هل يصبّ لاهوت التحرير الإسلامي في صالح الإسلام السياسي؟

هل يصبّ لاهوت التحرير الإسلامي في صالح الإسلام السياسي؟

هل يصبّ لاهوت التحرير الإسلامي في صالح الإسلام السياسي؟


08/01/2024

يعد مشروع حسن حنفي في تأويل علم الكلام الإسلامي ناحية الأهداف التحررية للمسلمين جزءاً أصيلاً وجوهرياً من مشروعه الفكري؛ إذ قدم حنفي في تحقيق هذا الجزء من مشروعه أكبر موسوعة من موسوعاته الكثيرة، وهي الأهم في المجال الذي تناوله؛ إذ جاء في صورة كتابه "من العقيدة إلى الثورة" في خمسة مجلدات، فهو المشروع الأضخم من حيث الكم، والأعمق من حيث الآليات التأويلية التي استخدمها ليستخرج دلالات تحررية من المضامين والبنية القديمة لعلم أصول الدين. يريد حنفي تحويل الدين إلى ثورة وإلى طاقة ثورية تمد المسلمين بسبل التحرر، وذلك بعد أن فشلت المشاريع الليبرالية والاشتراكية والقومية في تحقيق مثل هذا التحرر.

يمكن اعتبار مشروع حسن حنفي "من العقيدة إلى الثورة" النسخة الإسلامية من لاهوت التحرير المسيحي

ففي رأي حنفي، فشلت الاشتراكية العربية بفروعها الناصرية والبعثية، كما فشل اليسار العربي، في تحقيق التحرر من الهيمنة الغربية والتخلص من الانحطاط التاريخي للمسلمين، وذلك بسبب الأصول الغربية لهذه المشاريع وارتباطها بخبرات تاريخية أوروبية ليست نابعة من تراث المسلمين. وبالتالي يكون الموضوع الأولى والأقرب كمصدر للثورة والتحرر هو معالجة التراث الإسلامي بطريقة تبرز ما فيه من إمكانات تحررية، وذلك بعد تأويله في هذا الاتجاه، ولا شك أنّ تجربة لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية كانت أمام عينيه وهو يفكر فيما أسماه باليسار الإسلامي، وبذلك يمكن النظر إلى مشروع حسن حنفي "من العقيدة إلى الثورة" على أنّه النسخة الإسلامية من لاهوت التحرير المسيحي.
لكن هل هذه النقلة مشروعة؟ بمعنى، هل استنساخ تجربة لاهوت التحرير المسيحي في أمريكا اللاتينية من أجل إخراج طبعة إسلامية منه مشروع صحيح نظرياً وعملياً وتاريخياً أم لا؟ واستباقاً لما سيأتي تفصيله أقول إنّ هذه النقلة ليست مشروعة وليس لها ما يبررها من داخل التراث الإسلامي نفسه، وإن كانت مشروعة في نظر حسن حنفي بناء على رصده هو لواقع العالم الإسلامي الخاضع للهيمنة الغربية حتى الآن.

اقرأ أيضاً: التراث في فكر حسن حنفي
يتعامل حنفي مع تراث علم أصول الدين على أنّه مادة خام يستطيع تشكيلها تأويلياً كما يريد، وهو يعامل نصوص هذا العلم على أنّها حمّالة أوجه دلالية كثيرة، يمينية ويسارية، قمعية وتحررية، محافظة وثورية.
لكن هذا التعامل مع نصوص ذلك العلم هو نقل لنفس نوع التعامل مع النص الديني باعتباره حمّال أوجه وباعتباره يحتمل ويتضمن كل ما يمكن أن يستخرجه منه المؤول. هذه النوعية في التعامل منقولة من علوم تفسير النص القرآني إلى نص علم الأصول. يعود حنفي بالنص الأصولي إلى أصله؛ أي يعمل على تأصيل علم الأصول، وأصول علم الكلام هي أنّه علم إنساني مقلوب، يتحدث عن الإله وهو يقصد الإنسان، ويمثل وعياً دينياً مغترباً، ينقل إلى الإله كل آمال وأحلام الإنسان، حيث يصير الإله انعكاساً لكل المبادئ والقيم الإنسانية.
جوهر لاهوت التحرير عند حسن حنفي
يتمثل لاهوت التحرير الإسلامي عند حسن حنفي في تحويل العقيدة إلى ثورة؛ أي تأويل العقائد بحيث تتحول إلى طاقة ثورية تمد المسلمين المعاصرين بالدافع نحو التحرر.
ومن أجل هذا الهدف يضفي حنفي على العقائد الإسلامية دلالات ثورية، وذلك بأن يعيد تأويلها؛ فالإلهيات عند حنفي ما هي إلا إنسانيات مقلوبة، والإله بذاته وصفاته وأفعاله ما هو إلا الإنسان الكامل الذي يتعالى به وعي المتدين خارج العالم ويجعل منه شخصاً مفارقاً. والوعي بالإله ما هو إلا الوعي الخالص؛ فإذا كان الإله هو الوجود الخالص المتعالي على المكان والزمان وعلى كل تعين، فإن الوعي بهذا الإله هو الوعي الخالص، وهو ليس إلا وعي المتدين بالذات الخالصة المتعالية التي ليست سوى الذات الإنسانية.

هذه النقلة ليست مشروعة وليس لها ما يبررها من داخل التراث الإسلامي نفسه

لكن لما كان التدين عند حنفي هو وعي مغترب، زائف وشقي، لا يعي بذاته إلا من خلال تخيله لوعي آخر مفارق، فإنّ هذا الوعي الخالص بالذات يتحول إلى إيمان ديني بإله شخصي.
وعند تناول حنفي لصفات هذا الإله المشخص، يكتشف أنّها ليست سوى صفات الإنسان الكامل؛ "فالصفات السبع هي في حقيقة الأمر صفات إنسانية خالصة، فالإنسان هو العالم القادر، والحي، والإنسان هو السميع والبصير والمتكلم والمريد، كل صفة تعبر عن طاقة إنسانية أو ملكة... فكل المادة التي وضعها القدماء تحت هذا الاسم لا تشير إلى موضوع فعلي بل تعبر عن موقف إنساني خالص تجاه موضوع مثالي".
وعلى هذا الأساس يحكم حنفي على علم الكلام بأنه علم مقلوب، يعتقد فيه المتكلم أنّه يبحث في الإله في حين أنّه في الحقيقة يبحث في الإنسان الكامل، والذي يجعل المتكلم يقلب موضوع تفكيره من الإنسان الكامل إلى موضوع مثالي خارج الإنسان وخارج العالم هو الحالة الاجتماعية والسياسية المتردية التي يعيشها، والتي تجعله يقذف بكل صفات الكمال الإنساني خارج الإنسان ويعتقد أنها صفات لكائن مفارق.
فالمتدين يتصور إلهاً عادلاً؛ لأنّه يشعر بالظلم، ويتصور إلهاً قادراً؛ لأنّه يشعر بالعجز، ويتصور إلهاً قوياً جباراً؛ لأنّه يشعر بالضعف، ويتصور إلهاً رحيماً؛ لأنّه يشعر بقسوة الحياة؛ ويصير توحيد الإله تعويضاً عن حالة التفكك والانقسام في المجتمع.

اقرأ أيضاً: حسن حنفي: لا تعارض بين اليسار والإسلام الحقيقي
ولما كان واقع الظلم والضعف والعجز والانقسام وقسوة الحياة نتيجة للاستبداد السياسي والتخلف الحضاري والاستعمار، فإنّ التأليه بذلك لن يكون سوى نوع من التنفيس العاطفي الانفعالي عن الشعور بهذا الواقع الأليم: "إذن عبارات: الله عالم، الله قادر، الله حي، الله سميع، الله بصير، الله متكلم، الله مريد، إنما تعكس مجتمعاً جاهلاً عاجزاً ميتاً لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم، مسلوب الإرادة. وبالتالي يكشف الفكر الديني الذي يجعل الله موضوعاً في قضايا من هذا النوع عن الظروف الاجتماعية والسياسية التي يعيشها المجتمع الذي تطلق فيه أمثال هذه القضايا" (من العقيدة إلى الثورة، المجلد الثاني، ص 604 – 605). وهذه علمنة للعقيدة لن يفهمها الجمهور، لأنّها تشكك في وعيه الديني وتصفه بأنه وعي زائف مغترب مقلوب.
أسئلة هوية المشروع وجدواه وقارئه المستهدف
بعد أن تعرفنا على النقاط المركزية في مشروع لاهوت التحرير عند حنفي، يجب علينا طرح عدد من الأسئلة حول خلفياته الفكرية والنظرية، وجدواه بالنسبة لتحرير جماهير المسلمين، وهوية القارئ المستهدف من مثل ذلك التأويل الثوري للعقيدة، بمعنى، هل هذا القارئ من العامة أم من الخاصة؟
السؤال الأول الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: هل تمت صياغة علم أصول الدين الإسلامي بهدف تحرري وثوري من الأصل؟ أم أنّه كان جزءاً أصيلاً من الثقافة الدينية الإسلامية المحافظة في بنائها ومضمونها؟ الحقيقة أنّ إضفاء حنفي لدلالات ثورية وتحررية على علم أصول الدين هو إضفاء لدلالات لا يملكها هذا العلم من الأصل ولم يعرفها ولم تكن مقصودة فيه؛ ولذلك تبقى محاولة حنفي لتثوير العقيدة محاولته هو الشخصية، وتظل مصابة بالنخبوية والانحصار في القلة المثقفة المقتنعة بمشروع حنفي من البداية، وتظل لذلك منعزلة عن جماهير المسلمين الغارقة في التسلف وعمليات الأسلمة من قبل تيارات الإسلام السياسي والتيارات الأصولية.

يتمثل لاهوت التحرير الإسلامي عند حسن حنفي في تحويل العقيدة إلى ثورة

السؤال الثاني: هل يصبّ لاهوت التحرير الإسلامي في صالح الإسلام السياسي؟ نعم، بالتأكيد. ذلك لأنّ قبول المرء بالتأويل الثوري التحرري لأصول الدين الإسلامي سوف يدفعه تلقائياً نحو قبول حركات الإسلام السياسي وادعاءاتها بأنها قوة ثورية تريد تحرير المسلمين، بناء على فكرة تقول إنّ هذه الحركات ربما تنطلق من طاقة ما ثورية في التراث الديني الإسلامي لا يعيها المسلمون مباشرة، لكنّها متضمنة بطريقة ما في النصوص التراثية.
لقد كان من السهل على لاهوت التحرير المسيحي أن يتحول إلى اتجاه ثوري تحرري في أمريكا اللاتينية والوصول إلى الجماهير العريضة هناك، وذلك لما في المسيحية الأصلية من مضامين تحررية حقيقية. فقد انتهت الدراسات المنتمية لاتجاه المسيح التاريخي على مدى قرنين من الزمان إلى أن المسيح التاريخي، أي المسيح الحقيقي الذي عاش في ظل الإمبراطورية الرومانية (لا المسيح اللاهوتي الذي هو هدف للإيمان)، كان مناضلاً ثورياً، واجه المؤسسة الدينية اليهودية في عصره لتعاونها مع الرومان، وواجه حكام منطقة اليهودية التابعين للرومان، كما واجه الإمبراطورية الرومانية نفسها باعتباره مناضلاً قومياً يريد تحرير اليهود من ربقة الحكم الروماني ومن سيطرة وفساد المؤسسة الدينية الرسمية.

اقرأ أيضاً: ما التراث؟ وكيف هي علاقتنا به؟
أما الإسلام فلم يظهر في ظل إمبراطورية واسعة الأركان، بل ظهر في منطقة قاحلة اختفى منها أي وجود إمبراطوري روماني أو فارسي، ولذلك فلم يكن مواجهاً بقوة أجنبية يريد التحرر منها؛ وهذا ما جعل التراث الديني الإسلامي قوة محافظة في الأساس، نظراً لأن هذا التراث سرعان ما أدى وظيفة إضفاء الشرعية على إمبراطوريات عالمية على شاكلة الرومان والفرس، في صورة الدول الأموية والعباسية والعثمانية.
السؤال الثالث: هل اعتمد حنفي في تأويله لأصول الدين الإسلامي على هذه الأصول نفسها أم على أصول أخرى؟
الحقيقة أنّ حنفي، وكي يؤسس تأويليته التحررية على النصوص التراثية الخاصة بعلم أصول الدين، كان يوظف تقنيات تأويلية من الفلسفة الغربية (وبالتالي فتأويليته خارجية وليست داخلية، فليس هناك ما يبرر له مثل هذا التأويل من داخل النصوص القرآنية أو التراثية، بعكس تأويلية ابن رشد التي بناها على مقاصد الشرع)، وخاصة من لسنج وفويرباخ وهيجل والمدرسة التاريخية الألمانية في دراسة النصوص المقدسة. فالإطار النظري الذي استمد منه تأويليته غربي وغريب عن الموضوع الذي وظف فيه هذه التأويلية.

حنفي وهو يؤسس تأويليته التحررية كان يوظف تقنيات تأويلية من الفلسفة الغربية

وفي المحصلة النهائية يظهر النص التراثي كما لو كان وعياً زائفاً وتشكلاً كاذباً لأهداف تحررية لا تستطيع أن تصفح عن نفسها مباشرة وتتعالى لاهوتياً.
يوظف حنفي مقولة الوعي المغترب ومقولات التصعيد اللاهوتي في تأويله لأصول الدين؛ أي إنّه يعالج أصول الدين القديمة على أنّها تعبير عن وعي ديني مغترب وزائف، لكن ما يسفر عنه تأويله لأصول الدين هو الكشف عن أنه كان وعياً زائفاً. فالتوحيد في التراث الإسلامي يتحول مع حنفي إلى توحيد الأرض والشعب.
لكن ماذا عن التوحيد القديم نفسه؟ سوف يكون في المحصلة النهائية وعياً زائفاً بالتوحيد الحقيقي وتصعيداً له إلى توحيد الإله كبديل عن توحيد الأرض والشعب؛ وسوف يصير التراث القديم في التوحيد تشكلاً كاذباً لم يستطع التعبير عن التوحيد الحقيقي المادي والواقعي، وأحل محله توحيد الإله.

اقرأ أيضاً: هل القطيعة المعرفية مع التراث ممكنة؟
أين هي إذن المضامين الثورية التحررية لعلم أصول الدين بعد أن اتضح أنّ هذا العلم تعبير عن وعي زائف وتصعيد لاهوتي لأهداف تحررية لم تستطع الوصول إلى وعي المسلمين القدامى وجماهير المسلمين المعاصرين؟
السؤال الرابع: لماذا يجب على كل مشروع تحرري أن يبدأ بالتراث؟ لماذا يُفرض على التحرر أن يكون تأويلاً تحررياً للعقيدة؟ لماذا يجب على التحرير أن يكون لاهوتاً للتحرير؟ ألا يمكن للتحرير أن يكون مباشراً صريحاً ومستقلاً عن أي عقيدة؟ يقول حسن حنفي إن الدين لا يزال هو القوة المحركة للجماهير، ويدعو من أجل ذلك إلى استخدامه استخداماً جديداً بأنّ نؤوله ثورياً من أجل التحرير. على الرغم مما يبدو على هذا المشروع من حداثة، إلا أنّه لا يعيد بناء علم أصول الدين، بل ينفيه تماماً بعلمنته بالكامل، وعلمنة العقيدة تنزع عنها القداسة التي في أعين الجماهير.
إنّ مشروع حنفي مزدوج الهوية، فهو يريد له أن يكون مشروعاً إصلاحياً دينياً في نظر الجماهير المتدينة، وأن يكون مشروعاً في علمنة الدين في نظر المثقف، لكن علمنة الدين هي مشروع للخاصة وحدها، وهي فقط التي تستطيع فهمه واستيعابه، لكنه لا يمكن أن يكون مشروعاً للجماهير المتدينة التي لا تفهم إلا ظاهر النص.
خاتمة
مشروع حنفي ليس سوى حل وسط فكري نخبوي مع التيارات الإسلامية، نوع من التفاهم والتقريب للعقيدة من التيارات العلمانية الثورية في المجتمع. مشروع حنفي أيضاً هو تصريح بالتأويل للجمهور، ذلك التصريح الذي حذّر منه ابن رشد، ومن أجل هذا التصريح نفسه فهو يصطدم بالوعي الديني للجمهور؛ فلن يتقبل الجمهور من يقول له إن وعيه الديني مغترب وزائف.

القبول بالتأويل الثوري التحرري لأصول الدين الإسلامي يدفع تلقائياً نحو قبول حركات الإسلام السياسي

وهو من أجل ما سبق مشروع للخاصة، لا شك في ذلك، إلا إذا تجذر هذا المشروع في حركة ثقافية واسعة في المجتمع شبيهة بحركة التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر، لكنّه يفتقد الدعم المؤسسي ودعم الدولة ودعم الجماهير، أي يفتقد كل أنواع الدعم التي أنجحت حركة التنوير الأوروبية.
الجماهير تفضل المسكنات، وتفضل العبودية الطوعية والإيمان التسليمي، وهي إلى ظاهر النص أقرب، وإلى الاستكانة لسلطة رجال الدين التي تعطيهم شيئاً من الأمان الوجودي الزائف. 
مشروع حنفي يفترض قارئاً استطاع التخلص من الفهم السلفي والسياسي للإسلام كي يكون منفتحاً على القراءة التحررية التي يقدمها، وبدون هذا الإعداد المسبق، وبدون تلك العقلية الخاصة في استقبال تأويلية حسن حنفي، يصطدم المشروع بالقناعات السلفية للمتلقي إذا كان من العامة وبقي على حاله.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية