أدبيات التطرف.. هل نواجهها كما يجب؟

أدبيات التطرف.. هل نواجهها كما يجب؟


29/10/2019

في سياق متابعة جديد الخطاب الإسلامي الحركي، في نسخته القتالية أو "الجهادية"، تصفحنا بعض الأعداد الأخيرة للمجلات المحسوبة على مشروع تنظيم "داعش"، كما نُعاين ذلك في مضامين مجلة "كلمة حق"، ونتوقف هنا بالتحديد عند افتتاحية العدد 21، والصادر في شهر نيسان (أبريل) الماضي، دون الحديث عن إخراجه الفني، الذي نزعم أنه ينافس أو يتفوق على الإخراج الفني للعديد من المجلات الصادرة عن مؤسسات دينية، معنية، بشكل أو بآخر، بالتصدي للأدبيات الإسلامية "القتالية".

ما يثير الانتباه في افتتاحية مجلة داعش "كلمة حق" العدة المعرفية لمحرّرها

جاء عنوان الافتتاحية كالتالي: "الدولة الإسلامية أم الدولة النيوزيلاندية"، حررها محمد إلهامي، وتفاعل محرّرها مع اعتداءات نيوزيلندا الأخيرة، معتبراً مثلاً أنّ "تعامل الحكومة النيوزيلاندية مع مذبحة المسجدين كانت فوق المتوقع، وأنّها تعاملت مع الموضوع كما ينبغي لحكومة علمانية ليبرالية تؤمن بالتعدد والتنوع؛ أي كما ينبغي للصورة العلمانية الليبرالية كما ترسمها وتتمناها التنظيرات المعجبة بها والمؤيدة لها"، ومحاولاً الإجابة عن السؤال التالي: "إنّ مما يتمناه الإنسان السويّ أن يعيش الناس بأمان وسلام وأن يجد المتطرف منهم رفضاً عاماً من الناس ومن السلطة، وأن يجد الضحايا تعاطفاً عاماً من الناس والسلطة معاً.. فهل هذه الصورة الجميلة الحافلة بالمشاعر الإنسانية موجودة في الدولة الإسلامية التي تُبَشِّرون بها وتسعون إليها؟"، وأسئلة أخرى، من قبيل: "هل يمكن للخليفة أن يرفع الصليب أو يلبس الطاقية اليهودية إذا وقع اعتداء على الأقليات المسيحية واليهودية كما رأينا رئيسة الحكومة هناك ترتدي الحجاب ويذيعون الأذان في وسائل الإعلام ويفتتحون البرلمان بالقرآن الكريم؟".

اقرأ أيضاً: "الاعتدال والتطرف".. محاولة للفهم والمواجهة
جاءت الافتتاحية في حوالي 3000 كلمة، متضمنة مجموعة عناوين فرعية، نذكر منها: "نيوزيلاندا استثناء علماني"؛ "نيوزيلاندا بعيدة عن الصراع بينما تظهر حقيقة الأخلاق في الصراع"؛ "هل خرجت نيوزيلاندا عن طبيعتها كدولة علمانية ليبرالية ديمقراطية؟"؛ وخلاصة هذه الوقفة النقدية أن "نيوزيلاندا كانت استثناءً حتى في هذا السياق العلماني نفسه الذي لم يجامل المسلمين من قبل بمثل هذه الأمور، وإن لم تكن متناقضة مع الرؤية العلمانية"، قبل أن يتطرق إلى المعالم المتوقعة "للدولة الإسلامية التي ننشدها" [كما نقرأ في العنوان الفرعي الخامس من الافتتاحية].

اقرأ أيضاً: "العقول البيضاء".. خطة الإخوان لصناعة المتطرفين
وجاءت خلاصات النموذج السياسي البديل، ذلك الذي تقترحه الأدبيات الإسلامية الحركية بشكل عام -بما في ذلك العديد من دعاة من يُصطلح عليهم بـ"الدعاة الجدد"- أنّ "النظم القانونية هي مرآة واقع القوة، تتغير وتتبدل بحسب ما تفرض موازنات القوة، بينما النظام الإسلامي يتمتع بحصانة الدين وقوته في نفوس أتباعه. ولهذا بقيت الأقليات في بلاد الإسلام في ذروة قوة الإسلام وقدرته على استئصالها، بينما أبيد المسلمون من مناطق كثيرة مع غلبة عدوهم عليهم (كما في الأندلس وصقلية وكثير من شرق أوروبا وإفريقيا) بل وتتهدد الأقليات المسلمة في الأنظمة التي عناوينها العلمانية والتسامح والتعددية".

ما يهمنا تفاعل علماء ودعاة وأقلام المؤسسات الدينية مع مثل هذه الأدبيات المتطرفة

وبالنتيجة "النموذج الإسلامي الذي نبشر به ونسعى إليه ونكافح لأجله أرقى من النموذج النيوزيلاندي الذي هو نفسه استثناء على أصل السياق العلماني؟!". [في سياق الإحالة السالفة على خطاب "الدعاة الجدد"، تتبعنا بعض حلقات برنامج يقدمه الداعية الكويتي طارق السويدان، خلال شهر رمضان الحالي، وعنوانه "حصاد الفكر"، من باب أخذ فكرة عن أي تحولات أو مراجعات في خطاب الداعية، خاصة أنّنا نعايش تبعات أحداث "الفوضى الخلاقة"، فاتضح، كما جاء ذلك في إحدى حلقات السلسلة، أنّ أمل المسلمين لا يخرج عن تطبيق الحدود، وأنّ هذا التطبيق يندرج في سياق أوسع، عنوانه "تطبيق الشريعة"، وهذه شعارات تميز الخطاب الإسلامي الحركي بشكل عام، تحت عنوان إيديولوجي صريح: "الإسلام هو الحال"].
مما يثير الانتباه في الافتتاحية المطولة، العدة المعرفية لمحرّرها، كما يتضح ذلك من خلال عقد مقارنات بين الأنظمة السياسية العلمانية في الساحة الغربية، والتوقف عند بعض المراجعات التي تطال هذا النموذج، ومنها ما جرى مع حالة نيوزيلاندا، بل نقرأ في الافتتاحية ما يُشبه سفراً تاريخياً في تعامل الدول الغربية، وخاصة الدول الأوروبية، مع تطبيقات مفهوم العلمانية، وعلاقته بالعقل العملي والعقل الأخلاقي وما إلى ذلك، مع ذكر بعض الاعتراضات، من منظور إسلامي حركي، قبل المرور إلى التعريف والدعاية للرؤية الإسلامية الحركية لمفهوم الدولة، وبالتحديد، مفهوم "الدولة الإسلامية"، ولو أنّ هذا المفهوم تعرض لعدة انتقادات وجيهة ورصينة، لن تكون آخرها، مضامين الكتاب الذي ألفه المستشرق الفلسطيني/ الكندي وائل حلاق، وعنوانه: "الدولة المستحيلة"، حيث خلُص مؤلفه إلى أن "مسلمي اليوم يواجهون تحدي التوفيق بين حقيقتين: الأولى هي الوجود الحقيقي للدولة وحضورها القوي الذي لا يمكن إنكاره، والثانية هي الحقيقة الأخلاقية المتمثلة في ضرورة استعادة شكل من حكم الشريعة، ويزيد من صعوبة هذا التحدي أنّ الدولة في الدول الإسلامية لم تقم بالكثير في سبيل إعادة تهيئة أي شكل مقبول من حكم الشريعة الأصلي"، وليس صدفة، كما أشرنا في مقالة سابقة، إلى أنّ أغلب منتقدي كتاب وائل حلاق، ينتمون إلى الحركات الإسلامية، الإخوانية بالتحديد، وخاصة من المغرب وموريتانيا ومصر.

شعوب المنطقة تحلم اليوم بصيانة الدولة الوطنية من هول التحديات المرتبطة بسياقات ما بعد مرحلة "الفوضى الخلاقة"

أمّا أن تكون خاتمة الافتتاحية منتصرة لخيار يميز بشكل عام المشروع الإسلامي الحركي، أي الانتصار "للدولة الإسلامية" (الدينية)، فهذا أمر متوقع، فنحن نتحدث عن مجلة ناطقة باسم تيار إسلامي قتالي (أو "جهادي")، لا يُمارس التقية، وواضح في التعبير عن مشروعه، بل كان واضحاً أيضاً حتى في تطبيق ما يؤمن به، كما عاينا ذلك على أرض الواقع في سوريا والعراق وليبيا ومالي، مع "تطبيق الشريعة" و"تطبيق الحدود" وهدم الأضرحة والزوايا وشنّ الحرب على الأقليات الدينية وما إلى ذلك.
ما يهمنا أكثر في هذا السياق، الاستفسار عن تفاعل علماء ودعاة وأقلام المؤسسات الدينية، من قبيل المؤسسات الدينية العربية، مع مثل هذه الأدبيات؛ هذا هو بيت القصيد الذي يكاد يُثير الأسئلة، من فرط التقاعس الكبير في تحمل هذه المسؤولية العلمية والأخلاقية في آن.

اقرأ أيضاً: هل ينفي العمل السلمي تطرف الإسلام السياسي؟
نقول هذا ونحن نأخذ بعين الاعتبار، أنّ أغلب هؤلاء، يتعاملون مع الوظيفة التي يشغلونها، تعاملاً إدارياً عادياً، إن صح التعبير، بينما الأمر يتعلق بمؤسسة معنية بصيانة "الأمن الروحي" و"الأمن الثقافي" لشعوب المنطقة، بما يقتضي الانخراط النظري والميداني، الكمي والنوعي، في نقد ونقض هذا الخطاب، دون الحديث عن أدبيات باقي الإسلاميين، من الذين لا زالوا يحلمون بإقامة "دولة الخلافة"، أو ينتظرون ما يَصطلحون عليه بـ"القومة" (بتعبير المغربي عبد السلام ياسين والسوداني حسن الترابي) وشعارات من هذه الطينة، ونتحدث عن شعارات أقرب إلى أوهام إن لم تكن كذلك؛ لأنّ شعوب المنطقة تحلم اليوم بصيانة الدولة الوطنية من هول التحديات القائمة والقادمة، والمرتبطة بسياقات ما بعد مرحلة "الفوضى الخلاقة".

اقرأ أيضاً: هل ندرك حقاً الفرق بين التطرف والاعتدال؟‎
صحيح أننا أصبحنا نعاين بعض المبادرات الصادرة عن بعض مؤسسات المنطقة، من قبيل ما يصدر عن مؤسسة الأزهر الشريف في مصر، أو مؤسسة الرابطة المحمدية للعلماء في المغرب، من خلال نشرها بعض الدراسات التي تروم نقد ونقض هذه الأدبيات، ولكن -ونحن نترك جانباً هنا مجموعة من المؤاخذات النقدية على شكل ومضامين هذه الدراسات- تبقى هذه المبادرة متواضعة إن لم نقل متواضعة جداً، مقارنة مع ما هو مطلوب من مُجمل هذه المؤسسات، وما أكثرها في المنطقة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية