى حد التسلح، أو الذي يبلغ حد الانفتاح القابل بالشذوذ الجنسي والإلحاد.

أما الاختلاف مع الإخوان فهو ذلك الموقف النابع من إعادة قراءة لأصل المشروع، إنه اختلاف منهجي عقدي تصحبه يقظة من روعة الغفلة التنظيمية، وهو الذي يمكن أن يفقد صاحبه كل يقين في دين، إذ إنه يستيقظ كافرا بتنظيم استخدم أسمى ما تستلهمه الروح ليبني ملكه. والنماذج في هذا الصدد كثيرة خاصة بين الأجيال الشابة وبصفة أكبر بين أبناء القيادات التنظيمية الكبرى، إذ تكون معاينتهم للمتاجرة بالدين أدق فيكون خروجهم على التنظيم مصحوبا بإعلان إلحاد أو على حد توصيف إحداهن “أحلق فوق الأديان”.

من السماحة إلى البطش

يظل التنظيم الإخواني متسامحا مع هذه النماذج إذ يستخدمها للاستدلال على سوء عاقبة الخارجين عن حظيرته، لكن هذه السماحة سرعان ما تستحيل بطشا لا يبقي للتنظيم عزيزا طالما اختار صاحب الموقف الاختلاف مع المنهج والإدارة ولم يؤثر الخروج الآمن بل قرر الحديث.

وعندها لا يعدم التنظيم وسيلة للإجهاز على صاحب الموقف، حتى وإن كان رفيق الإمام المؤسس في تأسيس التنظيم أحمد السكري الذي تحول بمجرد اختلافه مع البنا إلى مريض نرجسي محب للظهور.

في هذا الصدد يحضرني توثيق ما تم في يوليو 2008 حين قرر القيادي الدكتور السيد عبدالستار المليجي الاختلاف مع التنظيم فكرة وإدارة وطالب بالرقابة على أموال الجماعة ومحاسبة كبار مسؤوليها، وعلى رأسهم خيرت الشاطر.

يومها اجتمع مكتب الإرشاد وصدرت رسالة إلى قواعد الإخوان في داخل مصر وخارجها عنوانها “بيان إلى الصف الإخواني بخصوص ما صدر من الدكتور السيد عبدالستار”، ولم تختلف مقدمة هذه الرسالة عما صيغ في حق السكري قبل ستة عقود حيث قال الإخوان “يعلم الله أننا ما كنا نحب أن نخوض فى هذا الموضوع، ونتعرض لشخص كان بيننا فترة طويلة، ولولا شعورنا بمسؤوليتنا نحو الصف ما كتبنا حرفا”.

بعدها أكدوا اعتلال الصحة النفسية للرجل بسبب السجن، فبعض الإخوان يصعدون فى مراكز المسؤولية والقيادة نتيجة نشاط كبير وحركة دؤوبة وقدرة على التعبير والبيان، وعندما يتعرضون لتجربة السجن، يتغيرون فكريا وشعوريا وموالاة، وبعد انتهاء فترة سجنهم فإن الجماعة تحتويهم عاطفيا وإنسانيا واجتماعيا.

لهذه الأسباب حققت معه لجنة تحقيق في ما فعل فاعتذر، وادعى أنه قد استدرج بل وبكى معلنا الندم، وكتب اعتذارا بخطه ووقع عليه بأن كل ما صدر عنه غير صحيح.

وفي النهاية حملت الرسالة توصيات للصف “نرتبط بالمبادئ لا بالأشخاص مهما كانوا – الفتنة لا تؤمن على حي- نزهد في المناصب وأن نخلص لله- ألا نهتز ولا نتبلبل نتيجة الحملات الإعلامية ولو شارك فيها بعض الخارجين علينا”.

انتهى مؤتمر التنظيم الدولي للإخوان  الذي عقد الاحد في إسطنبول التركية ، وكما أنه لم يكن الأول فلن يكون الأخير.

إن الإرث التنظيمي الذي تركه مؤسس الجماعة في 1928 حسن البنا أنتج شبكات مستقرة عابرة للقارات، قادرة على التلون وتطوير الخطاب والتكتيكات والوجوه والاسماء ، جميعها تتحرك تحت راية ما أسمته المشروع الإسلامي. إنه المشروع الذي يسمح بأي خلاف مع أدواته بما يثريها، لكنه لا يتسامح مع أي اختلاف يعري حقيقته كمشروع يستهدف الإنسانية عبر بوابة الدين.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية