بعد تعدّد الجرائم.. هل يمكن تعديل قانون الأحداث؟

مصر

بعد تعدّد الجرائم.. هل يمكن تعديل قانون الأحداث؟


02/11/2019

انشغل الرأي العام المصري، في الأسابيع الماضية، بقضية مقتل محمود البنا؛ حيث كان القاتل يضايق فتاة في الشارع، وحاول الضحية منعه، فما كان من الأول إثر ذلك إلا أن ترصّد له، وبمساندة من بعض أصدقائه، أوسعوه ضرباً بآلات حادة كانت بحوزتهم، ما أدّى إلى مقتله، حدث هذا أمام المارة، ولولا أنّ كاميرات المراقبة بالحي رصدت الحادث بتفاصيله، لنجا الجناة بجريمتهم.
هذه الجريمة، وما صاحبها من رأي عام غاضب، أدّت إلى إصدار مكتب النائب العام بياناً لتهدئة الرأي العام المشتعل، وللتأكيد على المؤكّد؛ وهو أنّ القضاء سينظر في الجريمة وفق قواعد التقاضي المعمول بها، وليس بحسب الإشاعات وآراء الجماهير.

أدّت التغيرات الاقتصادية والمجتمعية وغياب الوعي الاجتماعي والثقافي وانتشار التفكك الأسري إلى زيادة ظاهرة الأطفال المعرضين للانحراف

جريمة بشعة بلا شكّ، غير قابلة للتعويض، لكن ثمة بعض الثغرات في قانون الأحداث الجانحين، تجعل الشاب اليافع مفتول العضلات يرتكب أيّة جريمة وهو آمن من العقوبة الجنائية؛ بدءاً بالسرقة ووصولاً إلى القتل؛ نظراً إلى أنّه لم يستكمل الثامنة عشرة من عمره!
الحدث هو كلّ شخص قاصر لم يبلغ السنّ القانونية، والسنّ القانونية للقاصر غير المميز هي الثلاث عشرة سنة ميلادية، والقاصر المميز هو من لم يتم الثامنة عشرة، و"الحدث الجانح" هو من قام بارتكاب سلوكيات مخالفة للقانون، تتنوع هذه المخالفات، مثل: التسول، أو جرائم الجنح والسرقات البسيطة، لتصل في بعض الأحيان إلى البلطجة والقتل، ولأنّ المجتمع تطوّر ونما بشكل متسارع، فهل الشاب ذو الثامنة عشرة ظل نفسه الشاب صاحب العود الأخضر معدوم الخبرات، أم أنّه أصبح رجلاً مسؤولاً يدرك ذاته ومجتمعه؟

انشغل الرأي العام المصري في الأسابيع الماضية بقضية مقتل الشاب محمود البنا
هذه الثغرة أدّت إلى إهدار دماء شابة على أيدي جناة، اعتبرهم القانون "قاصرين"، ويتعامل المجتمع معهم كأنّهم راشدون! ما يزال المجتمع يتذكر تلك الجريمة البشعة، العام 2015، التي شهدتها محافظة بورسعيد؛ عندما تعرضت الطفلة زينة (5 أعوام) للاغتصاب من قبل ابن حارس العمارة التي تسكنها بمعاونة صديقه، ثم ألقى بها من الدور الحادي عشر، خوفاً من الفضيحة، وأثارت تلك الواقعة كثيراً من الجدل في ذلك العام، ليتم إصدار الحكم النهائي بحبس المتهمين، لمدة 15 عاماً.
كان الرأي العام المصري وقتها، نظراً لبشاعة الجريمة، يرى ضرورة القصاص من المتّهمين بالإعدام علناً، وجاء الحكم بأقصى عقوبة لحدث، وهو الحبس خمسة عشر عاماً، ما أشعرهم بأنّ العدالة لم تتحقق. 
أعادت الجريمة الحالية التساؤل القديم نفسه؛ هل يمكن أن يتحقق العدل في ظلّ قانون يرى الحدث ولا يرى الجريمة؟ أظهرت الفيديوهات المنتشرة قيام الشباب المستهتر بحمل أسلحة بيضاء، وممارسة أعمال البلطجة على الضحية، في صورة مستفزة للجميع، ثم يرتكبون جريمتهم بدم بارد، فهل من الطبيعي أن يتقبل الناس حكماً مخففاً؛ نظراً إلى أنّ القتلة لم يستكملوا عامهم الثامن عشر!

اقرأ أيضاً: "شهيد الشهامة".. ما هي قصة محمود البنا؟
لهذا تعاطف جمهور السوشيال ميديا مع الأم، من باب التساؤل: إن لم ينصف القانون الأم المكلومة في ابنها الشاب فمن ينصفها؟ ومن باب أنّ كلّ الكلمات العاقلة الواعية لن تهدّئ من روعها وهي تشاهد مقاطع الفيديو المصورة التي سجلت الاعتداء على فلذة كبدها، تعاطفوا مع الضحية، محمود البنا، وأطلقوا عليه لقب شهيد الشهامة، وتعالت أصوات البعض تنادي بضرورة وقف نزيف الدم المراق مجاناً في المجتمع، بتعديل التشريع وخفض سنّ الحدث القاصر إلى السادسة عشرة، بدلاً من الثامنة عشرة، وسواء تمّ تعديل القانون أم لا، وسواء أعدم القاتل أم لا، يبقى أنّ هذه الجريمة وغيرها، كشفت ما يعانيه المجتمع المصري من مشاكل.
تهاوي القيم وتغير المفاهيم
كان المجتمع المصري قبل عقدين لا يسمح بمضايقة فتاة الحي، بل يحميها من كلّ مستهتر، وكان يرى البلطجة فعلاً مشيناً، وكلّ بلطجي هو وصمة عار في جبين أسرته، وكان المارّة يساندون أيّ شهم ضدّ أيّ بلطجي، لكن وبفعل التحولات المجتمعية التي روّجت لها بعض الأعمال الفنية من الأفلام والمسلسلات التي تمجد أعمال البلطجة، تدهورت قيم المجتمع، خصوصاً المراهقين، فأصبح التباهي والاستعراض بحمل الأسلحة عملاً غير مستنكر ، كما تغير مفهوم الرجولة من تحمّل المسؤولية إلى القدرة على الاعتداء على الآخر، سواء بالضرب أو القتل.

ثمة ثغرات بقانون الأحداث تجعل شاباً يرتكب جريمة وهو آمن من العقوبة الجنائية
كما أدّت التغيرات الاقتصادية والمجتمعية وغياب الوعي الاجتماعي والثقافي، وانتشار التفكك الأسري، إلى زيادة ظاهرة "الأطفال المعرضين للانحراف"، فدور الأسرة في تكوين شخصية الطفل وتلقينه القيم والمبادئ، وتهيئته نفسياً لأن يمرّ بمرحلة المراهقة بأمان، لكن الأسرة المفككة يتعثر أبناؤها في اجتياز المراهقة بأمان، ومن ثمّ تزداد فرصهم في ارتكاب أعمال مخالفة للقانون، والتورط في أنماط جديدة للجريمة، وتكوين تشكيلات عصابية جديدة منهم، مع زيادة في الجرائم.
ارتفاع معدل القابلية للعنف
من الواضح أنّ الأسباب المجتمعية من انهيار القيم وتحوّل مفاهيم الرجولة والنجدة والنخوة، مع تفكّك الأسر، فضلاً عن التأثيرات المباشرة لتمجيد البلطجية في الدراما المصرية وانتشار الأسلحة النارية، كما سبق آنفاً، والإفراج عن عدد كبير من العناصر الإجرامية "قانونياً"، وشيوع ظاهرة العنف الاجتماعي، أدّى كلّ هذا إلى ارتفاع نسبة الإقبال على ارتكاب الجريمة.

اقرأ أيضاً: صورة البطل "البلطجي" في السينما الأمريكية
فقد زادت معدلات الجريمة في مصر، وفق موقع موسوعة قاعدة البيانات "نامبيو"، في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خلال العام 2017؛ حيث احتلت مصر المركز الثالث عربياً، العام 2016، كما أكّد التقرير الصادر عن قطاع الأمن العام في الحصاد السنوي للجهود الأمنية، ارتفاع مستوى الجرائم بنسبة 5% في 2015، وبنسبة 7% في 2016، و10% مطلع 2017، إضافة إلى زيادة ملحوظة العام ٢٠١٨؛ حيث زادت ٥٪ عن العام السابق، مع القبض على مرتكبي الجرائم والبحث عن آخرين هاربين.
روّجت بعض الأعمال الفنية لتمجيد أعمال البلطجة وتدهور قيم المجتمع

التعاطف دون وعي والجهل بالقانون
أدرك المجتمع المصري بحسّه؛ أنّ هناك عطباً ما منع تحقيق العدالة بشكل كامل، لهذا ينحاز للضحية بشكل غير واعٍ، ويطالب بالقصاص خارج القانون، ويظلّ يضغط حول معاني الجريمة وعدم ملاءمة العقوبة للجريمة بشكل عاطفي، وكان الأولى أن يتم توجيه الرأي العام لطبيعة قانون الاحداث الجانحين؛ فالمادة 111 من قانون الطفل تمنع الحكم بالإعدام على من لم يتمّ 18 عاماً ميلادياً، وقت ارتكاب الجريمة، ومع عدم الإخلال بحكم المادة 17 من قانون العقوبات، إذا ارتكب الطفل الذي تجاوز 15 عاماً جريمة عقوبتها الإعدام أو السجن المؤبد أو السجن المشدّد، يحكم عليه بالسجن، وإذا كانت الجريمة عقوبتها السجن يحكم عليه بالحبس مدة لا تقل عن 3 أشهر.

أليس الأولى الاستفادة من الزخم الشعبي في إعادة النظر بقانون الأحداث الجانحين؟

ويجوز للمحكمة بدلاً من الحكم بعقوبة الحبس أن تحكم على المتهم بالتدبير المنصوص عليه في البند 8 من المادة 101 من هذا القانون، أما إذا ارتكب الطفل الذي تجاوز 15 عاماً جنحة معاقباً عليها بالحبس، جاز للمحكمة، بدلاً من الحكم بالعقوبة المقررة له، أن تحكم بأحد التدابير المنصوص عليها في البنود 5 و6 و8 من المادة 101 من هذا القانون، وتتشكّل محكمة الأطفال من 3 قضاة، ويعاونهم خبيران من الأخصائيين؛ أحدهما على الأقل من النساء، ويكون حضورهما لإجراءات المحاكمة وجوبياً.
فإذا كانت هذه النصوص لا تحقق العدالة؛ فلا تجب المطالبة بالقصاص خارج إطار القانون أبداً، بل الأولى الاستفادة من الزخم الشعبي في إعادة النظر في قانون الأحداث الجانحين نفسه.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية