بين الشرق والغرب.. تركيا إلى أين؟

بين الشرق والغرب.. تركيا إلى أين؟


07/10/2019

ترجمة: علي نوار


أعادت تركيا ترتيب أولويات سياستها الخارجية للتكيّف سواء مع عدم الاستقرار في نطاقها القريب أو مع الواقع الجيوسياسي في عالم متغيّر. ويعتقد الكثيرون أنّ هذا التحوّل نحو الشرق هو انحراف جذري عن موضعها الاستراتيجي، وتغيير محوري يبعدها حتماً عن الفضاء الغربي. وفي الحقيقة أنّ إعادة التوجيه هذه هي نتيجة الطابع متعدّد الأبعاد للسياسة الخارجية التركية ومحاولاتها، التي لا تخلو من عقبات، للحفاظ على توازن استراتيجي بين الفضاءين الأوروأطلسي الذي تضربه الانقسامات والأوراسي الصاعد بقوة.

"هذه هي وصيّتي الأخيرة: بعد مماتي احتفظوا دوماً بعلاقات الصداقة مع روسيا".. مصطفى كمال أتاتورك.

أعادت تركيا ترتيب أولويات سياستها الخارجية للتكيّف مع عدم الاستقرار في نطاقها القريب أو مع الواقع الجيوسياسي بعالم متغيّر

على الرغم من كونها جسراً بين الشرق والغرب بصورة مستمرّة منذ قيام الإمبراطورية العثمانية، لكن الجدل حول انتماء تركيا إلى أي جانب لم يكتسب قدراً من الأهمية إلّا مع انتهاء الحرب الباردة، سواء داخل حدودها أو خارجها. دفع انضمام تركيا لحلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 1952- لاعتبارات أمنية أكثر من أي أسباب أخرى- الكثيرين للاعتقاد بأنّ تركيا، المضطرة للاختيار بين منظومتين من القيم متناقضتين تماماً، فضّلت الانتماء للعالم الغربي. والواقع أنّ ذلك الأمر لم يكن يعني شيئاً إلّا اختيار عالم مُعاد للآخر. قدّم هذا النمط الاختزالي بالقطع لفترة من الزمن تفسيراً منطقياً نوعاً ما لواقع اللحظة، لكن تفكّك الاتحاد السوفييتي أسفر عن ظهور مشهد جديد لم تعد الافتراضات القديمة تتّسم بالاتّساق فيه.

اقرأ أيضاً: أكراد في تركيا.. كيف حدث الانتقال من السلاح إلى صناديق الانتخاب؟

منذ أن وضعت الحرب الباردة أوزارها، بدأ مشهد جيوسياسي جديد في التطوّر، قبل أن يؤدّي بنهاية المطاف إلى استمرار سياسات الكُتل المتناحرة. مثّل هذا الوضع مشكلة بالنسبة لتركيا الواقعة بين الكُتلتين، ويبدو أنّ أنقرة أعادت توجيه الجهد الرئيس لسياستها الخارجية نحو الشرق: تقارب مع روسيا، اهتمام مطّرد بالمنظّمات الإقليمية الأوروآسيوية، وبرود في عملية انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، كل هذه العوامل ينظر لها المحلّلون بوصفها مؤشّرات لا لبس فيها على تحوّل نحو النطاق الأوروآسيوي والذي لا يمكن ألّا يتضمّن في طياته سوى التباعد عن النطاق الغربي. ومن الصعب بلا شكّ دحض كمّ التعقيد في تحوّل السياسة الخارجية التركية نحو الفضاء الأوروآسيوي. لكن الأمر المهم هنا هو معرفة ما إذا كان هذا التحوّل يعبّر عن تغيير الاصطفاف الاستراتيجي وما إذا كان يتضمّن انفصالاً، أو على العكس، وجود مساحة للتفاهم والتعاون.

أوراسيا والغرب في العالم الحالي

من المنظور الجغرافي، فإنّ أوراسيا هي الكتلة القارية التي تمتدّ من الشرق إلى الغرب ابتداءً من مضيق بيرنج وصولاً إلى رأس فينيستيري، ومن الشمال إلى الجنوب بدءاً من السواحل الواقعة في أقصى شمال روسيا حتى الأراضي القارية من ماليزيا. ورغم أنّ هذه الكتلة الجغرافية مترامية الأطراف معروفة جيّداً، لكنها انتظرت حتى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كي يضع جغرافيون مثل هالفورد ماكيندر فرضيته (قلب العالم) والتي منحت هذه المساحة الجغرافية صفة كيان جيوسياسي، ومقدّماً بالتالي منظوراً أوروبياً تقليدياً كان يسعى للتفريق بين أوروبا وآسيا.

لم يكتسب الحديث حول انتماء تركيا للشرق أو الغرب قدراً من الأهمية إلّا مع انتهاء الحرب الباردة

لكن مفهوم الكتلة القارية الكبرى ذات الصفة السياسية الخاصة لم يجر صوغه إلا مؤخّراً. وكان ذلك على يد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي استعان بمفكّرين مثل ليف جوميليف (1912-1992) وألكسندر دوجين والجنرال فلاديمير أوستانكوف، لإعادة إحياء المبادئ الأوراسيوية، وهي مدرسة فكرية ظهرت في أعقاب الثورة الروسية وتنادي بتشكيل "قوة أوراسية" كوسيلة وحيدة لضمان مستقبل روسيا. وبعد إعادة انتخابه في آذار (مارس) 2012، اقترح بوتين تأسيس اتحاد أوروآسيوي يضمّ الدول التي كانت من قبل داخل دائرة النفوذ السوفييتي، ليصبح أحد أقطاب العالم المعاصر، ومعادلة ثقل التكتّل الغربي الذي يشمل كلاً من الولايات المتحدة وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي. وإذا كانت الشيوعية هي الأيدولوجيا التي أسهمت في الحفاظ على وحدة الاتحاد السوفييتي في السابق، فإنّ الأوروآسيوية (أو الأوروآسيوية الجديدة) ستكون الآن هي عنصر الاندماج. بيد أنّ نجاح هذا الاتحاد لا يزال حتى اليوم محدوداً، كما أنّ مجال عمل هذا الاتحاد- الذي يحمل اسم الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي أو الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ما زال ضيّقاً، وذلك بسبب الرغبة المُعلنة من قبل الدول الأعضاء في تحقيق مصالح اقتصادية وليس سياسية.
ورغم ذلك لا تزال فكرة الأوروآسيوية الجديدة هي الغالبة على السياسة الخارجية لروسيا الاتحادية. ولفهم مدى أهمية هذا الأمر بالنسبة لزعماء روسيا المعاصرين، فيكفي التأمل في مقولة جوميليف بشأن اختيار حلفاء الدب الروسي "الأتراك والمنغول ربما يكونون أصدقاء حميمين، أما الفرنسيون والإنجليز والألمان فليسوا كذلك، أثق تماماً في أنّهم ليسوا سوى مستغلّين مكيافيلليين".

اقرأ أيضاً: إيران وتركيا.. أوهام بسط النفوذ في المنطقة

على الجانب الآخر، تظهر أيضاً في الأفق علامات اهتمام الزعماء الصينيين المشترك بالرؤية الجيوسياسية للمبادئ الأوروآسيوية الروسية، عبر طرح مبادرة (الحزام والطريق)، والتي تستند إلى مجال ثقافي وتجاري وتعاوني تقدّم فيه الصين بديلاً حقيقياً للهيمنة الغربية. وهو ما حقّق نجاحاً لا يمكن إنكاره.

لقد أسهم الواقع الجيوسياسي في دفع التعاون بين القوى الأوروآسيوية وحتى مع وجود شكوك حول استدامة هذا التحالف، إلّا أنّ التعاون الروسي-الصيني، بحسب تعبير فلاديمير بوتين، "بلغ مستوى غير مسبوق". كما أنّ النوايا التي أعرب عنها الجانبان تشير كذلك، إلى توسيع آفاق هذا التعاون بحيث تمتد إلى أُطر متعدّدة الأطراف مثلاً منظمة الأمم المتحدة ومؤتمر شنغهاي للتعاون و(بريكس) و(جي20)، إضافة بالطبع إلى الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي.

اقرأ أيضاً: تركيا وقطر والصعود إلى الهاوية

ينحي كل ذلك شبه جزيرة أوروبا جانباً إلى خانة التهميش مقارنة بالكتلة القارية الكبرى، الأمر الذي وبعيداً عن الاعتبارات الجغرافية، يجب دراسته من الناحيتين؛ السياسية والاقتصادية. ففيما يخص الجانب السياسي، يبدو أنّ تأثير التهميش آخذ في التصاعد لا سيما مع الأزمة السياسية الحادة- التي تكاد تكون وجودية- التي يعاني منها الاتحاد الأوروبي- والتي بلغت ذروتها حتى الوقت الراهن بسعي بريطانيا نحو الخروج من الاتحاد (بريكست)، وهو حدث غير مسبوق ربما يكون مجرّد بداية لحركة تفكّك ذات حجم أكبر من شأنه عرقلة تطور مؤسسات الاتحاد وتوابع أخرى من شأنها أن تنعكس في صورة صعوبات لا يمكن تجاوزها فيما يخص صياغة سياسة خارجية أوروبية مشتركة.

ومن حيث الاقتصاد، فقد حذّرت عدة دراسات من تغيّر مركز الاقتصاد العالمي، الذي كان طيلة الأعوام الـ50 الأخيرة عند سواحل آيسلندا، شرقاً بحلول العام 2025- وفقاً للتقديرات- إلى منطقة تقع بين الحدود الصينية الكازاخية. وهو ما يعني فقدان تدريجي للنفوذ والقدرة على التأثير، ما سيكون له عواقب بالطبع على أوروبا.

اقرأ أيضاً: بوابات تركيا لتمرير الجماعة.. هل لدى الإخوان جديد يقدمونه؟

ومما يزيد الطين بلّة هو النزعة أحادية الجانب لدى الإدارة الأمريكية الحالية والتي قوّضت، ربما بصورة لا يمكن تداركها، التكامل بين شطري المحيط الأطلسي. وقد يكون صحيحاً أنّ هذا التعاون لم يكن مثالياً ولا حتى في أحلك مراحل الحرب الباردة حين غاب الاتفاق في وجهات النظر تجاه الملفّات العالمية بين الدول الواقعة على ضفّتي المحيط الأطلسي. لكن لطالما كان هناك نوع من فكرة تشارك المبادئ والأهداف ذاتها. لذا يصعب في الوقت الحالي قول الشيء نفسه. فهناك اختلاف كبير تجاه ملفّات ذات أهمية بالغة مثل الاتفاق النووي مع إيران، وهو ما يؤشّر لأي درجة هناك تباعد في الرؤى الجيوسياسية بين الحلفاء. وحتى مؤسّسات أثبتت أهمّيتها على مدار آخر 70 عاماً مثل حلف الناتو، باتت تُقابل بقدر من التشكّك وبصورة علنية. وإن كانت القوة الناعمة، مثلما سمّاها جوزيف ناي، هي قدرة على الجذب، فإنّه من المهم الاعتراف بأنّ الغرب يتراجع.

ولعل هذا بالتحديد هو السبب الذي دفع فاعلين جيوسياسيين مختلفين، وبصورة خاصة الدول التي تتخذ مواقف وسيطة، للبحث عن بدائل، بشكل بات معه الحديث عن أوراسيا أو التوجّه الأوروآسيوي يُفهم تلقائياً على أنّه خيار استراتيجي مناهض للغرب بشكل عام ولأوروبا بشكل خاص. لكن هل الأمر على هذا النحو حقاً؟

تركيا والمنظور متعدّد الأطراف

كان تراجع السيطرة على منطقتي وسط آسيا والبلقان وأراض أخرى في شرق أوروبا إثر تفكّك الاتحاد السوفييتي، فرصة لتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي نحو مناطق كان لها فيها تاريخياً تأثير. لكن وفي الوقت الذي كانت تظهر فيه الفرص، لم تتأخر المشكلات الأمنية التقليدية في الطفو على السطح. فتركيا تحيط بها خمسة محاور من الفوضى والاضطراب، وتشمل كل من البلقان والشطر الشرقي من البحر المتوسط والشرق الأوسط والقوقاز والبحر الأسود، وقد رأت أنقرة كيف أنّ الهياكل الأمنية التي كانت فعّالة وقت الحرب الباردة لم تعد كافية، ما جدّد الجدل حول مفهوم الأوروآسيوية الذي يتّخذ صوراً عديدة بين الاتجاه نحو روسيا أو القومية التركية أو الإسلامية، وانطلاقاً من فكرة أنّ النموذج الغربي الحالي وصل لنهايته، وأنّ جدوى النظام العالمي في تسوية الملفّات الأمنية التي تمسّ تركيا مشكوك فيها، وبالتالي حان وقت النظر نحو الشرق.

أعادت أنقرة توجيه الجهد الرئيس لسياستها الخارجية نحو الشرق: تقارب مع روسيا واهتمام مطّرد بالمنظّمات الإقليمية الأوروآسيوية

ويقف مهندس العثمانية الجديدة أحمد داوود أوغلو، على أرضية التوجّه المزدوج التاريخي لتركيا، في محاولة للعثور على إجابات في هذا الصدد. ويرى داوود أوغلو أنّه "من حيث دوائر التأثير، فتركيا تنتمي في الوقت ذاته إلى الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز وآسيا الوسطى وبحر قزوين والبحر المتوسط والبحر الأسود". وبالتالي ينبغي أن تتّسم السياسة الخارجية التركية بتعدّدية الأبعاد، وأن تكتسب علاقاتها بالفاعلين الدوليين المختلفين (الناتو، الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة، روسيا، الصين، إلخ) طابعاً تكميلياً وليس تنافسياً. ورغم ابتعاد داوود أوغلو عن أضواء الساحة السياسية عام 2016، إلّا أنّ مبدأ تعدّد الأطراف ظلّ قائماً في السياسة الخارجية الجديدة لتركيا، التي أضفى عليها صيغة جديدة وزير الخارجية الحالي مولود جاويش أوغلو لتصبح "مقدامة وإنسانية" مع السعي نحو بناء علاقات استراتيجية جديدة مع الحفاظ على العلاقات القائمة بالفعل مع الناتو والاتحاد الأوروبي.

اقرأ أيضاً: هل غادرت تركيا المركب الإخواني؟

وانطلاقاً من هذا الخطّ، دشّنت تركيا مؤخّراً مبادرة (آسيا مجدّداً) كي تكون ضمن استراتيجية شاملة تجاه آسيا عبر تعميق التعاون مع دول آسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا والهند وباكستان واليابان وكوريا وبالتأكيد الصين. ورغم تأكيدات السلطات التركية على أنّ الأمر لا يتعلّق بتغيير محوري؛ بل بتنويع لسياستها الخارجية، لكن لا يخفى أنّ الدافع وراء ذلك التحوّل هو الثقل المتزايد الذي تكتسبه الاقتصادات الآسيوية.

يتّصف التوجّه متعدّد الأطراف المميّز للسياسة الخارجية التركية بالطبع بالواقعية، ولا يختلف تقريباً عما تنتهجه أغلب دول العالم. لكن وجهة النظر التركية ترى أنّه بينما تبرز روسيا والصين كأبرز تهديد للهيمنة الأمريكية، فإنّ استراتيجية (أمريكا أولاً) تؤدّي لثنائية لا مفرّ منها عملاً بمقولة "من ليس معي فهو ضدّي".

لأسباب تاريخية وجغرافية وثقافية، فقد تصادمت مصالح روسيا مع مصالح تركيا منذ وقت بعيد وتُرجم ذلك إلى 12 نزاعاً مسلّحاً بين الجانبين في القرنين الماضيين. ولا يجب إغفال حقيقة أنّ الإمبراطورية الروسية منذ عهد القيصر بطرس الأكبر قامت على حساب الإمبراطورية العثمانية ولطالما كانت العلاقات الروسية التركية تقليدياً غير متكافئة، مع امتلاك روسيا لموارد أكبر.

اقرأ أيضاً: الإخوان في تركيا.. صناعة التطرف برعاية أردوغان

وقد وقع مؤخّراً حدثان يعبّران عن طبيعة العلاقات بين البلدين. الأول كان إسقاط القوات الجوية التركية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015  لمقاتلة (سوخوي-24) روسية كانت قد اخترقت المجال الجوي التركي، تسبّبت تلك الواقعة في رفع حدّة التوتّر بين الجانبين لمستويات لم تحدث منذ أسوأ لحظات الحرب الباردة. نتج عن ذلك الحادث ظهور التيار المؤيّد لفكرة التوجّه الأوروآسيوي في الساحة السياسية التركية وتعاظم تأثيره بين النخب التركية التي تُعد مجموعة ضغط موالية لروسيا في البلاد، وأبرز ممثّليها هو دوجو برينجك رئيس (الحزب الوطني) الذي لا يحظى بدعم شعبي. ومن منطلق فكر مناهضة الغرب بشكل واضح والتأييد القوي لخروج تركيا من حلف الناتو، يؤكّد برينجك على الحاجة لتأسيس تحالف استراتيجي مع روسيا على غرار التعاون المناهض للإمبريالية الذي دخل فيه مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك مع السوفييت في 1921. ولعل شبكة العلاقات التي يحظى بها الرجل هي التي أسهمت في تسليط الضوء عليه خاصة بسبب صداقته الوطيدة بألكسندر جوجين الروسي الذي يتبنّى فكرة الاتجاه الأوروآسيوي ودائم الظهور على شاشات التلفاز في كل من روسيا وتركيا، وبالتالي كان لبرينجك دوراً محورياً في إدارة الأزمة مع السلطات الروسية حتى تسويتها نهائياً.

أما الواقعة الثانية فكانت محاولة الانقلاب العسكري في تموز (يوليو) 2016 والذي راح ضحيته 251 شخصاً من المدنيين، والذي نال منذ اللحظة الأولى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وحتى قبل إحباط المحاولة الانقلابية بالكامل، دعماً غير مشروط وبلا مواربة من الرئيس الروسي. وعادت مجموعة ضغط برينجك مجدّداً للحصول على دور البطولة إلى حدٍ ما في التصدّي للانقلاب.

اقرأ أيضاً: ما دور تركيا في الضربة الأمريكية للفصائل الجهادية في إدلب؟

بالطبع لم تنسَ أنقرة كل ذلك وتولّدت إرادة حقيقية للتفاهم أسفرت عن إقامة علاقات ثنائية قائمة على الفصل. فمن جانب يبرز التفريق بين التعاون الاقتصادي والعلاقات السياسية-الدبلوماسية، ومن جانب آخر التركيز على العوامل المشجّعة على التعاون مع تهميش الملفّات التي تفضي للمواجهة. وقد أسهم هذا المنظور في جعل التعاون ممكناً بين روسيا وتركيا في مجالات لم تكن في الحسبان مثل؛ قطاع الطاقة أو الصناعات الدفاعية، وامتلاك تركيا لمنظومة الدفاع الجوي الصاروخية روسية الصنع (إس-400) لهو خير دليل على ذلك. وبالنسبة لروسيا، فإنّ هذه الصفقة فرصة سياسية وتجارية ثمينة للغاية، كما أنّها خيار، ربما يكون الوحيد، بالنسبة لتركيا لتلبية احتياجاتها العملياتية فائقة الأهمية.

لكن هل يعني كل ذلك أنّ التعاون الروسي-التركي سيؤدّي حتماً لتحالف دائم؟ ليس بالضرورة، ولهذا السبب، فإنّ الأزمة السورية تحفل بالأدلّة. فالحملة التي يشنّها النظام السوري في إدلب بمشاركة قوات روسية، بعد عدة أشهر من الانتقادات بسبب عدم قدرة تركيا على القضاء أو حتى الحدّ من وجود الإرهابيين في هذه المحافظة السورية مثلما ورد في الاتفاق المبرم خلال القمة الثلاثية في أستانة، تظهر مدى قصور منهج الفصل هذا. كما أنّه لا وجود في الحقيقة لتوافق استراتيجي بين روسيا وتركيا، رغم إمكانية التوصّل لاتفاقات على المستوى التكتيكي، لكن ستظل الخلافات قائمة على الناحية الاستراتيجية، ليس فقط في الملفّ السوري، بل وفي جميع أضلاع خماسي عدم الاستقرار المذكورة أعلاه: ومنها الدعم التركي لشعب التتر في شبه جزيرة القرم، وملفّ أرمينيا وناجورنو قرة باغ، وإعادة ترسيم منطقة البلقان لا سيما كوسوفو وألبانيا، والاستقرار في البحر الأسود والسيطرة على المضايق. لذا فإن عودة الخلافات إلى السطح ليست إلّا مسألة وقت فحسب.

الصين.. العصا والجزرة

ترتبط العلاقات التركية الصينية بمتغيّرين اثنين يتفاعلان فيما بينهما وفقاً لظروف اللحظة. فهناك تبادل تجاري واستثمارات لا تقدّم توقّعات كبيرة للغاية بالازدهار إذا نجحت مبادرات مثل (الحزام والطريق) بالكامل، وهناك أيضاً توتّر سياسي، شبه دائم، ناتج عن الدعم الذي تمنحه تركيا للأويجور في إقليم شينجيانج الصيني، والأساسي في السياسة الخارجية التركية منذ بداية الحرب الأهلية في الصين عام 1949.
أما نقطة معرفة أي من التيارين ستكون له الغلبة على المدى القريب أو المتوسط  فأمر يصعب تحديده. ففي المحور الأول، ليس سراً أنّ تركيا ونظراً للظروف التي تمرّ بها باتت بحاجة للتمويل الخارجي واهتمامها بالتكامل بين مشروعها (الممرّ المركزي)، الذي يهدف لجعل شبه جزيرة الأناضول في قلب شبكة إقليمية موسّعة من خطوط السكك الحديدية، وبين المبادرة الصينية، دليل على ذلك. لكن وإدراكاً منها بعدم التكافؤ في العلاقات، فإنّ أنقرة تحاول إنقاذ مصالحها، وهو ما يتّضح في المفاوضات حول مدّ خط السكك الحديدية فائقة السرعة بين مدينتي أدرنة وقارص، لذا تجد تركيا والصين صعوبات جمّة في التوصّل لاتفاقات.

لا توافق استراتيجي بين روسيا وتركيا رغم إمكانية التوصّل لاتفاقات على المستوى التكتيكي لكن ستظل الخلافات قائمة على الناحية الاستراتيجية

لذلك يبدو أنّ البعد الاقتصادي من العلاقات الثنائية يدعو للتحلّي بقدر من العملية فيما يخصّ البعد السياسي، وقد أظهرت تركيا بالفعل اعتدالاً ملحوظاً في خطابها حول أقلية الأويجور. وإذا كان وزير الخارجية التركي قد وجّه انتقادات لاذعة للسلطات الصينية بسبب سياساتها في شينجيانج مطلع العام الجاري، فإنّ الردّ الصيني بغلق القنصلية في إزمير والتحذير من ردّ فعل على المستوى الاقتصادي كانا كافيين لالتزام أنقرة الصمت منذ ذلك الحين. ومن اللافت للاهتمام أيضاً عدم انضمام تركيا لـ22 دولة وقّعت على إعلان مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الصادر في الثامن من تموز (يوليو) 2019 والذي يتّهم صراحة الصين بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان في الإقليم.

ومن شأن اعتماد تركيا اقتصادياً بشكل أكبر أن ينتج عنه مزيد من الاعتدال في موقف الحكومة التركية تجاه أقلية الأويجور. أما حال حدوث عكس ذلك فمن المتوقّع أن ترتفع حدّة التوتّر السياسي بسبب هذه القضية إذا باء إدماج مبادرة (الممرّ المركزي) مع (الحزام والطريق) بالفشل في نهاية المطاف.

توتّر مع الغرب

الولايات المتحدة.. ظلال تخيّم على الأضواء

تتّسم العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة بانعدام ثقة تقليدي، وهناك نقطتان تحولان دون حدوث تقارب حقيقي بين الجانبين: وجود فتح الله جولن على الأراضي الأمريكية، والذي تُشار بأصابع الاتهام لمنظمته (حزمت) بالوقوف وراء الانقلاب العسكري المزعوم في تموز (يوليو) 2016 والذي طلبت تركيا في أكثر من مناسبة إلى الولايات المتحدة تسليمه لها، والثانية هي دعم الولايات المتحدة لـ (وحدات حماية الشعب) في سوريا، وهي الميليشيات التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي. وتنظر تركيا لكل من (حزمت) وحزب العمال الكردستاني بوصفهما تهديدات لوجودها، لذا فطالما لم تحدث تسوية لهاتين النقطتين، فإنّ احتمالات التوصّل لمصالحة حقيقية وصادقة ضعيفة للغاية.

من الضروري إبراز أنّ الاتحاد الأوروبي ليس لديه حماس حقيقي لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي

توجد بالطبع عوامل أخرى تسهم في رفع حدّة التوتر الدائم تقريباً، وهي أعراض أكثر منها مسبّبات، لمشكلات جذرية. ومن بينها ذلك الذي يشغل حالياً واجهات الصحافة العالمية، وهو شراء تركيا لمنظومة الدفاع الجوي الصاروخي روسية الصنع (إس-400). والواقع أنّ هذا الخلاف يعود لعشرة أعوام مضت. فمع إدراكها لأهمية القدرات العملياتية من أجل أمنها في محيطها الذي يشهد وجود جيران يمتلكون صواريخ في ترساناتهم، حاولت أنقرة في البداية شراء منظومة (باتريوت) الأمريكية، لكن إزاء استحالة التوصّل لاتفاق مع إدارة أوباما، وجدت ضالّتها في منظومة (سي بي إم آي إي سي)، قبل أن تستقرّ في النهاية على المنظومة الروسية.

اقرأ أيضاً: إخوان سوريا ومغارة علي بابا في تركيا

ورغم أنّ الولايات المتحدة قدّمت مؤخّراً عرضاً بشأن (باتريوت)، لكن عقود المنظومة الروسية كانت قد وُقّعت بالفعل والإخلال بها يعني خسائر بالمليارات. كما تم بالفعل تسليم بعض مكوّنات المنظومة الدفاعية الروسية (إس-400)، التي يُنتظر أن تدخل الخدمة في 2020. ونتيجة لهذا الاتفاق، تعرّضت تركيا للطّرد من برنامج المقاتلة (إف-35) التي تنتمي للجيل الخامس، والتي كان يفترض أن تحصل تركيا منها على 100 وحدة. لكن على الرغم من كل ذلك، بدا الرئيس ترامب متفهّماً لموقف أنقرة، وكذلك متحفّظاً بشدّة فيما يخصّ فرض عقوبات على المتعاقدين مع شركات روسية تخضع للحظر.

وبغضّ النظر عن الخلافات الداخلية في الإدارة الأمريكية، فإنّ النزاع انتهى الأمر به ليصبح مسألة تتعلّق بالكرامة والسيادة الوطنية بالنسبة لتركيا. لذا فمن المتوقّع بقوة أن يكون فرض عقوبات وطرد تركيا من برنامج المقاتلة (إف-35) عاملاً مساعداً على التقارب بين تركيا وروسيا والصين. ويدور الحديث بالفعل في الوقت الحالي عن السعي وراء بدائل في الصناعات الدفاعية الروسية.

الاتحاد الأوروبي.. الإحباط

إذا كان يتعّين انتقاء كلمة تعبّر عن حالة العلاقات الراهنة بين الاتحاد الأوروبي وتركيا فستكون "الإحباط". إحباط بسبب نفاد الصبر إزاء التقدّم بطيء الوتيرة الذي تحقّق منذ تقديم تركيا في 1959 طلب انضمامها كعضو شريك في السوق الأوروبية المشتركة، ثم وبالتحديد منذ 1987 حين طلبت رسمياً أن تصبح عضواً كامل الحقوق في الاتحاد الأوروبي، قبل أن تصل المحادثات لحالة من الجمود. الأمر الآخر هو الاعتقاد بأنّ المشروع الأوروبي دخل في نفق الفشل لا سيما مع الأزمة الداخلية العنيفة التي يتعرّض لها.

إنّ الخلافات والاتهامات والانتقادات المتبادلة لا حصر لها بين الجانبين، لكن العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي- المتقلّبة دائماً- شهدت تدهوراً كبيراً منذ الانقلاب العسكري الفاشل في 2016. فقد كانت تصريحات الزعماء الأوروبيين في الأيام التالية للمحاولة الانقلابية تشير إلى "انقلاب زائف"، وهو ما ردّت عليه تركيا بتوجيه الاتهامات للدول الأوروبية بإيواء عناصر (حزمت) وحزب العمال الكردستاني، الأمر الذي أدّى لتوسيع الفجوة القائمة بالفعل وتوتير العلاقات وصولًا لدرجة تجميد عملية انضمام تركيا رسمياً. كما أنّ الدعم الأوروبي غير المحدود لليونان وقبرص في ملفّ توزيع الجرف القاري بشرق البحر المتوسط، يعدّ نقطة خطيرة تدفع للاحتكاك بين الأطراف قد يتطوّر لمرحلة التصعيد العسكري.

على الجانب الآخر، من الضروري إبراز أنّ الاتحاد الأوروبي ليس لديه حماس حقيقي لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وليس بسبب الاختلافات الثقافية فقط. فإدماج دولة تعدادها 80 مليون نسمة إلى آليات اتخاذ القرار في مجلس الاتحاد الأوروبي يمثّل تحدّياً بالنسبة للقدرات الحالية للدول الأكثر سكّاناً على إيجاد أغلبية مؤهّلة وأقلّية اعتراضية. وفي هذا السياق، كان الزعماء الأوروبيون واضحين لأقصى درجة. ففي نقاش متلفز أثناء الحملة الانتخابية بألمانيا في أيلول (سبتمبر) 2017 كشفت المستشارة أنجيلا ميركل والمرشّح الاشتراكي مارتين شولتس علانية عن معارضتهما لدخول تركيا إلى النادي الأوروبي، ما جعل وقف عملية الانضمام نقطة رئيسة في الحملة الانتخابية. وبنفس العبارات تقريباً صرّح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، رغم اقتراحه وضع "شراكة" خاصة بين الاتحاد وتركيا.

لا تغفل تركيا بالطبع عن هذه الحقائق، ولا يمكن التقليل من آثارها. بيد أنّه رغم كل شيء يسود الطابع العملي ويستمر الانضمام للاتحاد الأوروبي في كونه هدفاً استراتيجياً ذا أولوية قصوى بالنسبة لتركيا. لذا وعلى الرغم من وجود خلافات عميقة فيما يخصّ المبادئ، فإنّ الاتحاد الأوروبي ما زال الشريك التجاري الأول لأنقرة.


تحليل حول توجّه تركيا في الفترة الحالية، عمل للمحلل فيليبي سانشيز تابيا نشره المعهد الإسباني للدراسات الاستراتيجية

رابط الترجمة عن الإسبانية: https://bit.ly/2mysXbt



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية