من استدرج البغدادي؟ ولماذا؟

من استدرج البغدادي؟ ولماذا؟


28/10/2019

في مساء السبت، الموافق 26 تشرين الأول (أكتوبر) 2019، صدر الأمر لفرقة (Navy Seal) بالاستعداد ثمّ التحرك لتنفيذ عملية ذات طبيعة مهمّة، وعلى الفور أقلعت ثماني مروحيات عسكرية تابعة للتحالف الدولي من قاعدة "أنجرليك" الجوية، التي تقع على الحدود السورية التركية، باتجاه بلدة باريشا الحدودية بريف إدلب الجنوبي، وفي منتصف ليل السبت، بدأ إطلاق الطيران المروحي لعدة صواريخ، استهدفت مبنى وكذلك موكب سيارات بالقرب منه، ثم بدأت بعدها عملية إنزال لجنود المشاة التابعين لقوات التحالف، الذين فتحوا نيران الرشاشات على المنطقة، وطوقوا عدة مقرات عسكرية ببلدة باريشا، تمكنت قوات التحالف من تدمير المبنى ليكتشفوا أنّ أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم داعش، كان يتحصّن فيه، ومعه زوجتاه، وأحد قادة تنظيم "حراس الدين"، وهو أبو محمد الحلبي، المعروف بـ "أبو البراء"، وزوجته وأطفاله الخمسة.

الأقرب للتوقّع أنّ طرفاً وسيطاً أقنع البغدادي باللجوء لتركيا عبر الفصائل الموالية لها مثل "حراس الدين" بهدف تهريب أسرته هناك

تقدّم مقاتلو فرقة (Navy Seal)، وهم يطلقون النيران، فقتلوا أبو البراء وزوجته وأطفاله الخمسة وزوجتَي أبو بكر البغدادي، وأحكمت الفرقة محاصرة البغدادي، فلم يجد حلاً سوى أن يفجّر نفسه بسترة متفجرة كان يرتديها.
حمل الجنود جثامين المقتولين في الغارة، ومعها أشلاء البغدادي، وسرعان ما انتشر خبر مقتله، فأعلنت "سي إن إن"، عن مسؤول أمريكي قوله: إنّ "(CIA) ساعدت في تحديد مكان زعيم تنظيم داعش، أبو بكر البغدادي"، وأثبت العراق حضوره في المشهد، بإعلان بغداد، بحسب وكالة الأنباء "رويترز"؛ أنّ "العراق شارك استخباراتياً في جمع المعلومات التي ساعدت في كشف مكان أبو بكر البغدادي"، وتابعتها تركيا؛ فأعلنت وزارة الدفاع أنّ "العملية تمّت بالتنسيق بين أنقرة وواشنطن".

اقرأ أيضاً: أبو بكر البغدادي: ما مستقبل تنظيم داعش بعد مقتل قائده؟
المثير في تلك القصة؛ أنّ مكان العلمية هي قرية باريشا، في محيط سرمدا، التابعة لمحافظة إدلب، وهي قرية على الحدود مع تركيا من ناحية إقليم الإسكندورنة، بالقرب من أنطاكيا، ولا تبتعد عن الحدود التركية سوى خمسة كيلومترات، وهو مكان لا يصلح للاختباء لرجل مثل أبو بكر البغدادي، فهذه المنطقة في ريف إدلب، وهي تحت سيطرة قوات "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً)، أو تنظيم "حراس الدين"، وكلاهما أعداء لداعش وأعداء للبغدادي! وكانت بينهم معارك قتل فيها كثيرون؛ ففي آذار (مارس) 2014؛ قامت عناصر تنظيم داعش بشنّ هجوم  على قوات جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام لاحقاً) المتمركزة في بلدة "مركدة" الإستراتيجية، بالريف الجنوبي لمدينة الحسكة، والتي أسفرت عن سيطرة "داعش" على البلدة بشكل كامل، وانسحاب عناصر النصرة والكتائب الإسلامية إلى بلدة الصور بالريف الشرقي لدير الزور، كما تأكّد مصرع 13 عنصراً، على الأقل، من "داعش"، وقرابة الثلاثين من تنظيم جبهة النصرة، خلال الاشتباكات ذاتها.

اقرأ أيضاً: داعش ليبيا.. سيناريوهات ما بعد مقتل البغدادي
أما "حراس الدين"؛ فهو تنظيم منشقّ عن هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)؛ بسبب اعتراض أفراده على قيام زعيم "النصرة"، محمد الجولاني، على فكّ الارتباط بتنظيم القاعدة، مما يعني في أدبياتهم نقض البيعة لتنظيم القاعدة، زعيم "حراس الدين" هو أبو همام الشامي، الذي كان سابقاً عضواً في جماعة هيئة تحرير الشام، والتنظيم ما يزال يعلن ولاءه للقاعدة، مع ملاحظة أنّ خلافه مع "الهيئة" ليس عميقاً كما يبدو، حتى إن كان ذلك سبباً رئيساً للانفصال عنها، فزعماء التنظيمين يتبادلان الانتقادات علناً لكنّ "الحرّاس" يعملون تحت رعاية "الهيئة"، ممّا يبقيهم تحت سيطرتها.
فإذا كانت إدلب تحت سيطرة "هيئة تحرير الشام" أو "حراس الدين"، أو الجيش السوري النظامي، فلماذا يختبئ أبو بكر البغدادي هناك؟ ولماذا اصطحب معه زوجتَيه؟ ولماذا اختار أن يختبئ في بيت أحد قادة تنظيم "حراس الدين"؟ فقد أعلنت أكثر من جهة أنّ البغدادي كان يختبئ عند أبو محمد الحلبي، الملقّب بـ "أبو البراء"، وهو أحد أهم قادة تنظيم "حراس الدين"، وأنّه قتل مع البغدادي! مع العلم أنّ هذا التنظيم قد استُهدف، في آب (أغسطس) الماضي، وكانت وزارة الدفاع الأمريكيّة أشارت إلى أنّ قواتها قصفت موقعاً لجماعة مرتبطة بتنظيم "القاعدة"، شمال إدلب! وذكر المتحدث باسم القيادة الوسطى، الكولونيل إيرل براون؛ أنّ الهجوم استهدف قادة جماعة "تنظيم القاعدة في سوريا"، المقصود هنا تنظيم "حراس الدين"، باعتباره تنظيماً موالياً للقاعدة.

اقرأ أيضاً: مقتل البغدادي.. هل ينهي تنظيم داعش؟
يبدو الأمر غير منطقي، ما الذي يدفع رجلاً في حجم البغدادي، ما تزال له قوة ضاربة على الأرض السورية والعراقية، وما تزال الهيئات الأممية تتخوف من عودة قريبة لتنظيمه، وما تزال اقتصاديات تنظيمه قوية وفعالة وقادرة على العودة، أن ينتقل إلى حدود معسكر مناوئين له، ومستهدفين من القوات الأمريكية، وينزل ضيفاً برفقة زوجتيه على قائد على خلاف معه؟! ربما الأقرب للتوقّع أنّ طرفاً وسيطاً أقنع البغدادي باللجوء إلى تركيا عبر الفصائل الموالية لها، مثل "الحراس"؛ فهم، وإن كان تنظيم داعش يتهمهم بالردّة، إلا أنّهم الأخفّ عداوة بالمقارنة مع "جبهة النصرة"، بهدف تهريب أسرته إلى هناك، أسوة بما قامت به إيران مع أسرة أسامة بن لادن.  وهذا يفسّر لماذا اصطحب معه زوجتَيه، ويدعم هذا الاحتمال الخبر الذي أعلنته "رويترز"، على لسان مسؤول تركي كبير، من أنّ "البغدادي وصل إلى مكان العملية الأمريكية قبل 48 ساعة من الغارة"، ومن المحتمل أنّ هناك من استدرج الإرهابي الأول في العالم إلى مسرح العمليات بغرض التخلص منه.

كما استغل أوباما إعلان مقتل بن لادن لرفع شعبيّته ها هو ترامب يفعلها من جديد ويعلن مقتل البغدادي

والسؤال الثاني: لماذا أرادت الإدارة الأمريكية التخلص من البغدادي؟ فلم تكن الحالة العسكرية لتنظيم داعش تستدعي قتل البغدادي؛ فهو لا يدير التنظيم من فترة طويلة، لذا فغيابه لن يؤثر كثيراً، إلا بشكل معنوي فقط؛ فالبغدادي لم يكن قائداً ميدانياً من الأساس، ولم يخض أيّة معارك ميدانية على الإطلاق، بل كان خطيباً معلماً، ومفتياً شرعياً لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، يبدو أنّ الهدف من العملية وما صاحبها من زخم هو رفع شعبية الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ولتحقّق الإدارة الأمريكية بعض المكاسب المعنوية في حربها ضدّ الإرهاب، وكما استغل الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، إعلان مقتل أسامة بن لادن لرفع شعبيّته، ها هو دونالد ترامب يفعلها من جديد، ويعلن مقتل زعيم تنظيم داعش، وهو مقتل الإرهابي الأول في العالم، أبو بكر البغدادي، الذي رصدت الإدارة الأمريكية مبلغ 35 مليون دولار ثمناً لرأسه.
ما تزال الرواية الأمريكية مليئة بالتناقضات، وما يزال الغموض سيد الموقف، لكن ممّا لا شكّ فيه؛ أنّ تنظيم داعش بعد البغدادي، ليس هو التنظيم في عهده، وربما يصبح أكثر شراسة وأكثر حماقة وأقل انتصاراً.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية