كيف انتقلنا من المساواة في الفقر إلى اللامساواة في الثروة؟

الفقر

كيف انتقلنا من المساواة في الفقر إلى اللامساواة في الثروة؟


07/11/2019

رغم أنّ العالم يبدو أكثر ثراءً من أي وقتٍ مضى، إلّا أنّه أكثر لامساواة من أيّ وقت مضى؛ فالفقر في تعريفه يبدو مؤدلجاً ومطّاطاً، على عكس اللامساواة التي يمكن قياسها بالأرقام والعوامل التي لا تقبل النقاش.
فبعد 10 أعوام على انقضاء الأزمة المالية العالمية، ينتظر الجميع جني ثمار النمو العالمي المتزايد، إلّا أنّه ثبت أنّه نمو في ثروات الأغنياء فحسب.
ناقوس الخطر
في كتابه "خطر اللامساواة: كيف يعرض عالم اليوم بانقسامه مستقبلنا للخطر"، يُقدم الاقتصادي الأمريكي والمستشار السابق لرئيس البنك الدولي، جوزيف ستيغليتز، نقداً لعالم اليوم غير المتكافئ، ويستعرض النموذج العالمي للامساواة، وفي القلب منه الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعدّ قلعة الدول المتقدمة الأكثر في عدم التكافؤ واللامساواة.

رغم أنّ العالم يبدو أكثر ثراءً إلّا أنّه أكثر لامساواةً من أيّ وقتٍ مضى

ويشير ستيغليتز بأصابع الاتّهام إلى سياسات الاقتصاد العالمي، التي تعزّز هذا النمط، الذي يقوض الاقتصاد بشكل عام، ويستعرض النرويج وفرنسا كنموذج ناجح على سياسات تدعم فرص المساواة، وهو ما انتهجته البرازيل في الألفية الأخيرة، مشيداً بهذا النموذج الذي أنقذ البلاد من براثن أسوأ أشكال الفقر والعنف.
وعلى عكس فتيان شيكاغو، الذين لطالما طالبوا الدولة بالانسحاب الفوري من الاقتصاد، يحبّذ ستيغليتز أن تفرض الدولة وجودها على القطاع الخاص في تعزيز الفرص التعليمية والصحية، والبنية التحتية التي تعتمد على الضرائب، مشيداً بنموذج الدول الإسكندنافية التي طبقت تلك الخطوات على طريق كفاحها ضدّ اللامساواة؛ إذ يتشابه ما نعيشه اليوم من عدم تكافؤ، بالشذوذ التاريخي الذي وقع في القرن التاسع عشر، ولكن ما يقدمه توماس بيكيتي، في كتابه "رأس المال في القرن الواحد والعشرين"، يبشر بأننا سنبقى طويلاً في تلك الهوة من اللامساواة.

كتاب "خطر اللامساواة: كيف يعرض عالم اليوم بانقسامه مستقبلنا للخطر"

يدحض ستيغليتز نظرية التقطير للأسفل، أو (Trickle Down Economics)، موضحاً أنّ ما يشهده العالم من انعدام مساواة، أكبر ردّ على هذه الأكذوبة التي تحاول الحكومات أن تخدّر بها شعوبها المتألمة تحت وطأة الاستغلال وعدم تكافؤ الفرص، وتعني تلك النظرية، أنّ زيادة رؤوس أموال الأغنياء واستثماراتهم، إنّما هو لمصلحة الطبقات الأقل، وسينالهم حظّ من التحسّن المعيشي. 

يشير ستيغليتز بأصابع الاتّهام إلى سياسات الاقتصاد العالمي التي تعزّز هذا النمط

تتخطى أطروحة ستيغليتز في اللامساواة القضية الأخلاقية؛ فهي لم تعد كذلك، وإنّما هي أزمة اقتصادية، تخنق بها الرأسمالية نفسها، وتسارع من انهيارها، حتى بكلام البنك الدولي الذي يرى أنّ البلدان التي تتمتع بقدر أكبر من اللامساواة هي الأكثر اضطراباً على مستوى الأداء الاقتصادي، فيما تردّ عليهم الدراسة، بأنّ النموّ الضعيف والأداء السيئ ليس إلّا صوت اللامساواة الذي يغضّ السياسيون الطرف عنه، فأول الأزمات التي تُخلق؛ هي ضعف الطلب من الأغلبية، يكون الردّ عليها بخفض أسعار الفائدة، والذي يخلق بدوره فقاعة ستنفجر حتماً في صورة ركود وهو التطور لما نشهده اليوم؛ فالأمر ليس خطراً حالياً فحسب؛ بل هو جرس إنذار لمستقبل أكثر صعوبة، لن تنجو منه الولايات المتحدة ولا أوروبا.
فجوة تتّسع
وفق تقرير الصندوق الدولي للتنمية الزراعية، العام 2011، فإنّ 1.4 مليار شخص حول العالم محاصرون في فقر مدقع كلهم في الدول النامية، كما عمل التقرير على قياس الفجوة بين الدول، ليجد أنّ الفجوة بين متوسط دخل مواطن في النرويج يمثل 496 ضعف متوسط دخل مواطن في بوروندي الأفريقية.

1.4 مليار شخص حول العالم محاصرون في فقر مدقع كلهم في الدول النامية

ويشير التقرير إلى أنّ هذه الفجوة حديثة النشأة؛ فرغم أنّنا لا نملك مؤشرات دقيقة لقياس الفجوة في الماضي، إلّا أنّ هذا التسارع في الفجوة لا يحتاج لمؤشرات، ويقدم كتاب "إكسفورد" لتاريخ الفقر، المنشور العام 2016، دراسة اقتصادية لقياس الفقر في المستعمرات القديمة، في أفريقيا وآسيا وأمريكا الشمالية، ليجد أنّ أشكال الفقر في تلك المناطق، كانت الأكثر حدة على مستوى العالم.
في هذا الصدد، تقول أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر، الدكتورة محيا زيتون: "ليس الفقر بالأمر الجديد ليمكننا قياسه، إنّنا اليوم نقيس معدل الفجوة واللامساواة ليس فقط بين الأشخاص، إنما بين الدول وبعضها، وكلّها تصبّ في صالح الرأي القائل باتساع الفجوة، رغم وجود مدارس تتكلم عن انخفاض معدلات الفقر".

اقرأ أيضاً: المناخ يتسبب بفصل عنصري بين الفقراء والأغنياء.. كيف ذلك؟

الفجوة واللامساواة ليس فقط بين الأشخاص إنما بين الدول

وتستطرد قائلة، لـ"حفريات": "هذا ليس صحيحاً، إنّما الأدقّ؛ أنّنا اليوم في عالم يمكن أن يمتلك فيه الفقير هاتفاً ذكياً، دون أن يمتلك خدمة صحية أو تعليمية، فهل نستطيع القول إنّه ليس فقيراً؟ يتجلى لنا اتساع الفجوة بعد الأزمة المالية العالمية، وها قد مرّت عشرة أعوام، تضاعف فيها أصحاب المليارات، فأغنياء اليوم أغنى من أيّ وقت مضى، بينما ما تزال نصف البشرية غارقة في الفقر، ومع ذلك فالأثرياء هم الأقل دفعاً للضرائب، التي يجب أن توجه للخدمات العامة، وحتى هذه الخدمات اليوم أصبحت ملكاً للشركات الخاصة، التي لا تعرف غير الرّبح ديناً لها، كلّ هذا قد تضاعف وتفاقم بعد الأزمة المالية العالمية، والتي يظهر لنا أنّها كالمعتاد أتت أكُلها للأغنياء فقط".

اقرأ أيضاً: هل هناك علاقة بين التدين والمجتمعات الأشد فقراً؟
وبالنظر إلى تقرير اللامساواة العالمي، للعام 2018، فإنّه، ومنذ الثمانينيات من القرن الماضي، تتصاعد معدلات اللامساواة في أمريكا والصين وأوروبا، وصولاً إلى الشرق الأوسط الذي تشارك نسبة 10% فقط من سكانه في 61% من الناتج المحلي الإجمالي، العام 2016، وهي أكثر نسبة عالمية أوردها التقرير، متفوقة على الهند والصين.

"تقرير اللامساواة العالمية 2018"

هل ثمة انقلاب مؤسسي؟
خلق النظام الرأسمالي المؤسسات التي تعمل لصالحه، وتعزّز نموّه المزعوم، لكن بالنظر إلى ما يبدر من تلك المؤسسات مؤخراً، هناك تغيّر ملحوظ في الخطاب؛ ففي أيلول (سبتمبر) الماضي، صرّح السير أنجوس ديتون، الحائز على نوبل في الاقتصاد، والذي يقود منذ خمسة أعوام مجموعة للعمل على دراسة اللامساواة بمعهد الدراسات المالية في لندن، بقوله: "هناك شعور بأنّ الرأسمالية المعاصرة لا تعمل من أجل الجميع".

محيا زيتون: اليوم يمكن أن يمتلك فيه الفقير هاتفاً ذكياً بلا خدمة صحية أو تعليمية

ويوضح ديتون أنّ بريطانيا هي أكثر الدول في عدم التكافؤ بالنسبة لأوروبا، إلّا أنّ هناك مدناً تعمل بشكل أفضل، كما يرى أنّ ارتفاع معدلات الثروة في أوروبا، العام 2016، إلى أرقام قياسية لم تبلغها من قبل، هو السبب الحقيقي لصعود الشعبوية، والتي ستقلب الطاولة على الجميع، فقديماً اعتقد الاقتصاديون أنّ النمو الاقتصادي القوي هو الترياق الفعّال لداء اللامساواة، ما دام هؤلاء يدفعون ضرائبهم، فزيادة حجم الكعكة، يعني أنّ كلّ شخص له نصيب أكبر، وهو ما نجح بالفعل في فترات التحول كبداية، حتى يصل إلى ذروة الأزمة، التي شهدها العالم في الكساد العالمي 1929 و2008، والأزمة القادمة التي يتنبأ بها جميع الاقتصاديين.

يوضح ديتون أنّ بريطانيا هي أكثر الدول في عدم التكافؤ بالنسبة لأوروبا

هنا تستكمل زيتون حديثها: "قبل السبعينيات، انحصرت أزمة اللامساواة بين البلدان النامية (المُستعمرات)، والمتقدمة (الصناعية)، لكنّها اليوم في قلب تلك البلدان، تضرب المجتمع الأوروبي، ونموذج دولة الرفاه، خاصة الأمريكية، وهو في اتساع دائم؛ لأنّ اللامساواة ليست فقط في الدخول، وإنّما في الخدمات العامة المتاحة للجميع، والضرائب التصاعدية التي لا يدفعها الكثير من الأثرياء، وانسحاب الدولة من الرعاية الأساسية، والذي بدأ يتخذ أشكالاً أكثر عنفاً كما حدث في فرنسا مؤخراً (السترات الصفراء)"، وبقدر ما يعيش البشر أزهى عصور التطور التقني الذي وصلوا إليه يوماً، لا يجد مئات الملايين من الأطفال حول العالم قوت يومهم، ربما يموتون جوعاً، وهو ما يتنبَّأ بمستقبل غير آمن لأجيال جديدة حُرمت حاجياتها الأساسية، ومن نجا منهم ربما لن يستطيع أن يعيش حياته بشكل طبيعي.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية